- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
احمد سراج يكتب.. المسحراتي حرفه تقاوم
احمد سراج يكتب.. المسحراتي حرفه تقاوم
- 12 أبريل 2021, 9:31:32 م
- 1172
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
المسحراتي.. حرفة تقاوم.. وخصوصية لا تذوب.. وأثر لفراشة لا يزول
الحضور الآسر في الوجدان الشعبي والاستشراق الاستعماري
"انت حتطبل في المطبل" كثيرًا ما نقول هذا التعبير عندما يقوم شخص بمحاولة إنجاز شيء تم إنجازه فعلا، دون أن يعرف كثير منا أن هذا التعبير مثل شعبي مورده "خناقة" بين اثنين من ...
مضرب المثل الطريف سيقودنا إلى مهنة موسمية، ترتبط بشعائر رمضان وطقوسه؛ فأصل المثل يرجع إلى قيام أحد المسحراتية، بالدخول إلى منطقة تخص زميله، والتطبيل فيها طمعًا في الأجر الذي سيحصل عليه في العيد، وهنا يأتيه الزميل طاردًا صارخًا: "انت حتطبل في المطبل"، ما يلاحظه العلماء أن قدرة الحدث على التحول إلى مثل مؤشر على قوته وتأثيره.
"يبدأ المسحراتي جولاته عادة بعد منتصف الليل مُمسكًا بشماله بطبلة صغيرة، وبيمينه عصا صغيرة أو قطعة جلد غليظ، وبصحبته غلام صغير يحمل مصباحًا أو قنديلا يضيء له الطريق، ويأخذ المسحراتي في الضرب على الطبلة ثلاثًا ثم ينشد أناشيد ينادي فيها صاحب البيت وأفراد أسرته فردًا فردًا ما عدا النساء، ويردد أيضًا أثناء تجواله على إيقاع الطبلة كثيرًا من القصص والمعجزات والبطولات الإسلامية عبر التاريخ" إدوارد لين في كتابه "عادات المصريين وتقاليدهم" الصادر 1836، والذي ترجمته سهير برسوم، ترى ما الذي جعل بولين وهو يطمع في أن يؤلف كتابًا يفوق وصف مصر أن يسجل ملاحظاته عن المسحراتي؟
إنها إذن مهنة مؤثرة في الوجدان الشعبي، لافتة للمؤرخ والجامع للمأثور رغم موسميتها، وقلة عدد القائمين بها..
مسحراتي قريتي
"يا راحلين إلى مِنىً بقيادي.. شوقتم يوم الرحيل فؤادي" ما زلت أحفظ هذه الكلمات التي رغم أنني سمعتها صغيرًا، وما زلت أحفظ بقيتها، كان محمد السروجي يمر بالقرية كلها، وهو يقول هذه الأبيات بصوت جميل.
هكذا قال لي "عبدالحميد الدرست – رحمه الله - وهو شيخ يقترب من السبعين" يناير 1998 أثناء جلوسنا بعد العصر في مسجد البوهي بقرية جريس مركز أشمون محافظة المنوفية، لكن طريقة التسحير وقتئذ كانت قد تراجعت وجمدت؛ فهناك شخصٌ يدق على الطبلة وهو ينادي: " إصحى يا نايم إصحى وحّد الدايم" أو "اصحى السحور" ويقوم مساعده (بالتخبيط) على الباب بيده، أو (بزقلية) وهي عصا ملساء تشبه النبوت إلا أنها أقصر، وما تغير في أيامنا هذه هو أن المساعد يدق الجرس، وأن المساجد صارت تستخدم الميكروفونات في تسحير الناس"
ساهمت العزلة المفروضة على قريتي في احتفاظها إلى حد كبير بحرفها وتطويرها، فهي مطلة على النيل – بما يشكله من مانع طبيعي - شبيهة بآخر بلاد العالم؛ إذ لا يمكن الخروج منها إلا شرقًا حيث مركز أشمون ومحطة القطار، أو قرية سمادون ومحطة قطارها، وكلا الخروجين مرتبط بالمواصلات التي تقل قرب صلاة المغرب وتتوقف مع صلاة العشاء، أما الشمال والجنوب فطرق مقطوعة، لا يسير عليها سوى فلاحين بعدد أصابع اليد، وقد ظل هذا حتى نهاية العقد الأول من القرن العشرين.
