حسن مدبولي يكتب : نكوص الموهوبين !!

profile
حسن مدبولي كاتب مصري
  • clock 9 يوليو 2021, 6:04:59 م
  • eye 709
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

الموهبة والإبداع والتمكن لاتعنى إمتلاك المرء  للحقائق حتى ولو كانت نسبية ، كما لا تؤدى تلك الملكات الشخصية دائما إلى طريق القيم النبيلة فى الحياة ، ولاتعنى أيضا حتمية الإنتصار فى معركة الصمود والثبات ،و على المستوى الأدبى هناك  نماذج لشعراء خضعت مفردات اللغة  لمواهبهم الفذة، وكانوا عباقرة فى رسم اللوحات الرائعة بالأحرف والكلمات، فأطلوا علينا بإبداعاتهم التى تشى بشخوص تنشر الأمل والوعى  والثورة ،وتنبذ القهر والتخلف، ومنهم من دفع أثمانا باهظة نتاج أعماله، ومنهم من أصبح ملء السمع والبصر ، لكن مع كل ذلك فقد خارت قوى  وعقول وألسنة البعض منهم ، فغادروا ناصية المنطق ، وتحالفوا  مع الهوى ، وإستمسكوا بطريق المغانم والمنح الرسمية ، فكانوا سببا رئيسيا من أسباب انتكاسنا وتمرغنا فى المهانة تلو المهانة ، وإذا كان الموهوب المتخاذل  سببا من أسباب إنحدار الأمم ، فما بالك بالسطحى الجاهل الرويبضة الذى تصدر المشهد فى غفلة من الجميع ؟ 

أربعة نماذج ،،، 

الشاعر والكاريكاتورست صلاح جاهين ،  كان ملء السمع والبصر ، وقدم أعمالا شعرية رائعة منها الرباعيات الشهيرة ، وجائت شهرته عقب قيام ثورة يوليو ، وبالتحديد مع بدأ المرحلة الثورية الثانية فى الستينيات ، وقد كتب صلاح جاهين وقتها العديد من الأغانى الثورية الوردية ، ومنها  اغنيته الشهيرة(المسئولية) التى غناها عبد الحليم حافظ وكانت ترى أن مصر بفضل تنظيم الإتحاد الإشتراكى، أصبحت على طريق الإنجازات والحرية والوحدة العربية كما إستشرف خيرا سيعم القرية المصرية بفضل التطوير  !!

صنـــاعة كبـــرى ،

 ملاعـب خضـرا ،

(تمـاثيـل )رخـام ع (الترعــة)

 وأوبرا !! 

دى مـاهيــش أمـانـى ،

 وكـلام أغانـى ،

ده بـر تانــى ،

 قصــادنـا ، قــريـب "

لكن سرعان ما إنهدم الحلم ، ووقعت هزيمة يونيه  عام 67، وإنهارت أمانى وأغانى صلاح جاهين ، حتى أن الأبنودى قام  فى اغنيته الشهيرة" عدى النهار" التى غناها عبد الحليم ايضا بالرد عليه وعلى أمانيه الخيالية قائلا:-  

 وبلدنا ع (الترعة ) بتغسل شعرها

جانا نهار ،، معرفش يدفع مهرها !!

ثم خاطب الأبنودى بعدها عبد الناصر قائلا وهو لا يزال يلمز ضد جاهين :-

إنت السبب ، إنت السبب

عالجتنى فى الجلد 

وتركت العصب

أنظر !!!  لا ( تمثال )إتنصب!

ولا بهية الحرة 

لبست القصب!

وإنت السبب،

المهم أن صلاح جاهين وفور وفاة عبد الناصر  ترك الثورية والتماثيل والرخام ، وإنزوى ، لكن عصر السادات إحتضنه وضمه بقوة  ،فإستسلم جاهين  لعصر مابعد الإشتراكية والثوار، وانفتحت له كنوز الميديا ينشر ويرسم ويكتب مسلسلات وفوازير وأغانى  وغيرها ،فأصبحت الدنيا ربيع والجو بديع ، بل وبمبى كمان ؟

إلا أنه بعدما توفى السادات تراجع  عن تماهيه السابق مع مرحلة السادات،وقام بوصفها صراحة لإحدى وكالات الأنباء  بأنها كانت (دعارة )حتى أن جريدة الاهالى اليسارية وضعت ذلك الوصف فى خبر لها تحت عنوان شهد شاهد من أهلها؟ 

أما الأبنودى الذى لام على عصر عبد الناصر تماهيه مع كلمات صلاح جاهين وتخديراته ، وكتب شعرا يرد فيه على خرافة أحاديث التماثيل والرخام والأوبرا، فقد دخل عصر  السادات بحذر ،لكنه فوجئ  بصلاح جاهين يسبقه عند( الرئيس) كما سبقه فى عصر (الزعيم)  فاتخذ الأبنودى  قرارا بالنضال بقوة  ضد السادات، لدرجة إنه وصفه بالحاكم الصدفة الحاكم العار فى قصيدة المد والجذر :

وكم ذليل يا نيل وصبحك عِشا

وكام بليد الحِسّ يا ملطشة

لزْق القفا وركل الجزم أدمنت.

