- ℃ 11 تركيا
- 31 أكتوبر 2024
جوزيف مسعد يكتب: تفوُّق قيمة حياة اليهود الصهاينة
جوزيف مسعد يكتب: تفوُّق قيمة حياة اليهود الصهاينة
- 27 أغسطس 2023, 5:33:43 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
أدانت وزارة الخارجية الأمريكية وعدد من الجماعات اليهودية والإسرائيلية قبل بضعة أيام؛ تصريح وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير بأن "حقي وحق زوجتي وحق أطفالي في التنقل بحرية على طرقات يهودا والسامرة أهم من حق العرب في التنقل. آسف يا محمد، لكن هذا هو الواقع". وقد شبّه الأمريكيون خطابه بالتصريحات العنصرية، التي زعموا أنهم يستنكرونها. كما أدانت جماعات الضغط الصهيونية، بما في ذلك جماعة "الأغلبية الديمقراطية من أجل إسرائيل" و"منتدى السياسة الإسرائيلية"، تصريحات بن غفير ووصفتها بأنها "بغيضة" ومضرّة بصورة إسرائيل في الخارج، كما انضمت الجماعات المناهضة للاحتلال في إسرائيل إلى جوقة الإدانة
لقد أصبحت مثل هذه الإدانات من طرف الصهاينة الليبراليين والحكومات الغربية المؤيدة لإسرائيل أمراً دارجاً منذ إقرار البرلمان الإسرائيلي لقانون الدولة-القومية في عام 2018، والذي نصّ على أن "الحق في ممارسة تقرير المصير الوطني في دولة إسرائيل هو حق محصور بالشعب اليهودي". ولكن هل هذه القوانين والبيانات الجديدة أكثر عنصرية من تلك التي أصدرتها أي من حكومات إسرائيل منذ عام 1948، أو الحركة الصهيونية منذ ولادتها في أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر؟
يعرف المستوطنون اليهود اليمينيون التاريخ الصهيوني والإسرائيلي جيداً. في الأسبوع الماضي، احتجت مجموعة من قادة المستوطنين على العمليات العسكرية "المعتدلة" زعماً؛ التي قامت بها الحكومة الإسرائيلية اليمينية ضد الفلسطينيين الذين يعيشون في ظل الاستعمار الصهيوني، مطالبين الحكومة بنهج أكثر صرامة. وكان أحد قادة المستوطنين، يوسي داغان، أكثر وضوحا: "أدعو حكومة اليمين إلى التعلم من حكومات حزب ماباي كيفية محاربة الإرهاب". وأوضحت صحيفة تايمز أوف إسرائيل أن إشارة داغان إلى حزب ماباي "يشير إلى سلف حزب العمل من يسار الوسط الحالي، الذي حكم البلاد خلال سنواتها الأولى وأشرف على عمليات انتقامية قاتلة رداً على الهجمات عبر الحدود".
إن داغان على حق بالطبع. في الواقع، كان مؤسس الصهيونية نفسه، ثيودور هرتزل، قد أسرّ في مذكراته في عام 1895، أنه يجب على المستعمرين اليهود مصادرة ممتلكات السكان الأصليين "بلطف"، و"محاولة نقل السكان المفلسين عبر الحدود من خلال توفير فرص العمل لهم في الدول المجاورة بينما نحرمهم من أي فرص عمل في بلدنا". وأضاف هرتزل: "سينضم أصحاب الأراضي إلينا"، وأصر بأنه "يجب أن تتم عمليتي المصادرة وتهجير الفقراء بتكتم وحذر".
