بلاغة التراث البديل الذي أنزل الشعر من برجه العاجي ليعفره بتراب الأزقة

profile
  • clock 24 أبريل 2021, 4:25:09 ص
  • eye 828
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01


  يلقى الأدب الشعبي أو أشكال التعبير الفني باللهجات المحكية عنتا رسميا يصل لدرجة التجاهل والازدراء، لكن المبدع الشعبي واصل إبداعه بالرغم من عدم ذكر اسمه،

 فأبدع أعمالا قاومت التجاهل والنسيان وعاشت رغم توالي مرور العصور عليها، ولعلنا نجد الدليل على ذلك في السير الشعبية المختلفة

 وفي كتاب " ألف ليلة وليلة". هذا التناقض بين الإنكار الرسمي والاحتضان الشعبي يعكس انقساما ثقافيا وإجتماعيا، يسميه الدكتور كمال عبد الملك أستاذ الأدب العربى فى الجامعة الأمريكية فى دبى،

 بالانفصام القومي، الذي أحدث في مصر فجوة كبيرة بين الجماهير وأهل الفكر، فأحدث عزلة مزدوجة، عزلة المفكرعن أناس يعبرعنهم، وعزلة الجماهيرعن إبداع النخبة.  

  وعقب نكسة 1967، ظهرت أشعار وأغنيات تعبر الحرب والحرية باللهجة العامية، وظهر شعراء تجاوزوا تلك الفجوة، فراجت قصائدهم وأغانيهم بين الطبقات الشعبية وغير المتعلمة

 وحازت أيضا على إعجاب المثقفين، ومن بين هؤلاء " أحمد فؤاد نجم" الذي كتب أشعاره بالعامية القاهرية بعدما نهل من معين الأمثال الشعبية، ليعالج فيها أمراضا إجتماعية مزمنة كالفقر المدقع، 

والأمية، والاضطهاد السياسي، لذلك لاقت أغنيات الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم حظرا رسميا، لم يمنع رواجها الساحق بين كافة طبقات المجتمع المصري،

فالحظر الرسمي إذن لم يحول دون انتشار الأغاني لكن أدى إلى تأخر دراستها من قبل الباحثين، وقد رأي بعضهم أن أشعار نجم جاءت كرد فعل لحدث سياسي أو إجتماعي فينبغي التعامل معها كمنتج سياسي اكثر من كونها بلورة لخيال خاص، 

ومن هؤلاء الدكتور كمال نجيب عبد الملك، فهو في كتابه "أشعار أحمد فؤاد نجم بلاغة التراث البديل"، اتبع منهجا مبنيا على تحليل القضايا السياسية والإجتماعية في شعر نجم.

 ويلاحظ أن الكتاب ظهر لأول مرة  باللغة الإنجليزية، قبل أن يترجمه المؤلف بنفسه، ويصدره بتحرير  وتقديم الباحث والشاعر "مسعود شومان"، ضمن المشروع القومي للترجمة بالقاهرة.      

الفاجومي                            

  يقول الكاتب بالرغم من عدم حصول "نجم" على أى تعليم نظامى، فهو من أهم شعراء العامية فى عصرنا، فهو  يبدو لنا فنانا بوهيميا تارة، ورجلا فاجوميا سليط اللسان تارة أخرى،

 وهو شاعر ينظم بعامية مواطنيه مستخدما الأشكال الفلكلورية فى أشعاره، وعلى عكس شعر الفصحى نجد شعر نجم العامى يدخل إلى قلب وعقل الغالبية العظمى من مواطنيه المصريين،

 حيث يشعر أنه مستمد من لغة الشارع المعبرة عن حكمة وسخرية الأمة المصرية، إلا أنه لا يستخدم التراث الشعبى بطريقة آلية ولا لكى يسترضى الجماهير،

 فهو يمزج التراث الشعبى بصوته الثورى ويشحن بطارية الموروث بتيار الحداثة والثورية والالتزام بقضايا الفقراء والمحرومين،

 وإذا كان الموروث الثقافى يحض العامة على التصالح مع واقعهم وقدرهم فى الحياة، حتى ولو كانت مأساوية، فإن أشعار نجم تحتفل بقدوم بلاغة جديدة، بلاغة بديلة تنفض عن جسدها قدرية التراث وتقاليده البالية.

   ويميز الكاتب بين مرحلتين مرت بهما تجربة نجم الأولى  تبدأ من أربعينيات القرن العشرين وحتى 1967 ويسميها مرحلة الوعي السياسي، والثانية مرحلة الإلتزام من 1967 ومابعدها حتى عام 1980.

