الطائر بعيدا عن جدران مرتفعة تبتلع ظلالها

profile
  • clock 2 أبريل 2021, 12:47:38 ص
  • eye 1237
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

قيل إن العنوان هو من يمنح النص كينونته، وإنه مفتاح لباب النص الموصد، فعنوان أي عمل فني هو الضوء الكاشف لدلالته ومعناه، والعنوان يمثل شيئا هاما في الرواية إذ هو مدخل القارئ للعالم الروائي، فهو يمثل انطباعا أوليا في ذهن القارئ قبل تلقي النص، وهو معبر يتم بواسطته الدخول إلى النص لفهم مقاصده، وتصور رموزه، ومعرفة أبعاد النص ومحاولة الكشف عن بنيته العميقة.

لذا يجب أن يعتنى الكاتب به ويحسن اختياره، حتى يستطيع تكثيف الخطاب الروائي وتلخيصه ودفع القارئ في اتجاه هذا الخطاب، ذلك إن نجح الكاتب في صياغته بشكل فني بعيد عن المباشرة، وإكسابه قيمة مجازية، وهذا ما يدركه جيدا الأديب "السيد نجم" فنجده يجعل من عناوينه صورا رمزية كما نجد في أعماله "العتبة الضيقة" و"غرفة ضيقة بلا جدران" وأخيرا روايته "جدران مرتفعة بلا ظل"، وفيها يرسم العنوان صورة رمزية معقدة، يسعى النص نفسه إلى تفكيكها، فالجدران جمع جدار، والجدار كلمة ذات مدلولين، أحدهما حقيقي والثاني مجازي.

والجدار في معناه الحقيقي الواقعي هو عنصر بنائي ثلاثي الأبعاد، وللجدار وظائف عدة، لكن تركيز العنوان على بعد واحد فقط من أبعاده الثلاثة، وهو "الارتفاع"، يحيل إلى واحدة فقط من وظائفه، وهي عزل كل ما يوجد داخله عن كل ما يقع خارجه، وهذا يرتبط بالمدلول المجازي لكلمة "جدار"، فهو شيء افتراضي، يعبر عن عائق نفسي يمنع المرء من إتيان تصرف ما، فمثلا القوانين والأعراف، تعتبر جدرانا لا مرئية تفصل بين الناس وبعض تفاصيل الحياة.

أما الظلال فهي جمع "الظل" وهو المنطقة التي احتجبت عنها أشعة الشمس المباشرة، أو الظلام الناتج عن حجب جسمٍ ما للضوء، ومنعه من الوصول إلى سطحٍ ما، فالجدران المرتفعة تحجب ضوء الشمس عن الوصول إلى ما خلف الجدران، فيعيش المتواجدون داخل الجدران في ظلام، وهكذا تدل الجدران المرتفعة مجازيا على السجن، سواء كان واقعيا أو نفسيا.

ولعل هذا ما قصده الراوي العليم حينما افتتح الرواية بتوجيه الحديث إلى المروي له: "لك أن تتخيل في حيرة هل يمكن أن يعيش المرء خفيا خلف الجدران وخارجها، فلا يرى من بصمة قدميه على أديم الأرض أثرا؟".

الحرية والصدفة

يفضي التساؤل إلى فتح نافذة للمروي له يسمع من خلالها حوار الشخصية الأساسية في الرواية "فرحان محمد الجيزاوي" مع صديقه اللدود ومدير المصلحة التي يعمل بها، عن الحرية، المدير قارئ للكتب، ينقل عنها ويحفظ بعض سطورها، ومن بينها تعريفات مختلفة للحرية لكن لا تنفذ القراءات إلى روحه لذا لا تؤثر في سلوكه، على العكس من فرحان، الذي يوجز مفهومه للحرية بقوله "عرفت الحرية عندما شعرت بكبحها، وهو ابن لأب مات سجينا لأنه أدرك ثأره، تخشى الأم على رضيعها من أن يكون هدفا للموتورين فتسلمه إلى ملجأ أو دار إيواء للأيتام واللقطاء، فيكبر موصوما بأنه ابن حرام، لم تختر له اسما، في الملجأ رأوه مبتسما فمنحوه اسم فرحان، ولأن نصف رجال البلد يحملون اسم محمدا، ولأنه ينتمي للجيزة فهو الجيزاوي، هكذا منحته الصدفة اسمه وهويته، والصدفة يعرفها المدير نقلا عن الكتب، بأنها تتشكل بحدوث فعلين معا عن غير عمد، بينما فرحان مقتنع بأن حدث الصدفة يتجلى دون أسباب تفسره.