هذه الاعترافات المبكرة بطبيعة المشروع الاستعماري الذي أقامته الصهيونية وبمشروعية المقاومة الفلسطينية، وإن كان لليهود المستعمرين بحسبها الحق الأخلاقي والمتفوق في قمع تلك المقاومة، سيتم تقييمها بأنها خطيرة للغاية في سياق الخطاب المناهض للاستعمار الذي انتشر في عقد الستينيات وأثار قلق قادة إسرائيل من أنه قد يؤدي إلى تنفير مؤيدي إسرائيل الليبراليين البيض في الغرب. ونتيجة لذلك، أصبح من الضروري اتباع سياسة جديدة تقوم على الإنكار الصريح لما تنطوي عليه الصهيونية بالنسبة إلى الفلسطينيين
لقد كان تفوق الحقوق الاستعمارية اليهودية على حقوق السكان الفلسطينيين الأصليين دائماً السمة المميزة للحركة الصهيونية. وبصفته المحلل الصهيوني الأكثر رصانة لمقاومة الشعب الفلسطيني للصهيونية، فقد شبّه الزعيم الأوكراني للصهاينة الإصلاحيين اليمينيين، فلاديمير جابوتنسكي، الفلسطينيين بجميع الشعوب التي خضعت للاستعمار. أصر جابوتنسكي على أن المشروع الصهيوني واضح: "نحن نسعى لاستعمار بلد ضد رغبة سكانه، أي بالقوة". وفي مواجهة من يرى أن المشروع الصهيوني غير أخلاقي نتيجة استعماره أرض الفلسطينيين، يؤكد جابوتنسكي: "إما أن تكون الصهيونية أخلاقية وعادلة، أو أن تكون غير أخلاقية وظالمة. لكن كان ينبغي علينا أن نحسم جواب هذا السؤال قبل أن نصبح صهاينة. وفي الواقع كنا قد حسمناه، بالإيجاب". وختم: "الصهيونية أخلاقية وعادلة".
وأوضح جابوتنسكي، تماشياً مع الفلسفة العنصرية للمنظر السياسي الإنجليزي جون لوك، الذي أضفى الشرعية على سرقة المستوطنين البيض أراضي الأمريكيين الأصليين، أن العدالة لليهود تعلو فوق حقوق الفلسطينيين في وطنهم: "إن التربة ليست ملكاً لهؤلاء الذين يملكون الأرض الفائضة، ولكن لأولئك الذين لا يملكون أي شيء. إنه عمل من أعمال العدالة البسيطة أن يتم عزل جزء من أراضيهم عن تلك الأمة التي تعد من بين كبار ملاك الأراضي في العالم، من أجل توفير ملجأ لشعب متشرد ومتجول. وإذا قاومت مثل هذه الأمة الكبيرة المالكة للأراضي، وهو أمر طبيعي تماماً، فيجب إجبارها على الامتثال بالإكراه".
وقد استرشد الزعيم البولندي للحركة الصهيونية في فلسطين ديفيد بن غوريون بنفس مبدأ جون لوك. فبحسب بن غوريون، كان اليهود المستعمرون، بصفتهم أوروبيين حداثيين، يطورون أرض فلسطين التي يزعم أنها كانت بوراً في أيدي السكان الأصليين. ففي عام 1924 أدلى بصراحة: "إن الحكم الذاتي الوطني الذي نطالب به لأنفسنا نطالب به للعرب أيضاً. ولكننا لا نعترف بحقهم في حكم البلاد إلى الحد الذي لا يتم بناء الوطن من قبلهم، بل لا يزال ينتظر من سيبنيه"، أي المستعمرون اليهود الأوروبيون.
وقد سجّل رئيس المنظمة الصهيونية البيلاروسي حاييم وايزمان معارضته لحق الفلسطينيين في تقرير المصير في عام 1930 بينما دعمه لليهود المنتشرين حول العالم، مؤكداً أن "الحقوق التي منحت للشعب اليهودي في فلسطين [بموجب انتداب عصبة الأمم] لا تعتمد على موافقة، ولا يمكن أن تخضع لإرادة، غالبية سكان فلسطين الحاليين". كان وايزمان واضحا في أنه عندما وعد البريطانيون الصهاينة بوطن قومي في فلسطين "لم يطلبوا موافقة العرب الفلسطينيين"، وأضاف أن السبب وراء عدم أهمية الموافقة الفلسطينية هو الطبيعة "الفريدة" لـ"الارتباط" اليهودي بفلسطين. أما بالنسبة إلى الفلسطينيين أنفسهم، فلا يمكن "اعتبارهم مالكين للبلاد بالمعنى الذي يمتلك به سكان العراق أو مصر بلدانهم". فإذا تم منح الفلسطينيين حق تقرير المصير أو الحكم الذاتي أو "مجلس تشريعي"، فسيكون ذلك بمثابة "منح البلاد لسكانها الحاليين".
