-
℃ 11 تركيا
-
23 مارس 2025
د. أميرة فؤاد النحال تكتب: تفجير المشهد في غزة.. الاحتلال بين خرق الاتفاق وارتداد المعادلة
د. أميرة فؤاد النحال تكتب: تفجير المشهد في غزة.. الاحتلال بين خرق الاتفاق وارتداد المعادلة
-
22 مارس 2025, 9:49:09 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
صورة أرشيفية
بعد أسابيع من محاولات تثبيت التهدئة، يُعيد الاحتلال تفجير المشهد في غزة، ضارباً بعرض الحائط أي التزامات سابقة، ليؤكد مجدداً أنه الجهة الوحيدة التي لا تؤمن إلا بمنطق القوة والعدوان، وأنّ هذا الخرق الجديد للاتفاقات ليس مجرد تصعيد عابر، بل خطوة تحمل تداعيات خطيرة، حيث جاء في سياق مدروس، يحمل في طياته حسابات سياسية وأمنية معقدة قد تُعيد رسم معادلات الصراع وميزان الردع، وحيث أنّ المقاومة التي صمدت لأكثر من خمسة عشر شهراً في مواجهة أعتى أشكال البطش، فإنها ليست في موقع المُتلقّي، بل في موقع الفاعل القادر على فرض قواعد اشتباك جديدة، ومع استمرار العدوان تبقى الاحتمالات مفتوحة، من اتساع رقعة المواجهة إلى تغيرات استراتيجية تفرض نفسها على الاحتلال وحلفائه.
فإلى أين يتجه المشهد؟ وما السيناريوهات المحتملة في ظل هذا التصعيد؟
منذ اللحظة الأولى التي أُبرم فيها الاتفاق، لم يُظهر الاحتلال التزاماً حقيقياً ببنوده، بل تعامل معه كمرحلة مؤقتة لإعادة ترتيب أوراقه على الأرض، وفي ظل عجزه عن تحقيق أهدافه العسكرية طوال أكثر من خمسة عشر شهراً من العدوان، وجد في التصعيد فرصة جديدة للهروب من أزماته الداخلية ومحاولة فرض معادلات جديدة بالقوة.
القرار الصهيوني بتجديد العدوان لم يكن مفصولًا عن المشهد السياسي المتأزم داخل كيان الاحتلال، فحكومة نتنياهو التي تواجه ضغوطاً متزايدة من عائلات الأسرى والجنود المحتجزين لدى المقاومة، ومن المعارضة السياسية التي تتهمه بالفشل في إدارة الحرب، وجدت في التصعيد العسكري مخرجاً مؤقتاً من مأزقها الداخلي، وأُرجح أيضاً سعى الاحتلال إلى اختبار صبر المقاومة، وقياس مدى استعدادها لمواصلة المواجهة، ظناً منه أن الشهور الطويلة من القصف والحصار قد أنهكتها.
أما توقيت الخرق، فهو يأتي في لحظة فارقة، حيث تتزايد الضغوط الدولية لإنهاء الحرب، وتتصاعد الأصوات داخل كيان الاحتلال بضرورة التوصل إلى صفقة تبادل أسرى، وهو ما جعل نتنياهو يلجأ إلى التصعيد كوسيلة لتعقيد الموقف، وتأجيل أي تسويات قد تُفرض عليه سياسياً، وأمام هذا المشهد اختارت "إسرائيل" الهروب إلى الأمام عبر تفجير المشهد مجدداً، لإفشال أي مساعٍ دولية قد تفرض عليها شروطاً لا ترغب بها، ولتحقيق مكاسب تكتيكية على الأرض، ولو على حساب استمرار نزيف الدم الفلسطيني، لكن وكما أثبتت التجارب السابقة فإن حسابات الاحتلال غالباً ما ستصطدم بصخرة المقاومة، التي لم تكن يوماً عاجزة عن قلب الطاولة وتغيير المعادلات.
وعلى الرغم من كثافة الضربات وترسيخ الاحتلال لعدوانه، تظل المقاومة في غزة نموذجاً للصمود والرد الحاسم، ففي قلب هذا التصعيد تكمن قدرة المقاومة على امتصاص الضربات، إذ تتعامل مع المحاولات العنيفة لكسر إرادتها بأساليب غير تقليدية تركز على المرونة وتحديث أساليب الدفاع والهجوم، وتُعد القدرة على صمود المقاومة ليس مجرد مسألة قوة عسكرية، بل هي انعكاس لإرادة أهل غزة جميعاً الذين أثبتوا أنهم لا يقبلوا الانكسار أو الخنوع أمام العدوان.
