أيمن منصور ندا يكتب : دبرني يا وزير

profile
د.أيمن منصور ندأ رئيس قسم الإذاعة والتليفزيون بكلية الإعلام جامعة القاهرة
  • clock 17 يونيو 2021, 4:09:35 م
  • eye 8441
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

في حكايات "ألف ليلة وليلة" وحواديت"كليلة ودمنة"، وغيرها من قصص تراثنا الشعبي، كانت الجملة الأكثر تكراراً من قِبَل الملوك عندما يستعصى عليهم شيء، أو يحزبهم أمرّ، هي "دبرني يا وزير"؛ يقولها الملك وهو يعلم أن وزيره هو القادر على النصح السديد، وعلى الرأي الرشيد.. ويرد الوزير بعفوية "التدابير لله يا ملك"، ثم يُدلي برأيه الذي يكون واثقاً به ومُلمَّاً بأبعاده، ويقدم نصيحته التي يكون قادراً على تنفيذها وعلى تحمل تبعاتها.. شيء ما في أيامنا هذه جعل الأمور معكوسة، والطلبات مقلوبة، إذ يكون الطلب الأول لأي وزير هو "دبّرني يا ملك"، منتظراً توجيهات علوية، وتعليمات فوقية، يستند إليها، ويعتمد عليها.. 

في اللغة العربية، يأتي لفظ الوزير بمعنى "الوِزْر" أي الثِقل والحِمل المرهق الشاق، لأن الوزير يُحَمَّل بأعباء الحكومة نيابةً عن الملك، ويأتي أيضاً بمعنى "الظهر"، لأن الملك يُقَوِّى ظهره بوزيره، ويأتي أيضاً بمعنى "الملجأ" و"الملاذ"، لأن الملك يَلجأ إلي وزيره في الشدائد ويلوذ به في الملمات.. الوزير في الأصل هو السند والقوة والحكمة والملجأ للملك.. الوزير في أصله ليس خادماً للملك أو أجيراً لديه، بل هو ناصح ومعين ومستشار له.. الوزير الحق لا يتلقى توجيهات تتعلق بوظيفته، فهو الأدرى بها، ولا يعمل بناء على تعليمات، فهو الأعلم بمتطلباتها وبمقتضيات الأمور في مجال عمله .. الوزير الحق قوة للملك، ولا يستمد قوته من الملك.

ولعلَّ أصدق وأكثر تعريف جامع لمفهوم الوزير بالشكل الكلاسيكي ولخصائصه ولمعايير اختياره، هو ما أورده الخليفة العباسيّ المأمون إذ يقول: "إنِّي التمستُ لأموري رجلاً جامعاً لخصال الخير، ذا عفَّةٍ في خلائقه واستقامةٍ في طرائقه، قد هذَّبتْهُ الآداب وأحكمته التَّجارِب، إن اؤتمن على الأسرار قام بها، وإن قُلِّد مهمَّات الأمور نهض فيها، يُسكته الحلم، ويُنطقه العلم، وتكفيه اللَّحظة، وتغنيه اللَّمحة، له صولة الأمراء، وأناة الحكماء، وتواضع العلماء، وفهم الفقهاء، إن أُحسن إليه شكر، وإن ابْتُلِيَ بالإساءة صبر، لا يبيع نصيب يومه بحرمان غده، يسترقُّ قلوب الرِّجال بخلابة لسانه وحسن بيانه"..

الوزراء عبر التاريخ هم القيمة المضافة، وهم من يصنعون الفارق مع ملوكهم ورؤسائهم: كان "تعومِر" وزيراً للملك مينا "موحد القطرين"، وكان يدير المملكة المصرية في ذروة انشغال مينا بتوحيد القطرين وتأسيس الدولة القديمة.. وكان المهندس "حم إيونو" وزيراً لخوفو، وهو الذي صمَّم وأشرف على بناء الهرم الأكبر.. النبيُّ يوسف كان وزيراً لمصر، وصنع الفارق في نجاة مصر من المجاعة الكبرى "قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ"... ومع كراهيتنا له، فقد كان "هامان" الوزير المحترف المسئول عن تحقيق المعجزات لفرعون موسى "وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ .. أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ" .. والنبي موسى نفسه كان يعرف مفهوم الوزارة ويعرف شروط الوزير الحق ، دعا المولى عزَّ وجلَّ  أن يجعل له وزيراً من أهله "هَارُونَ أَخِي" يصنع الفارق في التعامل مع فرعون ""وَأَخِى هَٰرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّى لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِىَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِىٓ" أي مُعيناً ومقوياً لأمره ، وهو ما استجاب له ربه "قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ". 

في تاريخنا المعاصر، أسماء عديدة كانت إضافةً للرئيس وعوناً له، وكانوا قيمةً مضافةً .. عزيز صدقي، وثروت عكاشة، وعبد المنعم القيسوني كانوا عوناً للرئيس عبد الناصر وأضافوا إليه .. عبد العزيز حجازي، وأحمد إسماعيل، وعثمان أحمد عثمان كانوا عوناً للرئيس السادات وأضافوا إليه .. عاطف صدقي، وحسب الله الكفراوي، وعمر سليمان كانوا عوناً للرئيس مبارك وأضافوا إليه .. في المقابل، هناك أسماء كثيرة معروفة ومشهورة كانت عبئاً على هؤلاء الرؤساء، وكانت خصماً منهم ومن رصيدهم الشعبي.. وهناك أسماء كانت "خاملة وغير نشطة" بالمفهوم الكيميائي، و"غير ذات دلالة" بالمفهوم الإحصائي.. لم يكونوا إضافةً ولم يكونوا خصماً؛ كان وجودهم صفرياً، أو كما وصف أحمد فؤاد نجم أحدهم "كأنك مفيش" .. وكثيرٌ ما هم ..

عندما يتلقى الوزير تعليمات وتوجيهات تتعلق بوظيفته يصبح عبئاً على الرئيس لا مساعداً له على أعبائه.. وعندما يكون الرئيس أكثر علماً بمقتضيات الوزارة وبمتطلباتها من الوزير، يكون الوزير "صفرياً" ويكون غير ذي دلالة أو أهمية.. الفرق بين الوزير عندما يكون عوناً للرئيس ويصنع الفارق له ويضيف إليه، والوزير عندما يكون عبئاً على الرئيس وخصماً منه وسحباً من رصيده، هو الفرق بين كلمة "وزير"  وكلمة "زير"، على حدّ تعبير الكاتب الكبير مصطفى أمين؛ حرف "الواو" يصنع الفارق ويحدد مهام الوظيفة!

التعليقات (0)