- ℃ 11 تركيا
- 5 نوفمبر 2024
حسن مدبولي يكتب : الإقتصاد القسري
حسن مدبولي يكتب : الإقتصاد القسري
- 20 يونيو 2021, 1:24:37 م
- 857
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
فى الدول الرأسمالية يؤمنون بأن التحرير الشامل لآليات إدارة الإقتصاد الوطنى يعتبر المدخل الرئيسى للتنمية وتحقيق الرفاهية ،
وبالتالى فهم يستبعدون أى تدخل للدولة فى الشأن الاقتصادى، سواء كان ذلك التدخل متمثلا فى دعم بعض السلع، أو فى ممارسة أية أنشطة إقتصادية تكون مملوكة للدولة، أو تحديد لأسعار السلع والخدمات ، أو وضع تقييم لسعر العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية ، إلخ ،وترى النظم السياسية الغربية التى تتبع تلك الفلسفة الإقتصادية إنه لكى ينهض العالم ويتقدم ، ينبغى على الدول الأخرى التى لا تنتمى للمنظومة الغربية، أن تعمل على تعديل الأنماط الحالية السائدة فى أنشطتها الإقتصادية والإجتماعية ، وأن تلتزم تلك الدول بتطبيق وإتباع سياسات إقتصاد السوق الحر ، وبالتالى التخلى عن السياسات السائدة الغير (حرة ) كمدخل ضرورى لتبادل المصالح التجارية معها ،
وطبقا لهذه الرؤية الأحادية التى يتبناها أيضا صندوق النقد الدولى، فإنه ينبغى على الدول الأخرى غير الرأسمالية أن تقوم بإلغاء تحملها لقيمة الفارق بين التكلفة الفعليةالمرتفعة، وسعر البيع المنخفض، لبعض السلع والخدمات (كالخبزوالوقود)(إلغاء الدعم )وكذلك التخلص من الشركات العامة المملوكة للدولة(الخصخصة) وأيضا القيام بتسريح وتشريد العمالةفى الأجهزة والمؤسسات الحكومية(المعاش المبكر) وتحرير أسعار الصرف للعملات الوطنية (التعويم)وترك تحديد أسعار السلع والبضائع لآليات العرض والطلب(أسعار السوق) وتبعا لما تسفر عنه المنافسة بين شركات القطاع الخاص بعضها البعض، وطبقا للمقدرة الشرائية المتوافرة فى المجتمع(حرية التداول) ،،،
كما يتطلب الأمر كذلك منح القطاع الخاص وحده حق توفير فرص العمل والسلع والخدمات والتعليم والعلاج والإسكان والنقل إلخ،وأن تتخلى الدولة عن أى دور أو نشاط إقتصادى أو خدمى الا فيما يتعلق بالنظم المالية والنقدية،
بل إنه حتى فيما يخص النظم المالية لتلك الدول، يكون فرض الضرائب فى أضيق قدر ممكن على من يتولون ويقودون العمليات والأنشطةالانتاجيةوالتجارية(رجال الاعمال)بحجة تشجيع الاستثمار، بينما تزيد تلك الضرائب بشكل دائم على المستهلك وحده، عبر التفنن فى فرض أنواع متتالية تشمل المساكن الخاصة والعقارات الصغيرة والسيارات الخاصة تحت غطاء الحفاظ على موارد الدولة وافساح المجال للتصدير والحد من الواردات،
وبالتالى فعلى أى دولة نامية ترغب فى الحصول على شهادة صلاحية تتيح لها الإنخراط فى جنات ونعيم سوق التجارة الغربى، أن تسارع بتعديل نظمها الإقتصادية لتتطابق مع آليات إقتصاد السوق الحر ، ووفقا لشروط صندوق النقد الدولى، وبعد نيل الرضا من مسئوليه،ويطلق على عملية تعديل السياسات والنظم الإقتصادية
وتحويلها الى النظام الرأسمالى،بعملية إعادةالتكييف الهيكلى والمالى للاقتصاديات الوطنية ؟
الغريب هنا والمثير،أن تلك السياسات لم تثبت أى نجاح يذكر فى أى دولة نامية تتشابه مع واقع و ظروف الدولة المصرية ،بل أن تطبيق تلك السياسات أدى إلى كوارث متعددة وصلت لحد إعلان إفلاس بعض الدول مثل اليونان والأرجنتين وشيلى وغيرها ، كما تسبب الالتزام بتطبيق تلك السياسات إلى وقوع غالبية الدول الأفريقية والعربية وبعض دول العالم الثالث فى شراك التبعية المطلقة للدول الغربية، مع إستمرار التخلف والتدهور المعيشى وتفشى الفساد والبطالة والمرض وتراجع قيمة العملات الوطنية ،وإنهيار الخدمات الرئيسية كالصحة والتعليم وغيرها ،
فنجاح تلك السياسات الرأسمالية فى بعض الدول الاستعمارية الكبرى أعطى انطباعا مغريا بحتمية التقدم والنمو والإزدهار فور تطبيق تلك السياسات الرأسمالية فى البلدان الأقل تقدما ، الأمر الذى إتضح زيفه وثبت عدم صلاحيته ، وهو ما أعاد طرح نظريات وسياسات أخرى متعددة ترى أن تطبيق النظم الرأسماليةعلى عمليات إدارة الإقتصاديات الوطنية فى العالم الثالث
