قراءة في رواية "ترمي بشرر"  لعبده خال

سيأخذك المشهد الأول للرواية الحائزة على البوكر 2010 إلى منطقة بربرية غير مفهومة، وسترى عقابًا منتهكًا تظل تكذب عينيك، لكن الكاتب سيأخذك من يدك ليفتح لك الباب على منطقة سوداء كأنها الجحيم – وإنها هو – بل سرعان ما تجد أهلها الفقراء العشوائيين يسمونها هكذا: "جهنم" والغريب أن الرواية تشرح المنطقة كمن يصحب كاميرا تسجيلية؛ فيتوغل من خلال بطله الأول وأسرته المستورة حتى مات أبوه حين سقط من على سقالة البناء، وأمه التي تزوجت عقب انقضاء العدة، وإخوته من زوجة أخرى لأبيه، وأصدقائه، وجيرانه، وحبيبته التي قتلها بتهوره، وأصدقائه المنحرفين، ثم دخوله لعالم القصر البربري.

لا يبدأ خال روايته من بدء الحكاية، وإنما من قبل النهاية بقليل؛ وهذه تقنية تعلق القارئ بالنص، لكنه يعضدها بتقنيات متتالية، وإن بقيت تقنية اللعب هي الأثيرة لديه؛ فخال لا يلقي في الرواية بكل تأسيساتها مجمعة، ويأخذ النص مسارًا حكائيا واحدًا، وإنما يشبه الأمر لعبة القطار في المتاهة، فكلما شعرت بالاقتراب فوجئت بمنحرف جديد، لكن اللافت أنه على الرغم من هذا فإن مستوى معرفتك بالحكاية يزداد.

عبده خال روائي سعودي من مواليد المجنة (جنوب المملكة العربية السعودية) عام 1962. حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة الملك عبد العزيز في جدة قبلما بدأ مشواره في الكتابة عام 1980. من أعماله "حوار على بوابة الأرض"، "ليس هناك ما يبهج" و"مدن تأكل العشب". ترجمت بعض أعماله إلى الانكليزية والفرنسية والألمانية. عضو مجلس إدارة في نادي جدة الأدبي ومدير تحرير في جريدة "عكّاز"، وله زاوية يومية في الجريدة نفسها.

ما الحكاية؟ إن طارق فاضل ابن حي جدة العشوائي والمنسي، المهتم بذكورته غير القادر على السيطرة عليها، لا يكتفي باصطياد الصبيان هو وأصدقاؤه، وإنما يفض بكارة حبيبته "تهاني"، دون أن يعبأ بصرخاتها المتوسلة ويقفز من الشباك هاربًا ليجده رفيقه "عيسى الرديني" الذي يخبره بأنه وجد عملا يحفظ ماءه من اللاثمن.. هو عمل في قصر السيد.. وبين لقاء عيسى الأول والأخير تنمو الحكاية.

العمل هو اغتصاب من يضايقون السيد، نعم اغتصاب الرجال، وكسر أعينهم، نعم، وأمام السيد الذي صار يتلذذ بهذه الحالة، فقرر عمل فريق كامل لتنفيذ هذه المهمة، ثم وجد أن هناك من يتلذذ بالاغتصاب، ويصر على إزعاجه حتى تتكرر العملية.. دائرة سوداء جهنمية لا تنتج إلا العفن.. هكذا يمد خال الخيوط، ويلقي كل حين بماريونيت سرعان ما تخطف المشاهد| القارئ لمنطقة تنير الحكاية.

خمسة وثلاثون عامًا يقوم طارق بمهمته إضافة إلى مهام أخرى ربما لا تقل قذارة، تقبيض فتيات الدعارة، تجهيز الليالي الماجنة، مراقبة الضيوف، دون أن يحاول التخلص لأنه أدرك منذ البداية أنه لا خلاص، حتى تأتي اللحظة، اغتصاب "عيسى الرديني" رفيق الطفولة وسبب الدخول إلى هذا العالم، سلطة وملايين وشهوة.