يمكنني أن أصنف الحرف والمهن اليدوية والتقليدية إلى حرف مندثرة بفعل توقف الناس عن هجمة التكنولوجيا ما أسفر عن توقف استعمال هذه المنتجات وابور الجاز رغم محاولة الحرفيين "البحث عن قطعة الجبن" وإصلاح وابور الغاز، أو عن توقف الداعي لاستخدام الخدمة مثل "تسعير المنقولات عبر البحر" وكان يقوم بها "معرِّف" لكن انخفاض منسوب فرع رشيد بعد إنشاء السد العالي أوقف حركة النقل "بالصنادل" وبالتالي وقف مهنة تحديد تعريفة النقل، ولم يبق من هذه الحركة إلا حكايات متناثرة عن العلاقات التجارية والإنسانية بين سكان قريتنا وسكان البحيرة، ولم يتبق من المهنة إلا لقب صارت تحمله العائلة التي كانت تقوم بذلك، والطريف أنني سألت أكثر من شخص في هذه العائلة عن سبب تسمية عائلته بالمعرف (تُنطَق بكسر الميم)، أما الحرف المقاومة فهي: "الصيد" و "صناعة الفخار" و "تحفيظ القرآن" و "التسحير".
رغم أن التسحير حرفة موسمية، ورغم أن صاحبها يمتهن مهنًا أخرى؛ فإنه يشبه هذا الفلاح الذي يعمل وسط أهله حتى يأتيه نداء القتال فيقوم، بترك كل شيء ولبس زي القتال، هكذا يذهب المسحراتي للعمل، حاملا الطبلة، والزقلية يحملها مساعده.
بعد صلاة العشاء يفتح الجميع الراديو – التلفزيون لاحقًا – ويتنظرون الرؤيا، وما إن يعلن أن غدًا هو أول أيام الشهر الفضيل حتى يستعد المسحراتي؛ فيحدد وقت نزوله ليتمكن من المرور على القرية بكاملها، أما خريطة سيره فهي محفوظة، كانت المهمة سهلة في البداية فالقرية قبل السماح بالتمدد العمراني، وبإنشاء تجمعات في الغيطان، كانت تشبه البيضة يحيطها شارع داير الناحية، والمعروف بجسر التحويلة لأنه كان جسرًا عاليا "يُحوِّل" فيضان النيل حولها ولا يمكنه من دخولها، فيما يتحرك الغفر وعمال الفيضان في جرارات داخل القرية مملوءة بأجولة الرمل والرتش؛ فماء الفيضان يسير تحت الأرض إلى أن يجد قضرة ضعيفة فيخرج كالنافورة، هنا يحمل كل منهم جوالا ويلقيه في أتون الماء..
القرية إذن تقع داخل هذا الجسر الذي يأخذ اسم جسر التحويلة، ويضاف له اسم ثان: "جسر البحر" وهو الجزء المحاذي للبحر.. والخريطة هنا واضحة تمامًا فالجامع الكبير هو مركز القرية، ما يقع شماله فهو الناحية البحرية، وما جنوبه فهو القبلية، وما شرقه فهو الشرقية، وقريتي لا ناحية غربية لها لأن الجامع لكبير قريب من النهر الذي يمثل الحد الغربي، بعد ذلك فالقرية مقسمة إلى شوارع ودروب وحارات بأسماء العائلات، وبحسب طولها: الدرب الكبير، الدرب الوسطاني، درب النصارى (يستقر في قريتي التعامل مع المسيحيين على أنهم عائلة، وكلمة نصراني لم تكن تؤخذ بمدلول سلبي حتى ظهور وقت قريب).
يتحرك المسحراتي ومعه عدته المادية، وعتاده المعنوي، يحكي عبدالحميد الدرست رحمه الله أنه كان يسير خلف المسحراتي ليحفظ أشعاره، وكيف أن هذا المسحراتي كان "عايق ونزيه" ما تغير الآن أن أحفاد الرجل هم من يتحركون، دون شعر، ودون "مضاريب يسيرون خلفهم".
الأجر لا يحدده المسحراتي، بل هو أقرب إلى الهبة؛ إذ يسير المسحراتي يوم العيد، رأيت زوجته تسير ومعها عدد من الأسبتة، ويقوم الناس بإخراج ما يريدون؛ كعك العيد، فطير، عيش بلدي طري أو ملدن، وقد يدفع الناس مالاً، أما الآن فأغلب الناس تدفع أموالاً.
