- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
بيسان عدوان تكتب: في مديح ظل الأربعين
بيسان عدوان تكتب: في مديح ظل الأربعين
- 8 سبتمبر 2023, 7:51:26 ص
- 681
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
اليوم كما أيام المنافي، يوم عادي، كل ما هنالك هو أنك كبرت كالظل في وقت تستريح فيه الشمس. من دون أن تدرك النهارات التي تشهد وحدتك، غير أنه مر ثمانٌ وأربعون شهراً في المنفى، واليوم أتممت الثماني والأربعين عاماً، هو رقم نكبتنا أيضاً، حين توقفت عقارب الساعة في البلاد منذ ذلك الحين، لا شيء هنا.. ولا شيء هناك، سوي الرزنامة المعلقة على جدران هزيمتنا في البلاد.
في المنفى يصبح الوقت شديد العتمة، يتدفق الانتظار في روحك، يتبعك كظلك، يعلن حضوره في شيبك الذي لم تنجو منه رغم صبغات الشعر السوداء، في تجاعيد عنقك الذي تعجز مستحضرات التجميل عن تخبئتها. يطل في يدك وأناملك معلناً عن نفسه من دون تعب.
صباح الخير يا أمي، كان صوتك هو ميقاتي لعبور النهارات البعيدة، حسك في الهاتف الخلوي، وصورتك في كاميرا الفيديو هما نجاتي الوحيدة. كل الكلام الذي لا تبوحين به، يصلني عبر عينيك اللتين تلمسان الشاشة في محاولة منهما لاحتضاني. كنت تظنين أنني - ابنة الموت - لم تدركي أن هناك موتاً آخر ينتظرني في آخر العمر يسمي الغياب.
في الغياب، لا شيء يشبه البلاد، لا شوارع المدينة، ولا البيوت التي تسكنها، ولا السماء التي تطل عليك كل نهار ثلجي، ولا الليل بسكونه القاتل، ولا المتوسط هنا، يشبه البحر على الضفة الأخرى، ولا الصوت يشبه صوت أمي، ولا المنامات تزورك بخفة كل ليلة، ولا اللغة تجتاحك كمفردات البلاد، على ما يبدو أني كبرت يا أمي أعرف ذلك من صوت الموسيقا التي تدور في روحي، من وحدتي التي باتت تشبهني - تماماً - من العبارات الإلهية التي أعبر بها الفضاء الأزرق كل يوم. من باقة الورد الصباحي التي تتركها لي صديقة في صندوق بريدي اليومي، من الحنين الذي لم ينته، ولم يكف عن الضجر.
هنا لا مكان للضجيج، ولا لرائحة الأصدقاء ولا لطعم البلاد، فقط الحزن الذي يؤنس وحدتي، هو مثلي يكبر يوماً بعد يوم، وأنا أعد القهوة كل صباح ينتظرني، وأنا أجلس خلف شاشتي الصغيرة يصاحب أناملي حين ابتدئ الحكايات، وأنا أطالع البريد الإلكتروني يجلس بجواري، يصاحبني إلى البقال يشتري السجائر نفسها، ويدخن معي بهدوء، يصاحبني في كل الساعات التي أعيد بها ترتيب الطريق بما يليق بصبري. يحب الآيس كريم مثلي تماماً، ويأكل البطيخ والجبن، ويرسم من القهوة خطوط يستقرئ بها أمنيات العودة.
لم يعد هنالك مكان للأمنيات يا أمي، كنت أريد بيتاً يشبه بيتنا، وبلكوناً كبيراً يمتلئ بالورد ونباتات الصبار التي تحبينها، كنت أريد أن نشرب الشاي في المساءات مع صوت أم كلثوم، وحكايات العشاق التي لم تكتمل، والنميمة على كل الجارات التي تسكن حكاياتهن حبل الغسيل. وحبيب هاجر إلى بلاد الثلج. ملأ حقيبته بكل الرسائل التي كتبتها من دون وداع.
كنت أريد بنتا يا أمي تؤنس البيت، وتملأ غرفتها بالموسيقا الصاخبة وألوان قوس قزح في خزانتها، وتصاحبني إلى السوق وتشتري أحلاماً بلون تمردها، وتطلق العنان لشعرها الأسود ليموج في الوقت، تعلن عصيانها اليومي على المدرسة والكتب والدفاتر والفرائض اليومية، تشاغب التفاصيل اليومية المنهكة، وتسخر من موسيقانا ومكتبتي وصوت المذياع في غرفتك.
كنت أريد بنتا يا أمي تشبهك تماماً لها العينان نفسهما، والملامح نفسها، لكنها بلون الحنطة في البلاد، ينسدل موج يافا بين قدميها الصغيرتين وهي تلوّح بيدها الصغيرة للطائرات الورقية صوب البحر. وتبني من الرمال طريقاً للعودة يسير فيه كل المنفيين الذين لم يلفتوا نظر أحد.
كبرت يا أمي، ولم تتحرك عقارب الساعة التي على جدران البيت منذ ثمانٍ وأربعين عاماً، ولم تأت البنت، وكل المنسيين ضلوا الطريق صوب البلاد. وحده المنفى يعرفنا تماماً.