طاطيت واستسلمت،

للحاكم الصُّدفة،

الحاكم الجيفة !! 

و مع تلك المعارضة العنيفة تجاه عصر السادات ، يبدو أن الأبنودى لم يكن يحوز  رضاء جميع من هم خارج السلطة  ،  فقد كتب أحمد فؤاد نجم  قصيدة هجائية شديدة القسوة، رأى البعض أن المقصود بها كان عبد الرحمن الأبنودى ، أو صلاح جاهين أو الإثنين معا ،الله أعلم ، لكنها كانت قصيدة تستحق أن نتأملها بعمق نظرا لمفرداتها ومعانيها المؤلمة القاسية :-


"مجاول وشاعر

وبياع ملوحه

وتاجر غناوي

وسمسار بنات

نعيمه وزكيه( وعطيات) 

وتوحه

ومخبر مودك

على التجريرات

حضر من بلدهم

بمقطف ملوحه

جبر واشتراله

تلات تاكسيهات"

وبعد وفاة السادات ومرور السنوات الأولى من حكم مبارك ، بدا وكإن الابنودى قد تعايش مع عصر مبارك ، فكان ضيفا  على بعض البرامج والفضائيات الرسمية والخاصة ، ثم تفرغ للأغانى العاطفية، وبات وكإنه قد غادر مرحلة الغضب السياسى ،

( تفرق كتير ) وظل كذلك حتى وقعت أزمة الخليج الاولى عام 1991 فكان الأبنودى أحد أهم الأدباء المساندين  للعدوان الأميركى ضد العراق بحجة تحرير الكويت ؟ ،فكتب ديوانا كاملا أطلق عليه الإستعمار العربى ، ودشن سهرات تليفزيونية وأغانى تمجد دويلة الكويت ولا تبالى بتعرض ملايين العراقيين للذبح والإبادة ؟

ولما عاد العدوان الاميركى ضد العراق مرة أخرى  فى 2003 ،تجاهل الأبنودى الأمر ، ولم ينتهزها فرصة ليغسل عار مناصرته للأمريكان فى عام 1991 فلم يتحفنا بديوان ينتفض فيه لمواجهة الإستعمار الغربى وسقوط بغداد الحضارة ؟

بعد قيام ثورة 25 يناير 2011، إنتابت الأبنودى صحوة النضال والثورة القديمة وطالب الأبنودى فى أشعاره عم الظابط بأن يقتله لإن قتله مش هيعيد دولته تانى ؟ الغريب إنه عندما إختار الشعب طريقا مخالفا لتطلعات ورؤى الأبنودى الخاصة ، بعد قيام سلطة جديدة منعت المخصصات المالية عن العاطلين بإسم الثقافة ،والذين كانوا يقبضون شهريا مئات الآلاف من الجنيهات التى خصصتها حظيرة فاروق حسنى لهم ، تحول الابنودى الى محرض للضابط نفسه لكى  يقوم بقتل وذبح الآخرين فريق من المصريين ؟ وذلك رغبة على مايبدو فى إعادة دولته هو ( دولة الأبنودى )مرة أخرى،

قاعدِين فى (رابعة).

مين بقى اللّى اتشَطر

وزقهم سنْتِى عن الميدان؟

فاللِّى يهاجْم الجيشْ

 وبيْقُول: «عسكر»

بيِدِى مصرهدِيّة للإخوان!!

ولإننا مع الأسف موعودين منكوبين فى طليعتنا ونخبتنا ومناضلينا ، وبعد أن كان أحمد فؤاد نجم يعيب على الأبنودى وجاهين مواقفهما المرنة تجاه السلطة الرسمية، ورغم نضالاته وثوريته وتاريخه المجيد ودفعه لأثمان باهظة بسبب مواقفه الصلبة  ضد القمع والظلم ، إلا أنه تحول  فجأة فى منتصف عصر مبارك لشخص آخر، فغادر علاقته مع الشيخ إمام ،وبات ضيفا دائما على الفضائيات، يعمل كحكواتى محولا ذكريات الثورة إلى برامج تسالى فى قنوات المليارديرات من اصحاب الجنسيات المزدوجة، حيث تم تخصيص برنامج خاص له على إحدى تلك الفضائيات  يتحدث فيه عن ذكرياته وأيام نضاله (التى خرج فيها أحيانا عن النص لدرجة الفضفضة عن التحشيش) كما عرضت له إحدى الأعمال المسرحية  بالقاهرة ، وظل على هذا المنوال  حتى قامت ثورة 25 يناير  فعاد نجم إلى سيرته الأصلية مناضلا شغوفا بالثورة ، لكن وعلى طريقة الأبنودى ، تغير الرجل فجأة  مائة وثمانين درجة، وساهم وساند تحولات مصيرها التاريخى المحتوم ينتهى دائما  بالقمع والإستلاب ؟ 

