- ℃ 11 تركيا
- 22 ديسمبر 2024
أحمد سراج يكتب : أنا ابن حضارتين .. رسالة من كريم العنصرين
أحمد سراج يكتب : أنا ابن حضارتين .. رسالة من كريم العنصرين
- 4 يونيو 2021, 11:57:24 م
- 1025
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
ما الفرق بين دوافع المصري – خصوصًا – وغاياته، وبين دوافع الآخرين وغاياتهم؟ هذا سؤال سيضعي في مرمى النار بتهم أقلها: العنصرية، والتصنيف غير العلمي والانحياز.. لكنني أرى أن المصري ما زال عارفًا بجذوره متمسكًا بها، واعيًا بواجباته وباحثًا عن حقوقه دون تفرقة بين القضية والمشكلة.. فحدود مصر لا تقل عنده على توفير متطلباته الأساسية.. وربما هذا كان أحد أسباب عظمته؛ فحين ذهب المصري القديم ليعمل كي يوفر قوت يومه بنى الأهرام والمعابد.. إنه المتفائل الرائي النور رغم العتمة.. وسأبدأ اليوم بحكاية نجيب محفوظ وكلمة نوبل.
(1)
"أنت كل أسبابي" قالها جون ناش في كلمته أثناء مراسم تسلمه نوبل عام 1994 في الاقتصاد عن إسهاماته في نظرية الألعاب واستثماره لأطروحات آدم سميث قالها وهو ينظر لزوجته "إليشيا ناش".. هذه اللحظة التي جسدها ببراعة راسل كرو فيلم العقل الجميل فيلم الحائز على أربع جوائز مستحقة، وفاتت منه عدة جوائز مستحقة، تمثل جزءًا أصيلا من حضارة الغرب؛ فالدوافع والحوافز قريبة جدًّا والجذور ليست بعيدة كثيرًا.. هنا ناش مدين لزوجته التي وقفت إلى جواره ليجتاز محنة الفصام، والانكسار والانزواء بعد بريق اسمه.. لكن ما انتماء ناش الوطني.. أين ظهر ذلك في كلمته..
(2)
لكن المصري المنتصر يختلف – ولكل ميزته وامتيازه – قبل ناش بستة أعوام ألقيت كلمة نجيب محفوظ في القاعة نفسها، لكن الأمور مختلفة تمامًا فعلى حين لم يهتم كثيرون بحصول ناش أو غيره من العلماء بجائزة نوبل..جاء فوز محفوظ حدثًا فارقًا للكتابة المصرية؛ فها هو الكاتب الذي كرس كتابته للحارة المصرية وهمومها، ها هو القلم المجود.. ها هو الكاتب المصري يحصل على نوبل..
لو كان محفوظ غربيًّا أو من بلدة غير مصر لتحدث عن معاناته، عن طموحاته، عن جمال اللحظة الجليل.. لكنه محفوظ الذي يعرف من هو.. وابن من..
(3)
نحن هنا ننظر لكلمة محفوظ التي أدعو وزارتي التعليم والتعليم العالي إلى تدريسها، يقول المصري: "أخبرنى مندوب جريدة أجنبية فى القاهرة بأن لحظة إعلان اسمى مقرونا بالجائزة سادها الصمت، وتساءل كثيرون عمن أكون، فاسمحوا لى أن أقدم لكم نفسى بالموضوعية التى تتيحها الطبيعة البشرية.. أنا ابن حضارتين تزوجتا فى عصر من عصور التاريخ زواجا موفقًا، أولاهما عمرها سبعة آلاف سنة، وهى الحضارة الفرعونية، وثانيتهما عمرها ألف وأربعمائة سنة، وهى الحضارة الإسلامية، ولعلى لست فى حاجة إلى التعريف بأى من الحضارتين لأحد منكم، وأنتم من أهل الصفوة والعلم، ولكن لا بأس من التذكير ونحن فى مقام النجوى والتعارف".
(4)
لكن الروائي الحصيف لا يقف عند هذا الحد بل يقول إن في حضارته أمورًا أهم من المفاخر التي يعرفها العالم.. إنها المفاخر الإنسانية: "تقول أوراق البردى إن أحد الفراعنة قد نما إليه أن علاقة آثمة نشأت بين بعض نساء الحريم وبعض رجال الحاشية. وكان المتوقع أن يجهز على الجميع، فلا يشذ فى تصرفه عن مناخ زمانه، ولكنه دعا إلى حضرته نخبة من رجال القانون، وطالبهم بالتحقيق فيما نما إلى علمه، وقال لهم إنه يريد الحقيقة ليحكم بالعدل.. ذلك السلوك فى رأيى أعظم من بناء إمبراطورية وتشييد الأهرامات وأدل على تفوق الحضارة من أى أبهة أو ثراء، وقد زالت الإمبراطورية وأمست خبراً من أخبار الماضى، وسوف تتلاشى الأهرامات ذات يوم ولكن الحقيقة والعدل سيبقيان ما دام فى البشرية عقل يتطلع أو ضمير ينبض."
هكذا إذن تبقى فينا حضارة ماعت، وحتحور وحورس، حضارة العدل لا إمبراطوريات العدوان التي لم يعرفها المصريون الخُلَص..
أما الحضارة الإسلامية فيقدمها محفوظ من خلال: "فى إحدى معاركها الظافرة مع الدولة البيزنطية ردت الأسرى فى مقابل عدد من كتب الفلسفة والطب والرياضة من التراث الإغريقى العتيد، وهى شهادة قيمة للروح الإنسانية فى طموحها إلى العلم والمعرفة، رغم أن الطالب يعتنق دينا سماويا والمطلوب ثمرة حضارة وثنية."