هكذا ينطلق السيد نجم في روايته من فكرة، وليس من حدث، وفكرته هي الحرية، والخروج من أسر الجدران العالية التي تبتلع الظلال.

يكبر فرحان في الملجأ، يعيش في عزلته ويدمن مراقبة سكان الحارة وحيواناتها عبر النافذة، وتتمثل له الحرية في قط أبيض سمين، يراه يعدو ويأكل ويبول ويتجول في الحارة بلا رقيب ولا حسيب، لذا يتعقب القط ويقتفي أثره وكأن القط سيقوده إلى الحرية، فيتعلم تسلق الجدران والمواسير والهرب إلى الحارة ثم العودة إلى الملجأ.

في أوقات الهروب تلك اعتاد أن يلعب الكرة في الساحة الشعبية، وأظهر مهارة كبيرة جعلته أهم شخصية بعد الكابتن العجوز، لم يعرف السعادة إلا في أرض الساحة، يقول "أعطتني الفرصة لأن أعرف مشاعر الفوز والانتصار والفرح، ثم ما وصلني من اعتراف الآخرين بتفوقي، وليس اختلاس الفوز كما كنت أمارسه بتسلق الماسورة أو سور دار رعاية الأيتام"، لذا فكر في الهروب نهائيا، والبقاء بالساحة، وتكررت محاولاته الفاشلة، فإدارة الملجأ كانت تبلغ الشرطة لتخلي مسئوليتها عنه، وكان المخبرون السريون يعثرون عليه ويعيدونه حتى بلغ الثامنة عشرة، فلم يهتم أحد بالبحث عنه، يقول فرحان بأسي "لأول مرة لا أجد من يهتم بي، كأنني لا حيا ولا ميتا"، فقد مأواه فآواه الكابتن في غرفته الخشبية الكائنة فوق سطح عمارة ضخمة بميدان الجيزة.

مطاردة

يبدأ فرحان في مطاردة لقمة العيش بعد أن كان يطارد القط الابيض السمين، فيعمل في بوفيه مصلحة حكومية، يقدم المشروبات للموظفين، ثم يلتقطه العقيد ويجعله أحد مصادر معلوماته، يدربه على العمل كصحفي، كيف يلتقط الأخبار، كيف يقيمها وينتقي منها ما يصلح للنشر أو لبلاغ العقيد به، فيقتحم عالم الصحافة الصفراء، ويصبح فرحان صحفيا في "صوت الجيزة"، "وأصبحت الصحافة تلبي عنده الجانب الخير والجانب الشرير معا"، فمن خلالها تحسنت أحواله وشعر بالتحقق، كما استخدمها في ابتزاز الفاسدين من رجال المال والسياسة. وكما يصفه الراوي "تحول من قطة صغيرة عرجاء إلى نمرة لا تعرف غير أنيابها".

اعتاد فرحان أن يبوح لأجندته الزرقاء بأسراره وأفكاره، يدون فيها كل ما يتذكره وما يمر برأسه، فيكشف حقيقته وحقيقة الكبار الذين تعرف عليهم من خلال عمله الصحفي، وبدا أن حياته ستستمر هكذا حتى قامت ثورة يناير، ففقد الباشا مقعده في مجلس الشعب، وكان قد أهمل وظيفته وكثر غيابه عن العمل ففصلوه، الفراغ أتاح له فرصة الانفراد بنفسه فتذكر ما قال عمال المؤسسة عن أمه فقرر أن يبحث عنها، طالت رحلة البحث كثيرا لكنه في النهاية وجدها فحبسته خوفا من طلاب الثأر، وكما هرب من دار رعاية الأيتام يهرب من دارها ليعود إلى الكابتن والعقيد، يشير الصحفي عليه بأن ينهي الثأر بتسليم الكفن وطلب الصفح ممن يطاردونه، والعقيد وافق ومنحه تكلفة الرحلة، لكن بعد العودة إلى القاهرة يختفي، ويقول الراوي "راج بينهم جميعا أنه ذهب ولم يعد.. لأسباب لم تكشف عنها الصحف ولا دفاتر الشرطة، ولا ثلاجات المستشفيات ومشرحة زينهم.. ولا خيالات الادباء"، لم يبق منه إلا الأجندة الزرقاء التي أتاحت للراوي معرفة ماضي فرحان، الذي اختفى فلم نعد ندري هل منحه العقيد الذي أصبح عميدا دورا آخر باسم جديد أم أن انتهاء الثأر منحه حريته فطار بعيدا عن الجدران العالية.

التعليقات (0)