- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
السودان: الموت بحثاً عن جرعة دواء
بعد ثلاثة أسابيع من الحرب التي اندلعت في السودان، كان أحمد محمد، البالغ من العمر 24 عاماً، يحادث أسرته قائلا: «أنا على موعد مع الموت قريباً». كانت حالته تزداد سوءاً يوماً تلو الآخر، لانعدام أدوية زرع الكِلى في الخرطوم. كان الشاب يقول قوله هذا، ووالدته تذرف الدمع حزناً على ابنها الذي كان يحلم قبل أشهر قليلة بوطن ديمقراطي.
كان أحمد من شباب «ثورة ديسمبر» الذين أسقطوا حكم الإسلاميين، فأصبح ضحية لصراع جنرالين على السلطة، يطلان بين حين وآخر بوجوه ضاحكة، فيما يموت المواطنون بسبب أسلحتهم، وبسبب انعدام الدواء والعلاج.
خضع محمد لعملية زراعة كِلى في يناير (كانون الثاني) الماضي، بعدما تبرع له أحد أشقائه بكليته، لكنه فقد حياته داخل سيارة إسعاف كانت تنهب الطريق إلى ود مدني (200 كيلومتر جنوب الخرطوم)، لعله يحصل على الدواء الذي افتقده في العاصمة بسبب الحرب، وأعلنت السلطات توفره في تلك المدينة البعيدة.
سوق سوداء
المأساة التي أودت بحياة الشاب العشريني بعد معاناة في الحصول على العلاج، لا تقل مأساوية عن حالة نظرائه من مرضى الكلى البالغ عددهم 12 ألفا في عموم البلاد.
تقول سكرتيرة نقابة الأطباء، عطية عبد الله، لـ«الشرق الأوسط»: «بعض الأدوية والمساعدات الإنسانية، تتسرب للأسف إلى السوق السوداء، وتنعدم الممرات الآمنة لإيصالها إلى المرضى الذين يقطنون في مناطق النزاع»، مؤكدة، أن المرضى يواجهون خطر الموت بسبب توقف تزويد الولايات الواقعة خارج دائرة الحرب بالدواء، واضطرار السلطات الصحية المتداعية إلى خفض عدد جلسات غسيل الكلى وتقليل مدتها، لتوزيع المتاح من الأدوية على أكبر عدد من المرضى.
مسعفون يعملون مع منظمة «أطباء بلا حدود» في أحد المراكز الصحية قرب الحدود التشادية (رويترز)
وليس انعدام الدواء وحده هو سبب الموت، فكثيرون من المرضى فقدوا حياتهم داخل منازلهم لانقطاع المياه والكهرباء في أيام الحرب الأولى. ولا توجد إحصاءات دقيقة عن أعدادهم، وذلك مرهون بوقف القتال وإنهاء الحرب، وهذا ما أشارت إليه سكرتيرة نقابة الأطباء عطية عبد الله بالقول: «توفي جميع مرضى الكلى في مدينة الجنينة في غرب السودان بعد إغلاق جميع مراكز الغسيل، وانعدام الأدوية نتيجة للاشتباكات العنيفة بين الجيش والدعم السريع من جهة، وبين بعض القبائل من جهة أخرى، ما اضطر عشرات الآلاف للفرار إلى دولة تشاد المجاورة أو النزوح إلى ولايات أخرى».
وتسببت الحرب المستمرة أيضاً بوفاة مرضى السرطان الذين انقطع عنهم الدواء والعلاج بالأشعة، فلجأوا إلى ولاية «الجزيرة» وسط البلاد لتلقي العلاج، ما سبب ضغطاً كبيراً على منشآتها الصحية المحدودة، وتوقفت أجهزة العلاج بالأشعة.
وتقول تقارير طبية إن أدوية الكِلى والسرطان متوفرة في مستودعات الإمدادات الطبية التي تقع في منطقة المعارك والقتال بين المتحاربين، ولا يستطيع أحد الوصول إليها لنقلها إلى المستشفيات والمرضى.