(5)
هذا هو المصري كريم العنصرين، الذي كتب عنه "بيرم التونسي" في أوبريت شهرزاد، وغنى سيد درويش:
أنا المصري كريم العنصرين ... بنيت المجد بين الأهرمين
جدودي أنشأوا العلم العجيب ... ومجرى النيل فى الوادي الخصيب
لهم فى الدنيا الاف السنين ... ويفنى الكون وهما موجودين.
لكن نجيب لا يقف عند هذين المكونين العظيمين بما عُرف عنهما من تقدم ورقي، وبما خفي عنهما من دعم للإنسانية.. لكنه ينبه الحضور إلى أن المعاناة جزء أصيل من عالمه الذي صار ثالثًا وأن دوره هو التعبير عن هذه المعاناة لا الهرب منها: " أجل كيف وجد الرجل القادم من العالم الثالث فراغ البال ليكتب قصصا؟ ولكن من حسن الحظ أن الفن كريم عطوف، وكما أنه يعايش السعداء فإنه لا يتخلى عن التعساء، ويهب كل فريق وسيلة مناسبة للتعبير عما يجيش به صدره.
وفى هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ الحضارة لا يعقل ولا يقبل أن نتلاشى آنات البشر فى الفراغ.. لا شك أن الإنسانية قد بلغت على الأقل سن الرشد، وزماننا يبشر بالوفاق بين العمالقة ويتصدى العقل للقضاء على جميع عوامل الفناء والخراب.
وكما ينشط العلماء لتطهير البيئة من التلوث الصناعى، فعلى المثقفين أن ينشطوا لتطهير البشرية من التلوث الأخلاقى، فمن حقنا وواجبنا أن نطالب القادة الكبار فى دول الحضارة، كما نطالب رجال اقتصادها، بوثبة حقيقية تضعهم فى بؤرة العصر.. قديما كان كل قائد يعمل لخير أمته وحدها، معتبرا بقية الأمم خصوماً أو مواقع للاستغلال.
دونما أى اكتراث لقيمة غير قيمة التفوق والمجد الذاتى، وفى سبيل ذلك أهدرت أخلاق ومبادئ وقيم، وبرزت وسائل غير لائقة، وازهقت أرواح لا تحصى، فكان الكذب والمكر والغدر والقسوة من آيات الفطنة ودلائل العظمة.. اليوم يجب أنت تتغير الرؤية من جذورها.. اليوم يجب أن تقاس عظمة القائد المتحضر بمقدار شمول نظرته وشعوره بمسئولية نحو البشرية جميعاً.. وما العالم المتقدم والثالث إلا أسرة واحدة، يتحمل كل إنسان مسئوليته نحوها بنسبة ما حصل من علم وحكمة وحضارة.
ولعلى لا أتجاوز واجبى إذا قلت لهم باسم العالم الثالث: لا تكونوا متفرجين على مآسينا، ولكن عليكم أن تلعبوا فيها دوراً نبيلاً يناسب أقداركم.. إنكم من موقع تفوقكم مسئولون عن أى انحراف يصيب أى نبات أو حيوان، فضلا عن الإنسان فى أى ركن من أركان المعمورة. وقد ضقنا بالكلام وآن أوان العمل.. آن الأوان لإلغاء عصر قطاع الطرق والمرابين.. نحن فى عصر القادة المسئولين عن الكرة الأرضية.. أنقذوا المستبعدين فى الجنوب الإفريقى.. أنقذوا الجائعين فى إفريقيا.. أنقذوا الفلسطينيين من الرصاص والعذاب".
(6)
سأكون واضحًا مع قارئي منذ اللحظة الأولى؛ أكتب لأحارب عدوًّا شديد الخطورة والشراسة، وهو تراجع الولاء والانتماء لكل قيمة ثابتة وهذا عدو عالمي ظهر كأثر سلبي للعولمة ثم استشرى مع الهيمنة والتدفق الخبري، وها هو يستشري في ظل المؤسسات عابرة القومية.. لا مشكلة في أن يكون العالم قريةً صغيرة، لكن الخطر الآن في أن هذه القرية الصغيرة لم يعد سكانها مكترثين بجذورهم.. بل منهم من يسخر منها ويهاجمها؛ أديانًا وأوطانًا وقيمًا عليا.. وهنا كما قال محفوظ – ولعلي لهذا أبدأ بقراءة كلمته معكم: " رغم كل ما يجرى حولنا فإننى ملتزم بالتفاؤل حتى النهاية.. لا أقول مع الفيلسوف «كانت» إن الخير سينتصر فى العالم الآخر، فإنه يحرز نصرا كل يوم، بل لعل الشر أضعف مما نتصور بكثير، وأمامنا الدليل الذى لا يجحد، فلولا النصر الغالب للخير ما استطاعت شراذم من البشر الهائمة على وجهها عرضة للوحوش والحشرات والكوارث الطبيعية والأوبئة والخوف والأنانية، أقول لولا النصر الغالب للخير ما استطاعت البشرية أن تنمو وتتكاثر وتكون الأمم وتكتشف وتبدع وتخترع وتغزو الفضاء وتعلن حقوق الإنسان، غاية ما فى الأمر أن الشر عربيد ذو صخب ومرتفع الصوت، وأن الإنسان يتذكر ما يؤلمه أكثر مما يسره"
(7)
هذا ما قالته كلمات محفوظ على قمة جبال التقدير: "أنا مصري.. فخور بتاريخي، ومواجه لأعدائي بحبي لوطني وللإنسانية".. وهذا دين حراس الوطنية المصرية..