يتم التعبير عن تفوق الحقوق اليهودية على حقوق الفلسطينيين فقط من قبل كل مؤسسي الصهيونية دون استثناء، ولكن أيضاً ومنذ عام 1948 من قبل الساسة الليبراليين في إسرائيل، الذين أصروا بدورهم على تفوق الحقوق اليهودية على حقوق الفلسطينيين دون أي شعور بالحرج
إن هذه الاعترافات المبكرة بطبيعة المشروع الاستعماري الذي أقامته الصهيونية وبمشروعية المقاومة الفلسطينية، وإن كان لليهود المستعمرين بحسبها الحق الأخلاقي والمتفوق في قمع تلك المقاومة، سيتم تقييمها بأنها خطيرة للغاية في سياق الخطاب المناهض للاستعمار الذي انتشر في عقد الستينيات وأثار قلق قادة إسرائيل من أنه قد يؤدي إلى تنفير مؤيدي إسرائيل الليبراليين البيض في الغرب. ونتيجة لذلك، أصبح من الضروري اتباع سياسة جديدة تقوم على الإنكار الصريح لما تنطوي عليه الصهيونية بالنسبة إلى الفلسطينيين. لذلك اضطرت غولدا مائير الأوكرانية، كرئيسة للوزراء في عام 1969، لإنكار حتى وجود الشعب الفلسطيني ذاته في مناسبة الذكرى الثانية لاحتلال ما تبقى من فلسطين في حزيران/ يونيو 1967. وقد حظيت مائير آنذاك، كما هو حالها اليوم، بالترحيب الدولي باعتبارها سيدة دولة غربية مستنيرة. أما خطابها البغيض المليء بالأكاذيب الذي أدلت فيه بأنه "لم يكن ثمة شعب فلسطيني هناك ونحن أتينا وطردناه وأخذنا وطنه منه. فهو لم يكن موجوداً"، فلم يقلل من مكانتها في نظر الليبراليين الغربيين المؤيدين للصهيونية.
لكن رغم ذلك، لم يتم التعبير عن تفوق الحقوق اليهودية على حقوق الفلسطينيين فقط من قبل كل مؤسسي الصهيونية دون استثناء، ولكن أيضاً ومنذ عام 1948 من قبل الساسة الليبراليين في إسرائيل، الذين أصروا بدورهم على تفوق الحقوق اليهودية على حقوق الفلسطينيين دون أي شعور بالحرج. ففي عام 1972، أكد وزير الخارجية الإسرائيلي الليبرالي المولود في جنوب أفريقيا، أبا إيبان، أن "حق تقرير المصير الإسرائيلي يجب أن تكون له الأسبقية الأخلاقية والتاريخية على حق تقرير المصير الفلسطيني، رغم أنه لا يستبعده كلياً".
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحقوق التي منحتها الصهيونية لليهود المستعمرين لم تكن تتفوق على حقوق الشعب الفلسطيني فحسب، بل كانت أيضاً تتفوق على حقوق يهود الشتات. ومن الأمثلة المروعة لهذا المنطق رد ديفيد بن غوريون على العرض البريطاني، في أعقاب المذبحة النازية التي ارتكبت في عام 1938 والمعروفة باسم "ليلة تحطيم الزجاج"، بنقل آلاف الأطفال اليهود من ألمانيا مباشرة إلى بريطانيا: "لو كنت أعرف أنه كان من الممكن إنقاذ جميع الأطفال في ألمانيا عن طريق نقلهم إلى إنجلترا، وإنقاذ نصفهم فقط عن طريق نقلهم إلى أرض إسرائيل، فسأختار البديل الثاني، لأنه يجب علينا أن نقيِّم ليس فقط حياة هؤلاء الأطفال، ولكن أيضاً تاريخ شعب إسرائيل".
