- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
أشرف الصباغ يكتب : إتحاد خضرة المحشي 3
أشرف الصباغ يكتب : إتحاد خضرة المحشي 3
- 12 يونيو 2021, 3:48:13 ص
- 874
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
بعد ذلك فقط كنتُ أقف على الرصيف المتآكل المهدم أمام باب الفرع في شارع حسن صبري وأتنفس بعمق وانتصار. وأبدأ في إكمال جولتي في شوارع المنطقة القريبة من البيت، أو أقضي بعض الطلبات التي تحتاجها زوجتي. وكنتُ في كثير من الأحيان أتجه إلى ذلك المبنى الفخم الذي فصلوا عنه المسجد منذ عدة سنوات وكأنه قد أصبح غير تابع له، ووضعوا سورا حديديا قصيرا بائسا بلون أسود يبدو كشبكة بذيئة الشكل واللون والذوق ينفتح منها باب مضحك ومثير للسخرية على الدرجات العشر الرخامية البيضاء للسلم الواسع الذي بقي من تلك العصور الرحيبة الهادئة التي كانت تتميز ببعض الذوق والإحساس بالجمال. المسافة بين فرع "فودافون" وبين المبنى لا تزيد عن عدة أمتار. ولا شك أن المبنى اكتسب شهرته التاريخية بين الأجيال الجديدة من وجود نوال وأسرتها الكريمة. بل أصبحت فَرْشَة نوال أحد أشهر معالم شارع حسن صبري والشوارع المجاورة، بما فيها شارع شجر الدر الذي يؤدي إلى مبنى وزارة الثقافة الذي يقف بعبقه وعنفوانه التاريخيين الجميلين في مواجهة نهر النيل العظيم الذي يناضل ضد سد النهضة وضد عسف المصريين وإهمالهم وتسيبهم. وفي الواقع، فمبنى وزارة الثقافة لا يختلف كثيرا عن مبنى نقابة اتحاد خضرة المحشي. بمعنى أن فَرْشَة نوال أشهر وأهم من المبنيين بما فيهما وبمن فيهما.
في كل الأحوال، لو استطاعت نوال مع اتساع فكي الليبرالية وتزايد نهمها، ومع توطين الواقع الرقمي، أن تفرش فرشة أخرى بجوار وزارة الثقافة، فمن الممكن أن يبدأ المصريون بالتفكير جديا في "فكرة قومية مصرية" حقيقية وواقعية بعيدا عن الشعارات الكبرى والأفكار الخيالية مثل قناة السويس ونهر النيل، والبدء بهدم كل تلك المباني، أو تغيير وظائفها وتوجهاتها، وتوطين نوال وأمثالها في اتحاد خضرة المحشي الذي أصبح نقابة، وفي تحويل نشاط وزارة الثقافة إلى فرع لتصريف وتوزيع الشبت والبقدونس والكوزبرة، خاصة وأن هذه المكونات المهمة تكون طازجة وصحية ولم تمر على الثلاجات أو المواد الحافظة. وربما يكون هذا هو السر الذي يقف وراء حب وتقديس سكان منطقة الزمالك لنوال وأسرتها ودورها التاريخي في الحفاظ على صحة الشريحة العليا من الطبقة الوسطى. فتسعين بالمائة من سكان الزمالك لا يشعرون بوجود مبنى اتحاد خضرة المحشي الذي أصبح نقابة، وربما لا يعرفون أصلا بوجوده رغم أنه قائم بجدرانه وأسقفه ونوافذه وأبوابه ومسجده وموظفيه. مثل هذا المبنى، ومعه مبنى وزارة الثقافة، يكتسب معنى وجوده ليس إطلاقا من أي شيء آخر سوى وجود نوال. وفي المقام الثاني، من وجود موظفي القبو المتماهين تماما مع سيادة اللواء الذي يعيش معهم في نفس القبو. وفي المقام الثالث فقط تأتي أهمية السيدة ذات المعطف الكاكي والإيشارب الغريب الذي أضفى عليها طابعا أكثر غرائبية وعجائبية وإثارة للدهشة، بل وخلخلة مراكز الاتزان في المخ: في مخها هي شخصيا وفي أمخاخ وعقول كل من يتعاملون معها.
