- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
توران قشلاقجي يكتب: أربعون عاما من الإمامة العربية في جامع الفاتح
توران قشلاقجي يكتب: أربعون عاما من الإمامة العربية في جامع الفاتح
- 10 فبراير 2022, 6:27:18 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
شهدت الإمبراطورية العثمانية العديد من العلماء المشهورين ذوي أصول عربية، وقد نشأ العديد من العلماء والسياسيين على يد هؤلاء العلماء، ونظرا إلى أن الإمبراطورية العثمانية كانت دولة متعددة الأعراق، فقد يكون من الصعب نوعا ما الكشف عن الشجرة السلالية العرقية لكل هؤلاء العلماء، ومع ذلك يمكن الكشف عن التركيبة العرقية للعديد منهم حسب الموارد المتوفرة لدينا.
ولعل أحد أهم هؤلاء العالم المعروف بلقب “المعلم العربي”، الذي شغل منصب إمام مسجد الفاتح لمدة 40 عاما في الفترة الأخيرة من حكم الإمبراطورية العثمانية، ولم يكن مجرد إمام لمسجد الفاتح، بل كان يلقي أيضا محاضرات عن القرآن الكريم والتفسير والحفظ في المدارس الدينية، في المناطق حول المسجد، وكان يعتبر واحدا من أكثر أساتذة إسطنبول المحبوبين، وكانوا الناس يقدمون من بعيد إلى منطقة الفاتح للتعلم منه.
إنه معلم عظيم حقا قام بتدريب مئات الطلاب في علوم الإلقاء والتجويد في زمانه، وكان يلقب أيضا بـ”المقرئ الحافظ العربي” و “الإمام الأسود”. هذا المعلم الذي لا يشبهه أحد في مهنته، كان يُدعى أيضا “قطب القُراء”. ومن ناحية أخرى عرفته جماعة مسجد الفاتح باسم “قطب الفاتح”.
العديد من الأسماء المشهورة كانت قد استفادت من محاضرات المعلم العربي، فقد تلقى مؤرخ إسطنبول الشهير جمال الدين سيرفر رونق أغلو، والشاعر الوطني التركي محمد عاكف إرسوي المعرفة منه، وكان لهذا الأثر البالغ في تدرجه خطوة بخطوة نحو إمكانية تفسير وشرح القرآن الكريم، وترك الركائز له ما جعله يتقن اللغة العربية. وقد أشار محمد عاكف إرسوي إلى هذا المعلم المتميز في العديد من قصائده.
معلم عظيم قام بتدريب مئات الطلاب في علوم الإلقاء والتجويد في زمانه، وكان يلقب بـ”المقرئ الحافظ العربي”
كما وصف المؤرخ الكبير رونق أوغلو أستاذه ومعلمه بقوله: “بابتسامته النادرة، ووجهه ذي البشرة الداكنة، وحاجبيه الكثيفين المتقاربين، واللحية الكثيفة المجعدة ، ووقاره المغروس بالرحمة، وصوته الرخم المملوء بنبرة التجويد، إنه المعلم العربي الشهير الذي درّس لمدة أربعين عاما في جامع الفاتح، ولم يكن فقط معلما، بل كان والدا وأبا لمحمد عاكف، الذي أصبح يتيما وهو في الخامسة عشرة من عمره. عاش الشاعر الوطني التركي محمد عاكف أرسوي في مصر بين عامي 1924 و1936 ومن ثم عاد إلى إسطنبول أثناء مرضه، حيث أمضى العام الأخير من حياته في صراع مع المرض، وعلى الرغم من أنه لم يلتق وجها لوجه مع “المعلم العربي” ، إلا أنه لم يقطع الاتصال به قط، وعندما جاء محمد عاكف إلى إسطنبول ودخل المستشفى استمر الاتصال بين المعلم وطالبه. ومع ذلك، لم يتمكن المعلم العربي من زيارة تلميذه بسبب مرضه، وحتى بعد إجراء عمليات له لم يتوقفا عن المراسلات في ما بينهما، هذه المراسلات التي بدأت من زمن تخرج عاكف من المدرسة البيطرية واستمرت حتى اللحظات الأخيرة من حياته. وبينما كان عاكف في سريره أثناء مرضه كان سعيدا بسبب الأخبار التي تلقاها من معلمه، فقد روى عاكف الخبر الذي أتاه من أستاذه لصديقه أشرف أديب، الذي جاء لزيارته في المستشفى فقال له: “تعال، تعال يا أشرف. انظر المعلم العربي قد بعث لي برسالة لقد كان أستاذي المفضل”، وبعد إخبار صديقه تمكن عاكف من النهوض من سريره بمساعدة الممرضة ثم عاد بعد بضع دقائق من الاتكاء على السرير واستلقى على سريره مرة أخرى وأجريت له عملية جراحية وأزيل الماء المتجمع في معدته، لقد كان لرسالة المعلم العربي أثر كبير فيه حتى جعلته ينسى مرضه.
بعد أن عاش في حي الفاتح في إسطنبول لمدة 55 عاما، أمضى “المعلم العربي ” السنوات الأخيرة من حياته في منطقة ساريير في إسطنبول وبعد عام واحد من وفاة عاكف توفي المعلم العربي يوم الخميس 1 سبتمبر 1937. وأذاعت وسائل الإعلام التركية الخبر على النحو التالي: “حلقت روح قارئ القرآن محمد راسم…” وعندما قرأ أهل إسطنبول في الصحف، أن المعلم العربي قد توفي، وقتها فقط عرفوا أن اسمه الحقيقي غير المستخدم هو محمد راسم، حيث كان اسمه محمد راسم أوزبلجين فقد أخذ لقب “أوزبلجين” في عهد الجمهوريين فهو مهاجر من فلسطين إلى إسطنبول. وفي اليوم الذي رحل فيه المعلم العربي امتلأت شوارع منطقة ساريير بكثير من الناس راحوا يحتضنون نعشه. أعداد لا حصر لها من الطلاب والأصدقاء والمعجبين والزملاء والعلماء، الذين كسب ودهم خلال مسيرته في حياته التدريسية التي استمرت 81 عاما، جاءوا جميعا يملأهم الأسى والحزن والبكاء عليه فالآلاف من الناس من جميع أنحاء إسطنبول توافدوا لحمل قبر هذا المعلم العربي لتخرج له جنازة لم تشهد لها مثيلا من قبل إسطنبول.