مسحراتي مصر العالمية
بعباءة خفيفة، يسير شيخ يلبس نظارة، يتخطفني ذهول بين وقع الطبلة، وصوته الشجي حينا والقوي حينا، وكلماته المؤثرة، والمنظر الملهم للحارات والمساجد التي يسير وسطها، ربما وقتها لا أنتبه للسحور الموضوع على الطبلية حتى تحسبني أمي نائما وأنا جالس، فتحاول إيقاظي لكن أبي الذي يرى عيني المشدودتين إلى التلفزيون – مثلما كان مشدودًا لشعراء السيرة سائرًا خلفهم بالأيام والليالي – يقول لي: "اتسحر الفجر قرب"
تبدو قصة مسحراتي الإذاعة والتلفزيون جديرة بالحكي، حقيقةً باستخراج الدروس والعبر؛ فالقصة تبدأ من الإذاعة حيث تقرر العمل بروح الفريق، أو قل الفرق – وهذا هو الدرس الأول - فكان كل مغن ومؤلف يقدمان عددًا من الحلقات، وجاء الدور على سيد مكاوي وذهب إلى صلاح جاهين الذي رشح بدلا منه فؤاد حداد – وهذا هو الدرس الثاني - : " في البداية عرضت على الشاعر الكبير صلاح جاهين عام 1964، الذي قال: "من سيكتب المسحراتى هو الشاعر فؤاد حداد، وهو الأجدر بكتابتها" وبدأ حداد يكتب الحلقة على هيئة «مقدمة وبداية ووسط»، والحلقة نفسها كانت أغنية وموالا، وفكر بعد كتابة ثلاث حلقات أن يغير الطريقة لصعوبتها – الدرس الثالث -، إلا أنه عندما سمع صوت الشيخ سيد مكاوى استطاع أن يكمل بقية الحلقات – الدرس الرابع - لتصل إلى ثلاثين حلقة عام 1964، ثم عام 68 قدما ثلاثين حلقة، ثم بعد وفاة الرئيس جمال عبدالناصر كتب ثلاث حلقات في رثائه.. وعام 1974 قدما 15 حلقة، وفى السنين التالية قدما 15 حلقة متفرقة، ثم في عام 1983 قدم المسحراتى في التليفزيون المصرى – الدرس الخامس - من إنتاج أفلام التليفزيون، وكان مزيجا من حلقات قديمة وحلقات جديدة.
اللافت هنا أن ثنائي حداد ومكاوي صار أيقونة مصرية لرمضان، ودرسًا في الصناعات الإبداعية والقوة الناعمة، وأنهما ساهما في إنعش هذه الحرفة التي كادت تنقرض؛ فبدأت تعود للشارع، بل وتغزو الأحياء الجديدة.
وعلينا أن نقول إن: "التسحير" صار موضوعة للشعر العامي المصري، وتيمة فنية للتلحين، ويمكن مراجعة ذلك بالقصائد التي كتبها صلاح جاهين وغيره، بل بديوان شعري كامل قدمه لنا جمال بخيت وقد استثمر فيه طاقات شعر العامية في مواجهة ظروف العصر ومستجداته – ويستحق دراسة منفصلة بذاتها - وبما قدمه الموسيقار عمار الشريعي، وما جرى من نجاح حداد – مكاوي إنما هو علامة ازدهار للفن، وغن كانت العلامة طغت – لعدم وجود حركة نقدية، ولآليات السوق المعتمدة على ترويج المطلوب – فصارت الشجرة التي حجبت الغابة، ومن المميز أن الترويج جاء لقيم أدبية وفنية مميزة سواء على مستوى الكلمة لفؤاد حداد، أو اللحن لسيد مكاوي الذي يذكر له أنه غامر بالاستغناء عن الأدوات المعاصرة كما كان يفعل معاصروه؛ فأسهم هذا انحيازًا كبيرًا من الجماهير له.
مسحراتي العرب
لا تقتصر مهنة التسحير على مصر فقط، بل امتد الأمر إلى البلاد العربية، ومنها السعودية، وتونس والمغرب والجزائر ففي تقرير لصحيفة الرياض عن تقاليد رمضان: "وارتبط شهر رمضان بالكثير من المناسبات والعادات والتقاليد الجديدة التي ظهرت ولم يكن العرب يعرفونها من قبل مثل شخصية "المسحراتي" وهو الرجل الذي يطوف ليلاً بالبيوت ليوقظ الناس لتناول وجبة السحور قبيل آذان الفجر، والمسحراتي هو الرجل المميز في شهر رمضان المبارك، وينحصر عمله فقط في هذا الشهر الفضيل"، لكن هل مهنة التسحير جديدة، أو أن بعض الأفكار حين تحكمت سياسيًّا أوقفتها؟
المسحراتي في التاريخ
تذهب مصادر كثيرة إلى أن مهنة التسحير موجودة منذ عصر الرسول الكريم ﷺ فكان بلال بن رباح رضي الله عنه أول «مسحراتي» في التاريخ الإسلامي، فكان يجوب الشوارع والطرقات لإيقاظ الناس للسحور بصوته العذب، وكان النبي يقول «إن بلالًا ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم»، وكان ابن أم مكتوم هو الذي يتولى أذان الفجر، ومنذ ذلك التاريخ أصبح المسحراتي مهنة رمضانية خالصة.