في الواقع، لم أكن "أنتوي" أبدا أن أزور اتحاد خضرة المحشي الذي أصبح نقابة. ولكن حدث وأن ساقتني أقدامي وأنا أشعر بالانتصار على النيوليبرالية وعملائها المحليين والدوليين، على الرغم من أنه لم يكن بنيتي أصلا أن أزور اليوم فرعي "اتصالات" و"فودافون"، أو على الأقل كان يمكن زيارتهما بعد قضاء الطلبات التي كلفتني بها زوجتي.
كان مزاجي رائقا للغاية. ولكن دخول السيدة ذات المعطف الكاكي إلى غرفة نائب الرئيس، ووصول الحديث إلى زوجها الذي كان يريد أن يشعل فيها النار، جعلني مستمتعا من جهة، ومتشوقا لمعرفة التفاصيل وبقية الحكاية من جهة أخرى.
جلستُ أستمع إلى السيدة ذات المعطف الكاكي الذي لم تخلعه على الرغم من حرارة الطقس التي لم تؤثر فيها المروحة الضخمة العتيقة في غرفة نائب الرئيس، والتي تصدر أصواتا غريبة أقرب إلى أصوات حشرات الحقول في الليالي غير المقمرة. وَصَلَتْ الحكاية إلى كتابها السابع والستين، وأن الدولة لا تريد الالتفات إليها، ولا تريد أن تقبلها ضمن القوى الناعمة المصرية التي يجب أن تؤثر ليس فقط في المحيطين العربي والأفريقي، بل وفي العالم كله، نظرا لأهمية مصر التاريخية والثقافية والعلمية، ونظرا لوضعها السياسي الاستراتيجي، وأن مصر بها من الكوادر والطاقات التي حصلت على جوائز نوبل، وجوائز دولية أخرى. وذهبت السيدة ذات المعطف الكاكي إلى أن بعض الشلل والعصابات في النسق الأعلى في الدولة، وفي وزارة الثقافة بالذات، تخشى من ترجمة كتبها إلى اللغات الأخرى، لأنها قد تحصل على جائزة نوبل، كما حصل عليها نجيب محفوظ وآخرون، وتغطي على كتاب كبار ولكن تافهين. وأكدت أن نجيب محفوظ هذا، كان زميل لها وعضو في اتحاد خضرة المحشي بشارع حسن صبري..
استهوتني الحدوتة، وصرتُ منجذبا نحو السيدة اللطيفة ذات البالطو الكاكي والإيشارب الذي يميل إلى كونه حجابا أكثر منه إيشارب مثل إيشاربات زمان التي كانت ترتديها أمهاتنا وجداتنا في شتاء الإسكندرية أو في خريف بورسعيد أو في الأفراح والمناسبات. ولكن زوجتي اتصلت، وكان صوتها الصارم والحاسم في التليفون يشير إلى إمكانية نشوب خلافات تاريخية، يمكن أن تؤدي بدورها إلى أن أصير حكاية تكتبها هذه السيدة في كتابها السبعين أو التسعين.
أمرتني زوجتي بعنف لطيف أن أرفع مؤخرتي عن هذا المكان الكئيب وأنهض متجها إلى فرشة نوال، لأنها اتصلت بها على المحمول، وأوصتها بأن تنتقي الشبت والبقدونس والكوزبرة وبقية عناصر ومكونات خلطة المحشي وشوية طماطم وخيار وتحطهم على جنب إلى أن يأتي هذا الموكوس، الذي هو أنا، ويأخذهم. وقبل أن تهبد السماعة في وجهي، قالت: "دي لو الدولة حولت البتاع اللي إنت قاعد فيه ده لدكان خضار كان بقى أفيد وأجدى للناس الغلابة اللي عايزين ياكلوا لقمة حلال"...