 وهكذا يرى الباحث أن حرب يونيو 1967، هي الفاصل بين مرحلتي نجم، فبعدها لم يكتب قصيدة حب واحدة، ولم يعد يهدي قصائده لغاندي ( مثل قصيدة ساتياجراها) أو لغيره، 

فقد أصبح مقتنعا بأن القوة وحدها هي الكفيلة باستعادة شرف مصر، وقد أودت به قصائده التي لحنها وغناها الشيخ إمام عيسى إلى السجن،

 فبعد ثلاثة أعوام قضياها في سجن القلعة خرجا في عام 1972 ليشاركا في مظاهرات الطلبة ضد حالة اللاسلم واللاحرب، فعادا ثانية إلى السجن بعد خمسة وستين يوما فقط  من الحرية.

 وظلا مناديا بوجوب الحرب لتحرير الأرض، فلما قامت حرب أكتوبر كتب نجم  قصيدتين من أشهر أغانيه هما " دولا مين" و "ضليلة فوق راس الشهيد"، ويلاحظ أن نجم غنى للجندي والشهيد ولم يغن أبدا للحكومة.

القضية والخلاص              

 يرى الكاتب أن ثمة تكافلا بين العالمين الداخلي والخارجي للشاعر في كلا مرحلتيه، بداية من السعي للتحرر من الاحتلال الإنجليزي وحتى حرب أكتوبر 1973،

 فالأحداث التي مر بها الوطن تركت بصماتها على وعي ووجدان الشاعر، فجاءت أشعاره خصوصا في مرحلة الالتزام السياسي جزءا لا يتجزأ من السخط الشعبي، 

وقد كان نجم طوال حياته واعيا بالتفاوت الطبقي في مصر، وعبر عنه في قصائد كثيرة منها هجائته " يعيش أهل بلدي"

 ويرى نجم أن لا خلاص لمصر إلا بالثورة، لكن أية ثورة؟ يعلن في قصائد كثيرة رفضه لنهج الإخوان المسلمين ( مثل أغنيته: والمشايخ/ كل شايخ/ في الفساد/ يهدي الهدايا)،

 لكنه حينما أيد الثورة الإيرانية وأهداها ديوانا كاملا، لكنه كان يؤيد معارضي نظام الشاه القمعي المدعوم أمريكيا، 

فهو يعارض ما تعارضه الثورة ولم يكن داعيا لنظام حكم ديني، بل كان داعيا لثورة على طريقة صلاح الدين الأيوبي المسلم/ وتشي جيفارا الماركسي، وهوشي منه،

 وهي القناعة التي عبر عنها في قصائد كثيرة ويلخصها قوله : " ولا غير السلاح في الحرب يحكم/ ويحكم في المشاكل والقضايا".    

  ويتناول الباحث ظاهرة استلهام نجم لبعض عناصر المأثور والتراث الشعبى معرجا بشكل سريع على عدد من الأنواع والعناصر الشعبية،

 حيث يؤكد أن التناص مع بعض عناصر الثقافة الشعبية بتنوعاتها، وآليات تشكلها فى بنية النص الشعرى تعد واحدة من الاستراتيجيات التى يعتمدها معظم شعراء العامية،

 ولا تقتصر ظاهرة التناص عند الاستلهامات الفولكلورية وحسب، وإنما تتسع لتشمل التناص مع تراثات عدة،

 وقد ناقش هذه الآليات ورصدها، فضلا عن مقاربة العلاقة الشائكة بين النص الشعرى/الفردى، والنصوص الشعبية/ الجماعية،

 قبل أن يقرر أن شعر العامية لم يكن امتدادا للزجل، أو للشعر الشعبى، يدعونا إلى هذا القول أن هناك ربطا متعسفا يعقد أواصر صلة ما بين الشعبى والعامى، ويجعل الأخير امتدادا له.  

وكان الهدف الدائم لنجم أن يجعل الشعر في متناول الشعب، ليكسر الاحتكار الذي تفرضه الفصحي ككتابة رسمية، 

وأن ينزل الشعر من برجه العاجي ليتسخ بالتراب ويتفاعل مع الغلابة من سكان الحواري والأزقة الضيقة،

 وبهذا المعنى فإن أشعار أحمد فؤاد نجم قدمت مثالا حقيقيا للتعبير الثقافي عن العوام.





التعليقات (0)