- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
إلى أين تتجه العلاقات الروسية – التركية؟
إلى أين تتجه العلاقات الروسية – التركية؟
- 15 يونيو 2022, 3:25:27 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
اختتم وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” زيارته إلى أنقرة في 8 يونيو 2022، التي خُصِّصت لبحث الأزمة الأوكرانية؛ حيث اتفق مع نظيره التركي “مولود جاويش أوغلو” على التنسيق فيما بين الدولتين لفتح ممر لتصدير الحبوب الأوكرانية، وأقر الوزيران بوجود خلافات حول عدد من الملفات الإقليمية التي تتقاطع فيها مصالح بلديهما الاستراتيجية، لا سيما في سوريا وليبيا وأوكرانيا؛ ما يؤكد الارتباط المباشر بين تلك الملفات؛ حيث تسعى كل من أنقرة وموسكو إلى الاستفادة من المتغيرات الجيوسياسية الجديدة لتحقيق مصالحهما، وتجنب أي مواجهة عسكرية مباشرة بينهما؛ هذا فضلاً عن اتساع فجوة الخلاف بينهما في عدد من الملفات الإقليمية الأخرى التي تتقاطع فيها مصالحهما المشتركة.
توازنات جيوسياسية جديدة
منذ بدء العملية العسكرية الروسية بأوكرانيا، في 24 فبراير الماضي، يسعى الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” إلى استغلال الفرصة لتعظيم مكاسبه الاستراتيجية منها، من خلال التوازن للحفاظ على علاقته الاستراتيجية بموسكو، ودعمه لكييف ووجوده عضواً بحلف شمال الأطلسي “الناتو”. صحيح أن المراحل الأولى من الحرب شهدت توترات واضحة في العلاقات الروسية – التركية، وخاصةً مع رفض الرئيس التركي الاعتراف بالسيادة الروسية على شبه جزيرة القرم لحماية الأقلية التتارية الناطقة باللغة التركية هناك، وإدانة أنقرة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، بيد أن هذه التوترات لم تَحُل دون بعض التفاهمات بين أنقرة وموسكو في الملف الأوكراني، وهي التفاهمات التي تبلورت فيما يأتي:
1– الاتفاق على “ممر الحبوب”: اتفق وزير الخارجية التركي “مولود جاويش أوغلو” مع نظيره الروسي “لافروف”، أثناء زيارة الأخير إلى أنقرة، على إنشاء “ممر بحري للحبوب”؛ حيث ستنظف أنقرة مياه البحر الأسود من الألغام قبالة ساحل أوديسا الأوكرانية، وترافق السفن المحملة بالحبوب التي ستغادر الميناء في حراسة سفن روسية حتى مضيق البوسفور. وسيتم طرح هذا المقترح على كييف والأمم المتحدة للتنسيق معهما بشأنه لحل أزمة نقص الغذاء الحالية، لا سيما أن روسيا وأوكرانيا مجتمعتَين تُنتجان 30% من إمدادات القمح العالمية. وأوضح “لافروف” أن روسيا وتركيا تدركان ضرورة ضمان الأمن في البحر الأسود، بينما شككت كييف في قدرة تركيا على أن تصبح “ضامناً” لاتفاق “ممر الحبوب”. ورغم ذلك اتفقت كييف وأنقرة على أن تشتري الأخيرة الحبوب الأوكرانية بأقل من السعر العالمي بنسبة 25%.
2– الرفض التركي للانخراط في العقوبات الغربية على روسيا: إذ ترفض تركيا فرض عقوبات اقتصادية على روسيا، كما استقبلت رؤوس الأموال من رجال الأعمال الروس الذين فُرضت عليهم عقوبات غربية؛ ما سيجعل الاقتصاد التركي بمنزلة (رئة) للاقتصاد الروسي، ويربطه بالاقتصاد الغربي بالالتفاف على العقوبات المفروضة عليه، فضلاً عن استمرار إمدادات الطاقة الروسية إلى تركيا؛ ما دفع موسكو إلى الإعلان عن مضاعفة عدد الرحلات الجوية والسائحين إلى تركيا خلال الصيف الحالي.