 بل وصال وجال  ضد من لا حيلة لهم ولا سلطان ، ومتشرفا بأن السلاطين الجدد

 زى أولاده ؟ 

وعلى العكس من هؤلاء الثلاثة الموهوبين شعريا ، المهتزين المتراجعين مواقفيا ،كما تفسره لنا بعض المراحل فى حياة كل منهم ، يأتى الشاعر الموهوب العبقرى  فؤاد حداد ، الذى ظل ثابتا قابضا على الجمر فلم تغره الشاشات، ولا ملايين الجنيهات العائدة من التعاقدات الخاصة،ولا المنح المدفوعة مقابل التزام الصمت، أو مقابل الترويج  والتطبيل،  وظل صامدا حتى النهاية  يرى أن أم الكوارث تتمثل فى نقطتين رئيسيتين ، هما الإنفتاح الإقتصادى ، و التطبيع مع إسرائيل؟

جمع فؤاد حداد  بين الإنتماء الإنسانى،والثقافة العربية المسيحية الإسلامية، والهوية المصرية ،فى آن واحد،

وقد إنعكست تلك الثقافة الرفيعة على أعماله ، فباتت تمثل لوحات تراثية رائعة الجمال ،ومن منا يستطيع أن ينسى تلك الدرر من كلمات أغنية الأرض بتتكلم عربى التى لحنها وغناها سيد مكاوى :-

 ” الأرض بتتكلم عربى

         وقول الله !!

         إن الفَجْر لِمَن صلّاه ،،

        ماتَطوِلش معاك الآه ،،،

       الأرض الأرض الأرض ،

             الأرض بتتكلم عربى "

أول دواوين فؤاد حداد كان اسمه ” أفرجوا عن المسجونين السياسيين”، وقد اختار هذا الاسم المختلف والمتفرد تمامًا فى تلك الفترة ليعبر به عن موقفه السياسي والوطني وكذلك عن نظرته الجديدة فى الشعر، وقد صدر هذا الديوان عام 1952 تحت اسم “أحرار وراء القضبان” تجنبا لقيود الرقابة، بينما الإسم الأصلي صار عنوانا  للمقدمة، 

وقد تم اعتقال فؤاد حداد أكثر من مرة ، كانت المرة الأولى  عام 1953 لقيامه بنشر ذلك الديوان ،و أيضا لدفاعه بصفة عامة عن الحريات، وقد ظل سجينا حتى عام 1956 ،

 كما اعتقل فؤاد حداد للمرة الثانية من أبريل 1959 إلى أبريل 1964  لنفس الأسباب السياسية التى أدت إلى إعتقاله فى المرة الأولى ، لكن  هذه السنوات الخمس التى قضاها بالسجن للمرة الثانية لم تكن أيامًا عجافًا،لكنها فجرت بداخله طاقات فذة صنعت لنا تراثًا أدبيا رفيعا ، ونموذجا إنسانيا فريدا فى الصلابة والقوة والصبر ، فرغم تعرضه للتعذيب المستمر  والإذلال المنهجى بالمعتقل، لكنه لم يستسلم أو ينهار ، بل خرج من السجن أشد إنتماءا وأقوى إيمانا !!

عانى فؤاد حداد أيضا فى الفترة من 

عام  71 إلى عام 80  تضييقًا شديدًا فى المعيشة  وحصارًا خانقا  على أعماله، بسبب مواقفه السياسية الرافضه لمعاهدة كامب ديفيد ولسياسة الإنفتاح الإقتصادى، 

وفى  خلال الفترة من يناير 1980 وحتى وفاته أول نوفمبر 1985 كتب مايقرب من ثلثى أعماله ، ولم يستسلم لليأس أو ينهار ، او يتراجع عن مواقفه مقابل منحة من هنا او هناك ،،

ورغم روعة أعماله العظيمة، ومواقفه الوطنية الشريفة،وإعتزازه بإنتمائه الصادق للثقافة العربية الإسلامية، وإستمراره قابضا على الجمر رغم ضيق العيش الذى لازمه حتى وفاته ، إلا أن النكران لا يزال يطاله ميتا ،كما طارده حيا عليه رحمة الله تعالى ،  رحم الله الشاعر الكبير فؤاد حداد صاحب المواقف الثابتة المتسقة مع المعانى الرائعة لأشعاره  :-


دخلت دار بعد دار 

والكل بيحيي،

أنا اللى حي وشهيد

 فى الجنة وف حيي !

الله أكبر ،

 كإن الشمس من ضيي،،

على رمل سينا 

فى نار المعركة والصهد

انا والتراب المنور 

انتصرنا لبعض

وكنت صايم 

ملكت من السما للأرض

وكنت عطشان ، 

محدش ارتوى زيي!!

يامصرى ياسيد !

 وأبوك درويش،

النيل بيجرى

 ولا ما بيجريش؟

النيل بيجرى ،

والعجل بيدور ،

والفجر طالع بالصنايعية ،

ومصر لازم ، تبقى مصرية !!

وكل كلمة تقولها ، أغنية !!

التعليقات (0)