وعلى صعيد المقاومة الفلسطينية؛ لم يكن ردها على خرق الاحتلال للاتفاق مجرد خطوة رمزية، بل جاء مدروساً بعناية ضمن استراتيجية شاملة تهدف إلى فرض معادلة ردع جديدة، تُرغم الاحتلال على دفع ثمن عدوانه، وتوسّع دائرة المواجهة بما يتجاوز حدود غزة، حيث استخدمت المقاومة في هذا الرد مجموعة من الأدوات والتكتيكات التي تعكس تطور قدراتها العسكرية وتكاملها مع جبهات أخرى في المنطقة، ومن أبرزها:
1. القصف الصاروخي المركز على عمق الاحتلال
عندما بادرت كتائب القسام بقصف "تل أبيب" برشقة صاروخية، كان ذلك بمثابة رسالة واضحة بأن المقاومة لن تسمح للاحتلال بالتمادي دون رد، وهذه الخطوة تعكس أمرين مهمين: الأول هو القدرة المستمرة على الضرب في العمق رغم مرور أكثر من 15 شهراً على الحرب، وهو دليل على فشل الاحتلال في تحييد القوة الصاروخية للمقاومة، والثاني هو اختيار أهداف استراتيجية، مثل تل أبيب، يهدف إلى إحداث صدمة لدى الاحتلال، وزيادة الضغط على حكومته من قبل الجبهة الداخلية.
2. تنسيق الضربات مع جبهات إقليمية (دخول اليمن على خط المواجهة)
إحدى أهم التطورات في هذه المواجهة كانت الضربة التي وجهها الجيش اليمني (أنصار الله) إلى عمق الاحتلال، ما يعني أن المعركة لم تعد مقتصرة على غزة وحدها، بل أصبحت جزءً من صراع إقليمي واسع، وهذا يعزز عدة نقاط لصالح المقاومة أهمها: تشتيت جهد الاحتلال عسكرياً بين عدة جبهات، مما يجعله غير قادر على تركيز عملياته ضد غزة فقط، بالإضافة لتوسيع نطاق الردع بحيث يدرك الاحتلال أن أي تصعيد في غزة قد يؤدي إلى رد من جهات أخرى، وهو ما يُعقد حساباته الاستراتيجية.
3. التصعيد التدريجي لاستنزاف الاحتلال
المقاومة لا ترد دفعة واحدة بأقصى ما لديها، بل تعتمد نهج التصعيد التدريجي، حيث تبدأ بضربات محسوبة، ثم تزيد وتيرتها بناءً على رد فعل الاحتلال، هذه الاستراتيجية تمنح المقاومة عدة مزايا منها: إبقاء الاحتلال في حالة إرباك دائم، فلا يستطيع التنبؤ بمستوى التصعيد المقبل، وإعطاء فرصة للجهود السياسية للضغط على الاحتلال لوقف التصعيد، مع الاحتفاظ بحق توسيع الرد.
ما حدث خلال الساعات الماضية يؤكد أن المقاومة لا تعمل بردود فعل عشوائية، بل وفق استراتيجية مدروسة تهدف إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية: إفشال رهانات الاحتلال، تعزيز معادلة الردع، وإبقاء زمام المبادرة بيدها، حيث أنّ الاحتلال ظنّ أن بإمكانه خرق الاتفاق دون تكلفة، لكن المقاومة أثبتت أن أي تصعيد لن يمر دون رد، وأن الجبهة لم تعد مقتصرة على غزة وحدها، بل باتت جزءًا من معركة إقليمية أوسع.
هُنا تزداد التساؤلات حول المسار الذي قد تأخذه المواجهة في الأيام المقبلة، فهل يتجه التصعيد نحو حرب شاملة؟ أم أن الضغوط الدولية والإقليمية ستفرض تهدئة جديدة؟ أم أن المشهد سيظل عالقاً في دائرة الضربات المتبادلة دون حسم؟
ترى الكاتبة أننا أمام عدة سناريوهات، هي كالتالي:
السيناريو الأول: توسع المواجهة نحو حرب شاملة
إذا استمر الاحتلال في تصعيد عدوانه، خاصة عبر توسيع عمليات القصف وشن اجتياحات أوسع، فقد تجد المقاومة نفسها مضطرة للانتقال إلى مرحلة الرد الأوسع، وهو ما قد يؤدي إلى حرب شاملة تمتد لأسابيع أو ربما أكثر، وفي هذا السيناريو، ستلجأ المقاومة إلى تكثيف الضربات الصاروخية على المدن الصهيونية الكبرى، وربما استخدام تكتيكات جديدة مثل الهجمات بالطائرات المسيّرة والعمليات النوعية خلف خطوط العدو.