كلما تقدم العمر بطارق، حاول الفكاك، لكن إحكام سيطرة السيد على المدينة، وساديته العقابية، ورقابته الرهيبة التي وصلت حد التجسس على مساكنهم وسياراتهم.

كيف اقترب عيسى الرديني حتى صار الآمر الفعلي، و "خوي" السيد؟ وكيف صعد حتى حصل على الدكتوراه من أكبر جامعة عربية؟ ثم كيف انتهى به الحال.. عاريا.. شبه مجنون.. ثم مغتصبًا.. ثم مقتولا برصاص حارس البوابة الذي عينه الرديني، ومن الشرفة أطلت "موضي" زوجة الرديني وأخت السيد؟

هل هو الحب؟ فعيسى وموضي عاشا قصة حب توجاها بزواج، رفض كثيرون كتابة عقد زواجها رغم مضاعفة الأموال؟ المأذون الذي فر، وعاقد الأنكحة الذي رفض ثائرًا، ولما لم يكن من حل، كان طارق هو المأذونّ! فرغم غنى الرديني فثروته وصلت مائة مليون، ورغم حصوله على الدكتوراه، ورغم أنه من أنقذ حياة السيد حين كان صغيرًا؟ ورغم أن السيد الكبير أعلنه وقتها أخًا لابنيه، وها هو كبيرهما يقتله.

هذا العالم المحكم الذي بناه عيسى لم يسقط بسبب الحب، بل الظلم الذي انتقل من كونه باوامر إلى أن صار هواية، ثم عدوى.. حتى سقطت في يده هو وعائلته.. مرام.. أو بالأحرى سقطوا في يدها.. كيف؟ تزوج زوج خالد فتاة فقيرة يتيمة، وعاملها كجارية، وحين علمت أخته أخبرت عيسى الذي جرده من كل شيء حتى عقله، أما هي فطلقها وجوعها هي وأهلها وحولها عاهرة بأقل أجر.. لكنها صارت محظية السيد والآمرة الناهية.. وبهدوء أنثى تتحرك نحو صيدها دون أن يشعر أحد بحركتها ودون أن تشعر بسكون، تتقدم حتى تجد الخطأ الصغير الذي لا تلمحه كاميرات السيد.. وتجهز اللحظة دون أن تظهر.. لكن يظل شعور بأن المهمة غير تامة فهي بحاجة إلى: اعتراف تطهيري منها، أو اعتراف بالخطأ.

لا تجد مرام سوى طارق فاضل؛ فتأخذه أولا من حيث يحب؛ الجنس وتفيض عليه بما لا تحتمله منشطاته وفحولته، وكأنها تشعره أنه شاخ وفي طريقه للذبول.. وبين أحضانه تحكي عما جرى لها، وعما فعلت.

الرواية اختارت حارة الحفرة بجدة، وقدمت لها تشريحًا مكانيا وسكانيًّا دون محاولة لتجميل الوضع، ويحسب للكاتب شجاعته في تسمية الأماكن، ويمكن الآن أن نقرأ أخبار هذه الحارة وبيع المخدرات على الأبواب، وحملات الشرطة المتكررة عليها، ورغم الظروف المالية الصعبة؛ فقد كان للحارة مورد رزق هو الصيد من البحر حتى جاء السيد وأخذ الشاطئ والبحر والجزر؛ فصار حلم الكثيرين هو العمل في القصر، فيما دافع قليلون عن حقهم فماتوا ميتات بشعة.