وأول "مسحراتي" في مصر هو عتبة بن إسحاق سنة 228 هـ وكان واليًا على مصر، إذ كان يذهب على قدميه من مدينة العسكر (العاصمة الثانية بعد الفسطاط) إلى جامع عمرو بن العاص.
"وبداية ظهور الطبلة في يد المسحراتي كانت في مصر، حيث كان المسحراتي يجوب شوارع القاهرة وأزقتها وهو يحمل طبلة صغيرة ويدق عليها بقطعة من الجلد أو الخشب، وغالبًا ما كان يصاحبه طفل صغير أو طفلة ممسكة بمصباح لتضيء له الطريق، وهو يردد نداءاته المميزة «اصحى يا نايم وحد الدايم» أو ينطق بالشهادتين بصوت أقرب الى التنغيم منه إلى الحديث العادي".
وبمجيء دولة التفاريح والتباريح (الدولة الفاطمية) أصبحت هناك مهنة المسحراتي، كما أصبح هناك ديوان الحلوى الذي كان مسؤولا عن إنتاج الحلوى والكعك في المناسبات، وفي أيام الحاكم بأمر الله كان جنوده يدقون الأبواب ليوقظوا النائمين للسحور، وبدأت تظهر طائفة المسحراتية بأعرافها وحدودها، التي ازدهرت في العصر المملوكي لنجد "ابن نقطة"، شيخ طائفة المسحراتية والمسحراتي الخاص بالسلطان الناصر محمد، الذي كان يخلط الغناء بالطبلة التي كان يُدق عليها دقات منتظمة بدلا من استخدام العصا.
هذه الطبلة كانت تسمى «بازة» وهي صغيرة الحجم يدق عليها المسحراتي دقات منتظمة، ثم تطورت مظاهر المهنة فأصبح المسحراتى يشدو بأشعار شعبية وزجل خاص بهذه المناسبة.
وكما يحدث الآن، لم يكن المسحراتي خلال الشهر الكريم، يتقاضى أجرًا يوميا بل ينتظر حتى أول أيام العيد فيمر بالمنازل، ومعه طبلته المعهودة يضرب، فيهب له الناس المال والهدايا والحلويات ويبادلونه عبارات التهنئة بالعيد السعيد.
في أواخر القرن الـ 19، صارت مهنة المسحراتي ذات قواعد وأدبيات، وكان لها شيخ طائفة "شيخ المسحراتية"، حيث كان يجتمع عنده "المسحراتية"، فى مسجد "السيدة نفيسة"، في النصف من شعبان، ويقوم بتوزيع الأحياء عليهم، والمناطق، والأرياف، ولدخول فرد في هذه الطائفة اختبار صعب وشروط صارمة واستثناءات محددة؛ فيتولاها شيخ المسحراتية وحده، على أن يكونوا في الأغلب من أبناء المسحراتية؛ لأنها ككل طائفة مهنية، ترفض انتساب أغراب لها، والاستثناء الوحيد، هم "المنادون"، بسبب معرفتهم الجيدة بالبيوت والأحياء والطرقات والأزقة، ناهيك عن امتلاكهم أصواتاً قوية، ومعروف عنهم الأمانة وصون "حرمة البيوت"، والأهم من ذلك، موهبتهم في استخدام الزجل والشعر، فصوتهم عذب، وذهنهم حاضر.
الفن للمستقبل
عبرت مهنة التسحير مجازات ومضايق وصعاب كثيرة ووصلت لنا، لكنها تحتاج إلى بحث وتوثيق ونقد، على المستويات كافة؛ ففيها أدب نظرًا لاعتمادها على قصائد ذات سمات محددة – لا ينفي هذا التجديد والتطوير – وهي أغانٍ وألحان وهي – بدخول عصر التلفزيون – أداءات تمثيلية ومشاهد ولقطات، فهل يمكن العمل على هذا؟ أدعو لتسجيل هذا الفن الشعبي في اليونسكو.. أدعو إلى إنشاء موقع إلكتروني يضم ما يتعلق به وبغيره.. هذا الفن الذي يحمل لنا الدين والتاريخ والوطن على بساط من تسامح وألفة.. رمضان كريم.