ويشار إلى أن تقارير صحية دولية أكدت توقف 65 في المائة من المستشفيات في الخرطوم عن العمل، وخروجها من الخدمة، فيما تعمل النسبة المتبقية بشكل جزئي. وطريق الوصول إليها محفوف بالمخاطر بالنسبة للمرضى والطواقم الطبية، فضلاً عن انقطاع الكهرباء والمياه، وهي الحال التي يعانيها «المستشفى السعودي» في الخرطوم.
وقف إنساني للحرب
ويطالب مواطنون طرفي النزاع بوقف الحرب والتوقف عن ارتكاب المزيد من الجرائم ضد الإنسانية. ويقولون إن أجهزة الرقابة أثناء عمليات الهدنة ليست فعّالة، ويضيفون: «المراقبة عن طريق الأقمار الاصطناعية يمكن الاستفادة منها أكاديمياً أو بحثياً، لكنها لن توقف القتال»، فيما يعتبرها آخرون إرضاء لطرفي الصراع، ويعتبرون أن فكرة تشكيل لجان مراقبة من الطرفين مع نقابة الأطباء لزيارة المستشفيات، والتأكد من خروج القوات، «مدعاة للسخرية، لأنها لا تستطيع فرض شيء على الأرض».
وقد غادر كثير من المرضى منازلهم إلى خارج البلاد بحثاً عن علاج، آملين بالعودة بعد رحلة الاستشفاء، لكن الأقدار كتبت لهم عدم العودة. وعلى سبيل المثال، قتل الطيب عبد الوهاب وأربعة من أبنائه في حادث سير، وهم في طريقهم إلى مصر هرباً من الحرب، أسوة بأكثر من 200 ألف لاجئ سوداني هناك.
ومثلما مات عبد الوهاب بحادث سير، فقد آخرون حياتهم أمام معبر «أرقين» على الحدود المصرية - السودانية، من مرضى السكري والكلى والسرطان، وفقاً لأطباء تحدثوا إلى «الشرق الأوسط». وقالت تقارير إن بعض المرضى الذين لجأوا إلى مصر يعانون أوضاعاً اقتصادية قاسية، إذ نفدت أموالهم خلال شهري الحرب، ولا يستطيعون البقاء أو العودة.
انتحار سيدة
ومنذ الشهر الأول للحرب، تداولت مواقع التواصل الاجتماعي آلاف المناشدات لتقديم العون لأسر فقيرة، أرفقت بها أرقام هواتف، وأجرت «الشرق الأوسط »اتصالاً ببعض الأرقام، فأكد أصحابها أنهم «فقدوا أعزاءهم بسبب الجوع»، وأنهم لا يملكون ما يشترون به الطعام، وبعضهم شباب كانوا يعيلون أسرهم، لكنهم أصبحوا بلا عمل، فيما تنتظر تلك الأسر مساعدات لا تصل.
مسعفون ينقلون مصابا من غرب دارفور (رويترز)
وليس الموت مرضاً أو جوعاً أو بالرصاص هو وحده ما ينتظر المدنيين الذين شردتهم الحرب. فقد انتحرت سيدة ثلاثينية اغتصبها أربعة أفراد يرتدون أزياء قوات «الدعم السريع» في الخرطوم بحري، أمام أطفالها، وبعد يومين لحق بها زوجها نتيجة لإصابته بشظايا قذيفة. وخوفا من «العار»، أخفت الأسرة الجريمة، وقالت إن السيدة «قتلت بصعقة كهربائية».
ويحفل سجل «المأساة السودانية» بروايات كثيرة عن وقائع موت معلن، بعضها يمكن الوثوق به والتحقق منه، وبعضها مختلق، وبعضها نصف حقيقي. لكن المؤكد أن الحرب خلفت مأساة إنسانية كبيرة لن تشفى منها البلاد لسنوات طويلة مقبلة.