3– استمرار التواصل المباشر بين الرئيسَين الروسي والتركي: يحرص “أردوغان” على التواصل مع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” الذي حدَّثه خلال الشهور الأخيرة أكثر من مرة، كانت آخرها في نهاية مايو الماضي، وجدد “أردوغان” خلالها عرضه استضافة محادثات بين روسيا وأوكرانيا، وكان الوفدان الروسي والأوكراني قد اجتمعا آخر مرة في إسطنبول يوم 29 مارس الماضي. وتُعَد تركيا وسيطاً مقبولاً من كافة الأطراف؛ حيث إن لها علاقات استراتيجية بروسيا، وعلاقات جيدة بأوكرانيا، كما أنها عضو بالناتو وتساهم بثاني أكبر عدد قوات داخل الحلف، وحليف لواشنطن حتى في ظل التوترات بينهما.
4– تلاقي مصالح روسيا وتركيا في قضية توسع حلف الناتو: تتلاقى مصالح تركيا وروسيا، ولو على نحو غير مقصود، في ملف توسع حلف الناتو، وخاصةً بعد إعلان تركيا رفضها ضم فنلندا والسويد إلى حلف الناتو الذي يستلزم الانضمام إليه موافقة كافة دوله الأعضاء. وطالبت أنقرة الدولتين بوقف دعم المنظمات الكردية الإرهابية. ولا يمكن إغفال أن هذا الرفض إذا استمر يحقق لروسيا هدفاً استراتيجياً مهماً بمنع ضم الدولتين إلى الحلف.
سيناريوهان محتملان
تأرجحت العلاقات الروسية – التركية خلال السنوات الماضية بين الصدام والتفاهم بفعل تشابك مصالح الدولتين في عدد من الملفات الدولية والإقليمية، وما نتج عن ذلك من تصادمات. وبالرغم من ذلك، فإن هذه التصادمات ظلت محكومة ضمن إطار محدد حال دون القطيعة التامة بين الدولتين. وفي سياق كهذا، يمكن القول إن مستقبل العلاقات بين روسيا وتركيا محكوم بسيناريوهين رئيسيين:
* السيناريو الأول (تفاهمات الضرورة): يفترض هذا السيناريو – وهو الأكثر ترجيحاً – أن تستمر صيغة التفاهمات القائمة بين روسيا وتركيا، مع اعتراف كل دولة بمصالح الدولة الأخرى، وتجنب الوصول إلى مرحلة القطيعة التامة. ويساعد على تحقق هذا الأمر عدد من العوامل الرئيسية:
1– الحسابات السياسية للنظام التركي: فالنظام التركي يحاول استخدام كافة الأوراق الممكنة لتحقيق مصالحه، وهذا الأمر يعني أنه ليس من مصلحة أنقرة القطيعة التامة مع روسيا، وخاصة أن هناك خلافات قائمة بين تركيا والدول الأوروبية، وكذلك بينها وبين الولايات المتحدة بالرغم من كونها حليفاً مهماً لأنقرة. وبناءً عليه، تظل موسكو ورقة مهمة لتركيا تستطيع استخدامها في إدارة علاقاتها مع الدول الغربية.
2– أهمية التنسيق بين الدولتين في الملف السوري: بالرغم من الخلافات بين موسكو وأنقرة في الملف السوري، يظل التنسيق والتفاهم بين الدولتين مهماً لمصالح الدولتين هناك؛ إذ يوفر التواصل مع موسكو أداة لضبط الأوضاع، ولو جزئياً، داخل سوريا. ويدلل على ذلك العمليات العسكرية التركية الأربع السابقة في سوريا (“درع الفرات” 2016، و”غضن الزيتون” 2018، و”نبع السلام” 2019، و”درع الربيع” مارس 2020) التي لم تشهد مواجهات عسكرية مباشرة بين القوات التركية وفصائل المعارضة السورية من جهة وبين قوات الجيش السوري و”قسد” من جهة أخرى؛ لأن الطرف الأخير كان ينسحب بناءً على تفاهمات بين موسكو وأنقرة. وهذا هو ما تضغط به موسكو على أنقرة؛ حيث يمكنها دعم “قسد” والجيش السوري لمواجهة الجيش التركي وهنا سيتكبد الأخير خسائر جمة للسيطرة على أي مدينة جديدة، بالإضافة إلى إمكانية إشعال موسكو الوضع في مدينة إدلب المجمد وفق اتفاقات “خفض التصعيد” المبرمة بين تركيا وروسيا منذ عام 2018. وهذا لن يكون في صالح أنقرة.