ما يفعله ويصرح به القادة اليمينيون في إسرائيل ومستوطنوها اليهود بأمانة تامة يفضح تاريخ الصهيونية وإسرائيل برمته على أنه لا يختلف قيد أنملة عن حاضرها العنصري. لكن ثمة قاعدة ليبرالية لدى مؤيدي إسرائيل بضرورة إخفاء التاريخ الاستعماري والعنصري للصهيونية، وهو إخفاء يتم انتهاكه عندما تطلق الحكومة الإسرائيلية اليمينية وبن غفير والمستوطنون هذه التصريحات وتصدر هذه القوانين بصيغتها الفاضحة
هنالك أمثلة لا تعد ولا تحصى على شاكلة هذه التأكيدات عبر التاريخ الصهيوني والإسرائيلي، ناهيك عن العشرات من القوانين التمييزية الإسرائيلية التي تمنح اليهود حقوقاً تفضيلية ومتفوقة على الفلسطينيين، والتي لا يبدو أن أياً منها يسيء إلى مشاعر العديد من الليبراليين الغربيين والإسرائيليين المؤيدين لإسرائيل، بما في ذلك العديد من المنظمات اليهودية الصهيونية الليبرالية. لماذا إذن يبدو أن العديد من هؤلاء يشعرون فجأة بإحساس عميق بالإهانة نتيجة استصدار قانون الدولة-القومية الإسرائيلي، ومن تصريحات بن غفير والمستوطنين اليهود الآخرين؟
الجواب بسيط، إن ما يفعله ويصرح به القادة اليمينيون في إسرائيل ومستوطنوها اليهود بأمانة تامة يفضح تاريخ الصهيونية وإسرائيل برمته على أنه لا يختلف قيد أنملة عن حاضرها العنصري. لكن ثمة قاعدة ليبرالية لدى مؤيدي إسرائيل بضرورة إخفاء التاريخ الاستعماري والعنصري للصهيونية، وهو إخفاء يتم انتهاكه عندما تطلق الحكومة الإسرائيلية اليمينية وبن غفير والمستوطنون هذه التصريحات وتصدر هذه القوانين بصيغتها الفاضحة. يجب أن نتذكر في هذا السياق أن جميع رؤساء الولايات المتحدة أعلنوا دعمهم للصهيونية، وآخرهم جوزيف بايدن الذي أعلن نفسه "صهيونياً". أما أسوأهم، باراك أوباما، فهو مَن انتقد الفلسطينيين في خطابه سيئ السمعة في القاهرة في عام 2010 لتجرؤهم على مقاومة إسرائيل، وحثهم على الاعتراف "بحقها" المزعوم "في الوجود" كدولة يهودية، و"الاعتراف بشرعية إسرائيل". كما اتهم أوباما الفلسطينيين الذين يهددون بنية إسرائيل وقوانينها العنصرية بالسعي إلى "تدمير" إسرائيل، وأضاف أن "الفلسطينيين"، وليس الإسرائيليين، هم مَن "يجب أن يتخلى عن العنف، فالمقاومة عن طريق العنف والقتل خطأ ولن تنتصر".
إن ما يهدد مثل هذه الاحتفاءات الليبرالية والإمبريالية المؤيدة لإسرائيل هو الصدق النادر لحكومة إسرائيل اليمينية وتصريحات بن غفير والمستوطنين اليهود الآخرين الصريحة والخالية من التزوير. يبدو أن هذا الصدق هو ما يتسبب بالإساءة لليبراليين الصهاينة، وليس العنصرية المناهضة للفلسطينيين والإصرار على تفوق حقوق اليهود المستعمرين على حقوق الفلسطينيين أصحاب البلاد، وهو تفوق لطالما دعمته الجوقة الليبرالية المؤيدة للصهيونية، ناهيك عن الأمريكيين الذين دعموا ورعوا الاستعمار الاستيطاني اليهودي منذ عام 1948، ولطالما قبلوا به ودافعوا عنه دون تحفظ.