كنتُ، أثناء حديثي الهاتفي مع زوجتي الحبيبة، أرسم بين الحين والآخر ابتسامة واسعة على ملامحي، وأفشخ بُقي وكأن حديثا غراميا يدور بيني وبين زوجتي الوديعة اللطيفة. بل وكنت أضغط التليفون على أذني حتى أكتم الصوت، أو أتنفس بصوت عال حتى أغلوش على صرامة صوتها والكوارث التي تقولها ليس فقط بحقي، بل بحق اتحاد خضرة المحشي الذي أصبح نقابة، وبحق الدولة والثقافة. كنت أسعى بكل الطرق لإخفاء صوتها والتشويش على الصواريخ المجنحة التي تطلقها في أذني باتجاه الثقافة ووزارة الثقافة. وشكرت الله في قرارة نفسي لأنها لا تعرف شيئا عن القبو في أسفل المبنى، ولا تعلم أي شيء عن الكائنات التي تتحرك في أروقته وغرفه المظلمة سيئة التهوية ذات الأسقف الواطئة.
هممتُ بالنهوض، راسما على وجهي ابتسامة ودوده. ضحك نائب الرئيس ونظر في خبث إلى المسؤول المالي، وقال: "لا، دا أنا هاطلب لك قهوة. ماينفعش تقوم كده يا دكتور من غير ما تتعرف على كاتبتنا الكبيرة الأستاذة...". لم أسمع الاسم جيدا بسبب دخول الساعي وهو يقلب شيئا غريب اللون في كوب طويل يخرج منه بخار. فسألتُ زميلي نائب الرئيس عن الاسم مرة أخرى، فكرره لي مبتسما وهو ينظر في خبث. بينما هي كانت منشغلة بتصفح أحد الكتب التافهة على الطاولة البنية القديمة في وسط الغرفة.
حاولتُ الربط بين اسمها وبين أي شيء له علاقة بالكتب أو بالنشر أو بالثقافة أو بالمسرح أو بالسينما أو حتى بوزارة الإسكان والتعمير ولكن دون جدوى. فتحتُ التليفون في هدوء وكتبت اسمها على محرك البحث اللعين "جوجل"، فأظهر لي آلاف النتائج البعيدة عن الثقافة والنشر والترجمة، كان من بينها صالون تجميل عند نادي الصيد، ومسمط في عابدين، ومستشفى في قليوب، ومركز توزيع قلل قناوي في درب البرابرة وووووو.....
نطق الملعون نائب الرئيس اسمي وقبله كلمة كاتب ومترجم ودكتور، فالتفتت نحوي في جدية، وكأنها رأت المهدي المنتظر. عقصت ما بينت حاجبيها في ترفع واستعلاء ومحاولة للتأثير الجمالي بإظهار حركة الرموش، وسألت: "وإنت بقى، يا دكتور، بتعمل إيه؟ يعني بتشتغل فين ولا بتكتب إيه؟ هو إنت معانا هنا؟"... قلتُ لها مسرعا: "لا، لا، أنا......". وقاطعني ابن الملعونة المسؤول المالي قائلا: "طبعا طبعا، هذا كاتب ومترجم وعايش بره، وعنده علاقات بالهبل بالإنجليز والفرنسيين والروس، ويسافر إلى كندا وتركيا والسودان وأمريكا اللاتينية.."...
من الواضح أن لا شيء من كلامه وصل إليها إلا كلمات مثل "مترجم وإنجليز وفرنسيين وكندا وروس". فاعتدلت في جلستها وخلعت البالطو الكاكي وأزاحت الإيشارب الرمادي الغريب بوروده وطيوره الغرائبية إلى الوراء قليلا، وهو الذي لا يزال يميل إلى كونه حجابا أكثر منه إيشارب كانت أمهاتنا وجداتنا يرتدينه في مناسبات ما أو في الفصول الباردة. ولاحظتُ للمرة الأولى أنه إيشارب رمادي وليس بنيا، ربما من خامة جيدة ولكنه مزدحم بالورود والزهور والطيور التي يغلب عليها اللونان الأصفر والأبيض والفضي..
طَلَبَتْ السيدة ذات المعطف الكاكي، التي كنتُ قد نسيتُ اسمها على الفور، من نائب الرئيس في دلال ومودة وبعض الغنج الخفيف مع ابتسامة خلابة أن يطلب لها قهوة سكر مزبوط في مج كبير. وبدأت موجهة كلامها لي: "شوف بقى، أنا عندي لغاية دلوقت تمانين كتاب، دا غير اللي تحت الطبع.....