اختار الكاتب عدة طرق مغايرة ولافتة، فالإهداء جعله بتوقيع طارق فاضل بطل الرواية وراويها، وجاءت كلماته معبرة عن شخص يقف على حافة الاعتراف لأنه فقد طهارته ودمرها هي وكل جميل صادفه، بعد الإهداء تأتي "عتبة أولى" وبقراءتها تكتشف أنه يقصد ""عتبة الدار" فهي مرقى لترى إلى أين تدخل.. بعدها تتحرك الرواية حركة ارتدادية والجميع وقوف يشاهدون انوار القصر يتمنون دخوله ثم تاتي الآية الكريمة عتبة بمنطق "جينيت" وإلى اليمين عنوان فرعي "القصر" وتسير الرواية هكذا وكأن الراوي آثر أن يحدد مركز السرد، رغم أنه يفارقه، ويحكي قبل وجوده.. ثم يفصل (الكاتب) بإيهام يحمل عنوان "البرزخ" متضمنًا صورًا لصحف، ومقابلة مع البطل، وتوثيق لفتيات الليل وكيف وصلن لهذه الحالة، ثم يعود إلى شخصيات الرواية محددًا مصائرها، وفي النهاية يبقى حارس القصر حمدان البغيني محاولا تغيير تسمية حي النار أو جهنم بعد أن كان اسمه المعروف حي الحفرة إلى حي القصر إلا أن الناس رفضوا، وبعدها انتقل إلى مكة ليقض بقية عمره هناك، وظلت حارة الحفرة تتذكر ثلاثة من أبنائها صعدوا صعودا صاروخيا وسقطوا كذلك وبقي صبية الحي يحصون أنوار القصر ويتمنون دخوله.. وينهي الكاتب الرواية بورقة نتيجة لأول عام 1430 هـ.

رغم اختيار خال لتقنية الراوي المشارك؛ فإنه يتخلص من محدودية معرفته باستماعه للحكايات، والحكي المجزأ، ثم يأتي جزء البرزخ أغلبه بصيغة الراوي العليم، وفيه مقاطع يذكر فيها اسمه "عبده خال".

شخصيات الرواية تشعر القارئ أنه أمام العالم كله؛ فمن المسيحي المتعصب، حتى العواهر والقوادين، ومن السيد المبجل المهيمن، حتى الفتيات المسحوقات وأصحاب العاهات، ويبدو ماثلا بدقة أن مصائرها محكومة مهما حاولوا الفكاك منها؛ فبطلها الأول طارق فاضل حاول الهرب من اغتصابها لمن أحبته، لكنه ظل محكومًا بخيالها وهو يطارده، وأسامة البشري الذي هرب بعد علمه بتزويج تهاني من أحد أقاربها ظل يبحث عنها وعن اللص الذي تسبب في هذا، لكنهما يكتشفان أن ماتت فيذهب أسامة إلى قبرها، ويظل طارق محكوما بلعنتها ولعنة من ظلمهم، أما عيسى فتكون نهايته مفجعة فقرًا وتعرية واغتصابًا ثم قتلا.

جدة  - العاصمة الصيفية  للسعودية - هي إحدى محافظات منطقة مكة المكرمة وتقع في غرب المملكة العربية السعودية على ساحل البحر الأحمر. تبعد المحافظة 949 كم عن العاصمة الرياض، وتبعد 79 كم عن مكة المكرمة، وتبعد 420 كم عن المدينة المنورة تعد العاصمة الاقتصادية والسياحية للمملكة العربية السعودية، ويذكر في معنى اسمها أنها: بضم الجيم: جُدَّة التي تعني بالعربية شاطئ البحر. وهي التسمية التي يذكرها ياقوت الحموي في معجم البلدان وابن بطوطة في رحلته، وبفتحها: جَدَّة (بمعنى والدة الأب أو الأم). ينسب سكان المدينة التسمية لأم البشر حواء التي يقولون إنها دفنت في هذه المدينة التي نزلت إليها من الجنة بينما نزل جدنا آدم في الهند والتقيا عند جبل عرفة ودفنت هي في جدة. وتوجد مقبرة في المدينة تعرف باسم مقبرة أمنا حواء، وبكسر الجيم: أي جِدَّة وهذا هو النطق الشائع عند أهل جدة أنفسهم.

وعلى الرغم من عناية الموسوعات بالحديث عن جدة ونظامها فإنها تكاد تخلو  من أي حديث عن حارة الحفرة تقريبا، لكنها تحضر باستمرار في أخبار الحوادث، ويبدو أنه آن الأوان لمواجهة هذه العشوائيات بتطويرها وتهيئة طروف معيشية ملائمة.. حتى لا تظل تؤذي القاصي والداني وهي: "ترمي بشرر"