تكبير الخط تصغير الخط

قبل أكثر من عقد، خرجت الأصوات تصرخ باسم الحرية، ظنّ الناس أن البلاد يمكن أن تتغير، أن بإمكانهم أن يتخلصوا من الجلاد ليعيشوا حياة تليق بهم. لكن مع الوقت، تاهت الثورة بين من حملها بإخلاص ومن حوّلها إلى وسيلة للثأر، بين من أراد العدالة بصدق ومن بحث عن الانتقام، بين من ظنّ أن التغيير ممكن ومن ظنّ أن الخراب هو الحل الوحيد.

للأسف كما نرى اليوم ليس هناك انتصار حقيقي، بل جراح متراكمة. كل طرف يرى نفسه مظلومًا، وكل طرف يعتقد أن الآخر هو الظالم. وما بين هؤلاء وأولئك، ضاعت الحقيقة، وابتلعت الفوضى أصوات العقلاء، وصار السوري يتساءل: لمن أنتمي؟ أين الصواب؟ هل كنت محقًا؟ أم كنت مجرد وقود في معركة أكبر مني ؟

كانت سوريا تملك من الثروات ما يكفي لتعيش أجيالها بكرامة، لكنها اليوم تُنهب علنًا، وكل طرف يبرر لنفسه هذا النهب. النفط صار بيد القوى الكبرى، المعامل أُفرغت، الأراضي الزراعية صارت إما محترقة أو غير مستغلة، والذهب الذي كان مدفونًا في باطن الأرض لم يعد لأهل الأرض.

لم يعد هناك شيء ملك السوريين. حتى تراب البلاد، حتى الأنقاض، حتى الأحلام التي وُعدوا بها، كلها سُرقت. وما زال الناس يتساءلون: لمن هذه البلاد؟ لمن ستؤول؟ وهل سيأتي يوم نستعيد فيه ما كان لنا؟

وسط هذا الخراب، تحاول الحكومة المؤقتة جاهدة ترتيب علاقاتها الدولية، وكأن الداخل مستقر، كأن الناس لم تعد تحتاج إلى من يسمعها. يتحدثون عن اتفاقيات وتفاهمات، و مستقبل، لكن أي مستقبل الذي يتحدثون به بينما البلاد تتفتت من الداخل؟ كيف تُبنى دولة دون شعب مؤمن بها وبعدالتها؟ وكيف نتحدث عن الاستقرار بينما الفقر يلتهم كل شيء، والمجتمع يزداد هشاشة، مستعدًا للانفجار في أي لحظة؟

إنها لعبة السياسة القذرة ،حيث يصبح المواطن مجرد أرقام، ويكون الجلوس إلى طاولة المفاوضات أكثر أهمية من أصوات الأطفال الجائعين، حيث تُكتب البيانات الرسمية بلغة لا تشبه لغة الشوارع المدمّرة، و تكون الدبلوماسية أهم من العدالة، وأهم من الحقيقة.

سوريا لم تكن يومًا بلدًا طائفيًا كما يحاول البعض تصويرها، لكنها اليوم على حافة كارثة. كل هذا الخراب جعل الناس يبحثون عن هوية تحميهم، عن طائفة تؤمّنهم، عن جماعة تعطيهم شعورًا بالانتماء في وطن لم يعد يحتويهم. الفقر، النزوح، الظلم، الشعور بالخيانة، كلها عوامل تدفع الناس نحو التطرف، نحو الانغلاق، نحو الحقد.

وإذا لم يُتدارك الأمر، إذا لم يتوقف التحريض ويُسمح للناس أن تشعر بالأمان، فإن الحرب القادمة لن تكون بين نظام ومعارضة، بل بين الأخ وأخيه، بين الجار وجاره، بين من عاشوا يومًا تحت سقف واحد، وها هم اليوم يتقاتلون لأن أحدهم صار يرى الآخر تهديدًا لوجوده.

ماذا بقي للسوريين بعد كل هذا؟ لا شيء سوى الذاكرة، سوى القصص التي يرويها الناجون، سوى الحنين إلى أيام كانوا فيها سوريين فقط، بلا تصنيفات، بلا أحقاد، بلا مخاوف.

لكن هل يكفي الحنين ليبني وطنًا؟ هل يكفي أن نتذكر سوريا كما كانت؟ أم أننا بحاجة إلى أن نقرر: هل نريد البقاء في الماضي، في الثأر، في الخراب؟ أم نريد أن نصنع شيئًا جديدًا، أن نكتب قصة جديدة، أن نتجاوز الحرب قبل أن تبتلعنا جميعًا؟

السؤال يبقى معلقًا، والإجابة ليست سهلة، لكنها تبدأ من الاعتراف بالحقيقة: سوريا لا تحتاج إلى منتصر، سوريا تحتاج إلى من يعيد بناءها، لا من ينتقم، لا من ينهب، لا من يُشرّع القتل، بل من يؤمن بأن الحياة لا تزال ممكنة، رغم كل شيء.