سيؤدى حتما إلى نتائج غير محمودة العواقب على كافة المستويات الأقتصادية والاجتماعية والوطنية،و ترى أن تحقيق التنمية الحقيقية خاصة فى الدول النامية يجب أن يكون متوازنا ويعتمد بشكل أكبر على نهج تخطيطى شامل تقوم من خلاله الدولة بدور اقتصادى رئيسى واضح بكافة المجالات الصناعية والتجارية والزراعية والخدمية مثل العلاج والتعليم والثقافة والفنون والإسكان ،وكذلك الإعتماد على الصناعات الاستراتيجية الكبرى كإنتاج الحديد والصلب وغيرها ،لضمان تحقيق التقدم والتنمية فى إطار من العدالة الاجتماعية، مع الحفاظ على الإستقلال الاقتصادى والسياسى والثقافى لكل دولة ، وهناك أمثلة عالمية متعددة يمكن إعتبارها نماذج ناجحة لتطبيق تلك السياسات المتوازنة، فيمكن أعتبار البرازيل والأرجنتين والصين والهند وماليزيا وفنزويلا وسنغافورة وإيران وكوريا الشمالية وفيتنام ورواندا وجنوب أفريقيا وغيرها من الدول، أدلة متميزة تؤكد على إمكانية التنمية بدون الاعتماد على السياسات الرأسمالية المتوحشة التى تؤدى إلى التبعية وتسبب كوارث إجتماعية ؟
بمعنى أبسط فانه يمكن القول أن تحرير الاقتصاد بشكل مطلق ليس هو الطريق الأوحد أو الأمثل لإنجاز وتحقيق التنمية الإقتصادية،و لكن هناك طرق أخرى أكثر تناسبا مع ظروف الدول النامية ( غير البترولية ) تعتمد على دور فعال للدولة فى تخطيط وإدارة الإقتصاد الوطنى ، وحتى الدول الكبرى لم تعد تترك أسواقها حرة بالمعنى الاقتصادى البحت ، لكنها تتدخل من آن لآخر لحماية الدولة كماحدث أثناء
الأزمةالماليةالعقارية فى أمريكا في أغسطس من عام 2008 وغيرها ،
كما ينبغى الإشارة هنا إلى أن النجاح الذى حققته بعض تلك الدول الغربية الرأسمالية لم يأت فقط بسبب سياسات الباب المفتوح والمنافسة المطلقة، لكن هذا النجاح يعود أيضا الى سياسات الهيمنة الاقتصادية التى مارستها و لا تزال تمارسها تلك الدول الاستعمارية ضد البلدان الأخرى الأقل نموا بكافة الأشكال، وعلى سبيل المثال ما فعله الرئيس الأميركى السابق دونالد ترامب
(2016-2020) من إستنزاف لموارد بعض الدول الخليجية وارغامها على عقد صفقات أسلحة بالمليارات وإعتبار ذلك نجاحا لنموذجه اليمينى الفاشى ،
ومن الجدير بالذكر أيضا التنويه بأن الحرية السياسية للشعوب الغربية تتيح لتلك الشعوب امكانية التخلص عبر صناديق الإقتراع من أى حكومة تتبع سياسة اقتصادية تحقق فشلاأو نتائج غير مقبولة ، وتختار تلك الشعوب بإرادتها فريقا آخر يقوم بنفيذ سياسات مغايرة للسياسات الفاشلة للحكومة التى فقدت ثقة شعبها ،وهناك العديد من الأحزاب السياسية الوطنية فى الدول الغربية تتبنى نهجا إقتصاديا رافضا للسياسات الرأسمالية ولها حرية كاملة لعرض برامجها المناوئة للبرامج الرأسمالية ، أى انهم فى الدول المتقدمة غير مجبرين على تقبل سياسة واحدة لا شريك لها (على الأقل من الناحية النظريةووفقا للقوانين والدساتير الحاكمة) وهو أمر يختلف جذريا عما يحدث فى الدول المتخلفة ،و ينسف كل تلك الترهات الإجبارية التى تقع وتتم بإسم التنمية ويفرضها شخص واحد تهلل له جوقة المصالح والحسابات الخاصة ، ويتم فيها إرهاب وترويع كل رأى مخالف ؟
فالحرية الاقتصادية مرهونة بحرية سياسية تتيح للشعوب وحدها الاختيار بين إتباع طريقة أو أخرى لإدارة عمليات التنمية،أوبين حكومة يمينية رأسمالية وحكومة يسارية إشتراكية أو حكومة وسط بين هذا وذاك ، فى إطار من الرقابة والمحاسبة الوطنية المستقلة،
أما التنمية الإقتصادية والإجتماعية الحقة فإنها لم تتحقق أبدا فى أى بلد من بلدان العالم الثالث أو الثانى بمجرد طرد العمالة ،وإغلاق المصانع ،وإهدار قيمةالعملة الوطنية، وفرض الضرائب على الفقراء ، ولا بالقمع والقهر الداخلى مع إلتزام التبلد والبرود تجاه المؤامرات الخارجية التى تستهدف إغلاق وسد منابع ومصادر الحياة الرئيسية ؟
كما لم تنهض أى دولة على وجه الأرض نتيجة إنشاء البنايات الشاهقة التى لاحياة فيها، ويستثنى من ذلك إمارة أبو ظبى( الإصطناعية ،صاحبة العلاقات الخاصة مع الصهاينة) وهون كونج التى انشأتها ورعتها انجلترا لجعلها شوكة فى جانب التنين الصينى ؟