3– دعم سياسة المساومات بين الدولتين: تظل صيغة المساومات واحدة من أهم أبعاد العلاقات بين تركيا وروسيا، وربما يتم استدعاء هذه الصيغة بكثافة في الفترة القادمة، لا سيما مع تخطيط تركيا لتنفيذ عملية عسكرية في شمال سوريا؛ فثمة احتمالية أن تتوصل تركيا إلى اتفاق مع روسيا يقضي بشن العملية العسكرية بشمال سوريا، مقابل تقديم أنقرة تنازلات في الملف الأوكراني؛ قد يكون أبرزها استمرار الرفض التركي لانضمام السويد وفنلندا، واستمرار رفض تطبيق العقوبات الاقتصادية على روسيا. بالإضافة إلى ذلك، فإن تنفيذ مثل هذه العملية العسكرية التركية قد ينعكس بالسلب على العلاقات التركية الأمريكية، وهو أمر يخدم مصالح موسكو.
4– أولوية مشروعات التعاون المشتركة: هناك عدد من المشروعات المشتركة بين روسيا وتركيا تُحتِّم على الدولتين استمرار التعاون بينهما؛ فعلى سبيل المثال، بنت روسيا أربعة مفاعلات نووية في مقاطعة مرسين منذ عام 2018، وتم افتتاح خط السيل الجنوبي لنقل الغاز الروسي إلى تركيا عام 2020. علاوة على ذلك، يشكل السائحون الروس مورداً هاماً لقطاع السياحة التركية.
* السيناريو الثاني (تصاعد الخلافات): ويفترض هذا السيناريو أن تتصاعد حدة الخلافات بين روسيا وتركيا خلال الفترة القادمة، بحيث تتفاقم الخلافات بينهما في عدد من الملفات؛ حيث شهد شمال سوريا تحركات عسكرية روسية تركية مستمرة تهدف إلى إعادة تموضع القوات المنتشرة هناك؛ حيث تُجري موسكو مناورات دوريات مستمرة لتؤكد استمرار حضورها بالمشهد السوري رغم انشغالها بالحرب الأوكرانية. وبوجه عام ينبني هذا السيناريو على عدد من المعطيات الرئيسية المتمثلة فيما يأتي:
1– الرفض الروسي للعملية التركية المرتقبة بسوريا: أعلن الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، في 23 مايو الماضي، عن عزمه شن عملية عسكرية جديدة في أي وقت على مدينتي منبج وتل رفعت الاستراتيجيتين؛ حيث توجد 60% من المياه العذبة بالمنطقة التي تسيطر عليها قوات “سوريا الديمقراطية” (قسد) لوقف الهجمات الإرهابية المنطلقة منهم ضد حدود بلاده الجنوبية؛ حيث اتهم “قسد” بشن ألف هجوم ضد تركيا، بيد أن روسيا اعترضت على تلك العملية نظراً إلى وجود قوات من الشرطة الروسية في منبج. ومنذ أعلنت أنقرة عن العملية الجديدة عززت موسكو وجودها في المنطقة بأربع منظومات للدفاع الجوي من طراز “بانتسير”، ومنظومتي إطلاق صواريخ من طراز “إسكندر”، في حين دعت “قسد” قوات الجيش السوري إلى التنسيق معها لمواجهة التدخلات التركية الجديدة.