السيناريو الثاني: تدخلات إقليمية ودولية لاحتواء التصعيد
في ظل تصاعد التوتر، قد تتدخل جهات دولية وإقليمية لمحاولة كبح التصعيد ومنع تحوله إلى حرب واسعة، مثلاً الولايات المتحدة التي تدعم الاحتلال بلا شروط، قد تجد نفسها مضطرة لممارسة ضغوط على "إسرائيل" إذا رأت أن استمرار القتال يهدد مصالحها في المنطقة أو يزيد من الانتقادات الدولية ضدها، وإقليمياً قد تلعب بعض الدول العربية دور الوسيط، سواء عبر مصر التي عادة ما تتدخل في مثل هذه الأزمات، أو من خلال قطر التي سبق أن رعت اتفاقيات تهدئة بين المقاومة والاحتلال، ولكن فعالية هذه التدخلات ستعتمد على مدى استعداد الطرفين للتهدئة، خاصة أن الاحتلال قد يرى في التصعيد فرصة لتحقيق مكاسب سياسية داخلية، بينما ترى المقاومة أن أي تهدئة جديدة يجب أن تكون بشروط تضمن وقف العدوان وكسر الحصار.
السيناريو الثالث: استمرار المواجهة على شكل ضربات متبادلة دون تهدئة حقيقية
الخيار الثالث، وهو الأكثر ترجيحاً في المرحلة الحالية، هو أن يستمر التصعيد على شكل ضربات متبادلة دون الوصول إلى حرب شاملة أو تهدئة كاملة، وفي هذا السيناريو سيواصل الاحتلال قصفه لغزة، مع استهداف مواقع محددة، بينما ترد المقاومة بضربات صاروخية على المدن الصهيونية، دون أن تصل المواجهة إلى مستوى الحرب المفتوحة، وهذا النوع من المواجهة قد يستمر لأيام أو أسابيع، حيث يحاول كل طرف فرض شروطه دون الانجرار إلى معركة طويلة الأمد.
في المجمل؛ المشهد في غزة مفتوح على كل الاحتمالات، لكن المؤكد أن الاحتلال لم يعد قادراً على فرض معادلاته دون رد، والمقاومة أثبتت أن لديها من الأوراق ما يكفي لردع أي عدوان جديد، وستكون الأيام القادمة ستكون حاسمة في تحديد الاتجاه الذي ستسلكه المواجهة، لكن بغض النظر عن السيناريو الذي سيتحقق، فإن غزة، كما في كل مرة، ستظل عنواناً للصمود، والاحتلال هو الذي سيدفع ثمن مغامراته العسكرية والسياسية.
هُنا تزداد التداعيات مع كل غارة صهيونية على غزة، والتي تتجاوز ساحة المعركة لتصل إلى عمق المشهد السياسي والعسكري في "إسرائيل" والمنطقة، فالعدوان الحالي لا يقتصر على استهداف غزة فقط، بل يرتد على الاحتلال نفسه، ويضعه أمام تحديات قد يكون من الصعب احتواؤها، ويأتي تأثير التصعيد على المشهد الداخلي في "إسرائيل" في أنّ العدوان المستمر على غزة لا يمكن فصله عن الأزمة السياسية العميقة التي تمر بها "إسرائيل"، فحكومة بنيامين نتنياهو التي تواجه ضغوطاً غير مسبوقة من المعارضة والشارع الصهيوني تعيش حالة من التخبط، حيث بات التصعيد العسكري وسيلتها الوحيدة لتأجيل الاستحقاقات الداخلية، لكن هذا الرهان قد ينقلب عليها، خاصة إذا استمرت المقاومة في توجيه ضرباتها للمدن المحتلة، مما سيزيد من حالة الفوضى والانقسام داخل إسرائيل، فالمظاهرات ضد الحكومة لم تهدأ، والاحتجاجات التي تقودها عائلات الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى المقاومة تتصاعد، وهو ما يضع نتنياهو في موقف حرج، لأنه كلما تأخر في التوصل إلى صفقة تبادل، زاد الضغط الداخلي عليه، لكن في الوقت نفسه، أي اتفاق مع المقاومة بشروطها سيُنظر إليه على أنه هزيمة سياسية له ولحكومته.
من ناحية أخرى يأتي ارتداد المعادلة على الاحتلال من عدة نواحي: الأسرى، الجبهة الداخلية، والعلاقات الدولية، فلم يعد الاحتلال قادراً على خوض حرب دون أن يدفع ثمناً باهظاً، كما أنّ المقاومة فرضت معادلة جديدة جعلت كل تصعيد يقابله رد أكثر تعقيداً على "إسرائيل" نفسها، ففي ملف الأسرى: الذي يُعتبر من أكبر المعضلات التي يواجهها الاحتلال، حيث لا تزال المقاومة تحتجز جنوداً وضباطاً صهاينة منذ بدء الحرب، وكلما طال أمد العدوان، زاد القلق داخل "إسرائيل" حول مصيرهم، خاصة مع التهديدات المتكررة من المقاومة بأنهم قد يكونون أول الضحايا في حال استمر القصف.
وعلى صعيد الجبهة الداخلية الإسرائيلية: رغم محاولة الاحتلال إظهار تماسكه، إلا أن الواقع مختلف، فعمليات الإخلاء المستمرة للمستوطنات القريبة من غزة، والشلل الذي أصاب "تل أبيب" بعد قصفها، والخوف المتزايد من عمليات مقاومة داخل الضفة والداخل المحتل، كلها عوامل تعكس حجم الأزمة التي يعيشها الاحتلال.
أما على صعيد العلاقات الدولية: فـ "إسرائيل" بدأت تفقد بعض الغطاء الدولي الذي طالما وفرته لها الدول الغربية، فمع تصاعد أعداد الشهداء والدمار في غزة، يزداد الضغط على الحكومات الغربية لاتخاذ مواقف أكثر توازنًا، حتى لو كان ذلك مجرد تصريحات، كما أن بعض الدول التي كانت تميل إلى التطبيع مع الاحتلال بدأت تراجع حساباتها خوفًا من ردود فعل شعوبها.
ورغم القوة العسكرية الهائلة التي يمتلكها الاحتلال، إلا أن عدوانه الحالي يحمل في طياته بوادر انتكاسة سياسية وعسكرية، فـ "إسرائيل" ليست كما كانت قبل هذه الحرب، والمقاومة أثبتت أنها ليست مجرد طرف يتلقى الضربات، بل قوة قادرة على تغيير قواعد اللعبة، سنرى أنّ الأيام القادمة قد تشهد المزيد من التصعيد، لكن المؤكد أن الاحتلال لن يخرج من هذه المعركة كما دخلها، بل سيواجه ارتدادات قاسية قد تعيد تشكيل المشهد بالكامل، وفي ظل هذا المشهد، سيبقى السيناريو الأكثر ترجيحاً هو استمرار التصعيد على شكل ضربات متبادلة، مع محاولات إقليمية ودولية لاحتواء المواجهة، ولكن أي تهدئة مستقبلية لن تكون كالسابق، فالمعادلة تغيرت، والشروط التي ستُفرض هذه المرة ستكون مختلفة، حيث أثبتت المقاومة أن غزة ليست الحلقة الأضعف، بل رقم صعب في معادلة الصراع.
أما الاحتلال، فإنه يواجه ارتدادات قاسية، سواء على مستوى الجبهة الداخلية، أو ملف الأسرى، أو التراجع الدولي في دعمه، ومع استمرار الحرب سيزداد الضغط عليه، وستتفاقم أزماته، مما قد يدفعه إما نحو تصعيد أعمق قد لا يملك السيطرة على نهايته، أو نحو قبول تهدئة بشروط تفرضها المقاومة وليس العكس، في النهاية، وكما في كل مواجهة، غزة باقية وصامدة، والمقاومة مستمرة -بإذن الله- والاحتلال هو الذي سيدفع الثمن، فالعدوان مهما اشتد لن ينجح في كسر إرادة شعب يؤمن بحقه، ولا في تغيير معادلة رسمتها التضحيات والمقاومة، والمرحلة المقبلة ستكون اختباراً حقيقياً لقدرة الاحتلال على الاستمرار في حربه، ولإرادة المقاومة في فرض واقع جديد، لا يقوم على مجرد رد الفعل، بل على تثبيت معادلات تُجبر الاحتلال على إعادة حساباته، ليس فقط في غزة، بل في كل فلسطين.