2– احتمالية الصدام العسكري بين النظام السوري وأنقرة: عقب تلويح تركيا بتنفيذ عملية عسكرية في شمال سوريا، دعت “قسد” قوات الجيش السوري إلى التنسيق معها لمواجهة التدخلات التركية الجديدة، التي تستهدف تركيا من ورائها إحداث تغيير ديمغرافي بالمنطقة بإزاحة سكانها الأصليين من الأكراد، وتوطين اللاجئين السوريين من العرب فيها. وبناءً عليه، ربما يؤدي التحالف المحتمل بين قسد ودمشق إلى الصدام بين النظام السوري وتركيا، وهو ما يعني، بطريقة أو بأخرى، الصدام بين أنقرة وموسكو باعتبارها حليفاً مهماً للنظام السوري، ناهيك عن تلويح موسكو بإمكانية دعم “قسد” والجيش السوري لمواجهة الهجوم التركي المحتمل؛ حيث عقدَ قائد القوات الروسية العاملة في سوريا الجنرال “ألكسندر تشايكو” اجتماعاً مع قائد قوات “قسد “مظلوم عبدي” لبحث التنسيق بينهما مباشرةً، ولإعداد لقاءات بين “عبدي” والجيش السوري.
3– محاولة تركيا تقييد التحركات الروسية في سوريا: أعلنت أنقرة في 23 أبريل 2022، إغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات الروسية المدنية والعسكرية المتجهة إلى سوريا؛ وذلك لمدة ثلاثة أشهر؛ ما يؤدي إلى تعقيدات في الخدمات اللوجستية للقوات الروسية العاملة بسوريا التي تعتمد على المجال الجوي التركي بنسبة 50%؛ لذا أعلن “لافروف” أن بلاده تتفهم المخاوف الأمنية لتركيا من التنظيمات الكردية وتنسق معها، وأكد أنه لا يمكن ضمان الأمن على الحدود السورية – التركية إلا بنشر القوات التابعة للحكومة السورية، وهذا ما ترفضه أنقرة؛ لأنها ترغب في السيطرة على المنطقة الحدودية التركية السورية سيطرة تامة، وهو ما سيصعب تنفيذه في ظل التحركات العسكرية الروسية؛ حيث إن موسكو عززت تمركز قواتها بالقرب من (تل رفعت ومنبج والضواحي الجنوبية لعين العرب وعين عيسى)، وهي تبعد 40 كم من الحدود التركية.
4– التنافس على النفوذ في آسيا الوسطى والبلقان: تطمح تركيا إلى توسيع نفوذها بمنطقة البلقان بدعم استقلال كوسوفو الذي ترفضه موسكو وتعدها جزءاً من حليفتها صربيا، كما تصاعد التنافس بين أنقرة وموسكو في منطقة آسيا الوسطى بعد تعزيز أنقرة وجودها العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي بالمنطقة؛ فقد اشترت دول طاجيكستان وكازاخستان وتركمانستان وقيرغيزستان طائرات تركية مسيرة، وتم توقيع اتفاقيات للتعاون العسكري بينها وبين أنقرة. وتصف موسكو هذه المنطقة بأنها “الحديقة الخلفية” لها، فضلاً عن سعي أنقرة إلى تطبيع العلاقات مع أرمينيا الحليف الاستراتيجي لموسكو. هذه الخلافات كافةً تُضيف المزيد من التوتر المستتر للعلاقات التركية الروسية، وتنعكس على التفاهمات في ملفات مثل أوكرانيا وسوريا.
ختاماً.. فإن مستقبل العلاقات التركية – الروسية لن يختلف كثيراً عن واقع هذه العلاقات في اللحظة الراهنة، وخصوصاً إذا استمر النظام التركي الحاكم وتمكن الرئيس التركي من الفوز في الانتخابات القادمة؛ فكلا الطرفَين يتعاملان مع علاقاتهما من منظور برجماتي بحت يفترض أن خلافاتهما وصراعاتهما لا تؤثر على فرص التعاون بينهما، ناهيك عن استخدام الطرفَين الملفات المتداخلة في المساومة وتقديم تنازلات متبادلة.
المصدر: إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية