- ℃ 11 تركيا
- 22 ديسمبر 2024
د. علي الحفناوي : قصة قديمة .. تستحق القراءة
د. علي الحفناوي : قصة قديمة .. تستحق القراءة
- 23 يوليو 2021, 11:05:21 م
- 1008
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
نزلت في السابعة صباحا من الشقة التي استأجرتها لأبنائى لقضاء الأجازة الصيفية بالإسكندرية، وركبت سيارتى الدوسوتو بقيادة عم حسن، لأنى لم أقدر يوما على تعلم قيادة السيارات، وانطلقت بنا في اتجاه رشيد وقناطر ادفينا... وصلنا بعد نحو 50 دقيقة إلى مشارف المزرعة التي كنت أباشر بها أعمال الزراعة يوميا في فترة الأجازة الصيفية لقربها من الإسكندرية... تلك المزرعة التي كنت قد اشتريتها في نهاية عام 1954، بعد أن أمرنى جمال عبد الناصر بالتوقف عن مهاجمة شركة قناة السويس وعن إصدار جريدة "قناة السويس"؛ فأزلت مبنى المطبعة وبعت آلاتها الضخمة بسعر سمح لى باقتناء تلك الفدادين... وحزنت على دار النشر والمطبعة التي كنت قد أنشأتها في جاردن سيتى على مقربة من مقر شركة قناة السويس، لأهاجم من خلال جريدتها هذه الشركة الاستعمارية وأفضح ممارساتها ومخالفاتها للقوانين والأعراف.
كان عبد الناصر قد برر لى أمره بالتوقف عن مهاجمة الشركة، بأن المفاوضات من أجل توقيع اتفاقية الجلاء مع إنجلترا قد تعثرت، لأن المفاوض البريطاني أبدى تحفظه عليها طالما حكومة مصر تترك هذا "المشاغب" المدعو الحفناوى، يهاجم ويطالب بتأميم القناة، ووعدنى بأن يؤمم القناة فور خروج آخر جندي بريطاني من مصر... وعليه، فقد سلمت أمرى لله منتظرا تحقق هذا المطلب القومى، واكتفيت بعملى في المحاماة وبانشغالى ببعض الشئون الزراعية إلى جانب نشاطى المعتاد في القراءة والكتابة.
عند وصولى للمزرعة، أتانى عم محمود، خولى المزرعة، بحسابات المصروف اليومى، فأجلت الاطلاع عليها إلى بعد صلاة الظهر حتى أتبين موقف الزراعة بمرورى على أرجاء الأرض المنزرعة... لم أنته من مباشرة الأعمال إلا وسمعت أذان الظهر قادما من العزبة المجاورة، فتوجهت إلى الاستراحة الصغيرة التي أقمتها بجوار المدخل، وبعد أداء الفريضة بدأت في اعداد وجبة صغيرة تغنينى عن الغداء إلى حين عودتى مساءا للاسكندرية.
كدت أبدأ في تناول الطعام إلا أنى سمعت طرقا على باب الاستراحة، وصوت عم محمود يصرخ: "تليفون يا سعادة البك"... ولم يكن لدينا في المزرعة أي تليفونات، فتعجبت وفتحت الباب، فقال لى عم محمود: تليفون لسيادتك في منزل الأستاذ طاهر في المزرعة المجاورة... ولم أكن أعرف الأستاذ طاهر ولا أعرف أن بمنزله تليفون... تصورت في الوهلة الأولى أن هناك خطأ ما، ثم بدأت أتصور أن أمر طارئ قد حدث بمنزلنا في الإسكندرية لا قدر الله، فلجأت زوجتى إلى من يعرف كيف يتصل بى بأسرع وسيلة، فتوجست وأسرعت متجها إلى منزل جارنا الأستاذ طاهر.
أمسكت بسماعة التليفون فإذا بصوت يقول لى: مبروك سيادة الوزير، أنا صديق عبد اللطيف حكمدار الإسكندرية. وكنت أعرفه فعلا، ثم أصبح صديقا فيما بعد. سألته: ماذا تقول يا سيادة اللواء، وزير ايه؟ فأوضح: الريس جمال عاوزك وأرسل طيارة حربية تنظرك في مطار النزهة، وطبعا هذا معناه أنك ستكون وزير إن شاء الله. لا تتأخر، وأنا في انتظارك في مكتبى بميدان المنشية في الإسكندرية... فسألته، وكيف عرفت مكانى وكيف عثرت على رقم جارى في المزرعة؟ فأفاد بأنه اتصل بزوجتى في الإسكندرية بعد أن صدرت له أوامر الرئاسة بالبحث عنى في شواطئ الإسكندرية، ومن موقعه البوليسى استطاع جمع المعلومات بسرعة لتحديد موقعى والاتصال بى.
كنت متأكدا من سبب الاستدعاء الحقيقى، وهو اعتقالى... فقد كنت قبل هذا اليوم بأسابيع قد وصلتني أنباء تؤكد أن جمال عبد الناصر، يفاوض شركة قناة السويس بمعرفة وزير ماليته الدكتور عبد المتعم القيسوني؛ كي تستثمر بضعة ملايين من الجنيهات في مصر، وأن المقابل هو مد امتياز قناة السويس فترة يتفق عليها طرفا المفاوضة. بلغتتي هذه الرواية من عدة مصادر، ونشرت الصحف أنباء عن مفاوضات بين القيسوني والـشركة لاستثمار طويل الأجل لعشرين مليونا من الجنيهات، تدفعها الشركة من أرصدتها الضخمة. والحق أني فزعت وروعت من تلك الأنباء، التي تبين فيما بعد أنها كانت مختلقة، ووقعت في شرك تصديقها. وقد صادف أني في اللـيلة السابقة، أي في مساء ٢٢ يوليو سنة ١٩٥٦، لقيت مصادفة صديقا قديما، هو الأستاذ محمد حلمي، مدير بورصة القطن في عهد الوزارة الوفدية، وقد جلسنا في حديقة فندق بوريفاج بالإسكندرية، نتحدث عن أخطاء حكومة الثورة، وطال الحديث وامتد إلى ما بعد منتصف الليل، حيث خلت الحديقة من جميع الناس، ولم يبق إلا نحن الاثنان، وأنا أقول من قلب جريح (يا ضيعة جهدي طوال سن الشباب، ويا ضيعة قناة السويس!!). لذلك ربطت بين هذا وبين استدعائي وقصة الطائرة التي تنتظرني، وأيقنت أن (ابن حرام) كان يتلصص، ونقل حديثي للمخابرات العامة، فكان الاستنتاج سهلا، والاعتقال السياسي هو المنتظر.
أسرعت إلى الإسكندرية، وغيرت ملابسى، وتركت لزوجتى ما تبقى معى من نقود لعلها لا تجد غيرها خلال فترة اعتقالى، وادعيت أنى مسافرا إلى هولندا لإنهاء عمل مفاجئ حتى لا تفزع إن لم أعد لبيتى خلال الفترة القادمة. ثم توجهت للقاء الحكمدار بميدان المنشية وأنا مسلما أمرى لله. فوجدته بمكتبه في صحبة الليثى عبد الناصر، وبعد التحية والمجاملات، اصطحبنى إلى مطار النزهة حيث أقلعت بى الطائرة الحربية... وكنت لازلت مقتنعا أنى ذاهبا إلى المعتقل، وكل تلك المجاملات كانت للإيقاع بى.
عند هبوط الطائرة في مطار ألماظة، وجدت سيارة شيفروليه سوداء تنتظرنى وبداخلها أحد رجال الثورة، إبراهيم الطحاوى، وكنت قد تعرفت عليه عام 1952 عندما استدعانى جمال عبد الناصر أول مرة. فقال لى: سأوصلك إلى منزل جمال بمنشية البكرى حيث ينتظرك.. فسألته، ولماذا هذه الاستعدادات، وكان يكفى أن يطلب منى ذلك، فقد سبق لى زيارته عدة مرات بمنزله؟ فقال أنه مكلف فقط بمرافقتى إلى المنزل.
تبدلت مشاعرى عندما وجدت نفسى أدخل بيت جمال عبد الناصر، ورأيته يقوم من مقعده بحديقة المنزل ويتجه نحوى في منتصف الطريق وجرى الحديث التالى:
الرئيس: آسف أشد الأسف، للطريقة التي استعملناها في إحضارك، فقد استعنا بالبوليس وأجهزة الأمن في القاهرة والإسكندرية، فبحثوا عنك هنا في القاهرة، فوجدوا بيتك موصدا وكذلك مكتبك، واتصلوا بنقابة المحامين وبجميع معارفك بالقاهرة للاهتداء إليك بدون جدوى، واتصلوا بنقابة وكلاء المحامين للتعرف على وكيل مكتبك لعله يرشد عنك، بلا فائدة، ثم نجح بوليس الإسكندرية، ولما عرف مكانك تم عمل الترتيب اللازم لنقلك بالطائرة.
واستطرد الرئيس جمال عبد الناصر، وقال: أتعرف لماذا دعوتك لمقابلتي؟
قلت: لا..
قال الرئيس إنه قرر تأميم شركة قناة السويس، وتكريما للجهود الضخمة التي بذلتها في هذه القضية عهد إلي بأن أكتب مشروع قرار جمهوري بتأميم الشركة، وأن الأمر جد عاجل، وأنه سيعلن هذا القرار للعالم كله في خطاب، قرر أن يلقيه بميدان المنشية بالإسكندرية في الساعة الثامنة من مساء يوم ٢٦ يوليو سنة ١٩٥٦.
استأذن الرئيس من على صبرى الذى كان جالسا معه بالحديقة، ثم أوضح لى أن أبناءه بالاسكندرية وأنه بمفرده بالمنزل، ولا يوجد شخص سوى حرس البوابة الخارجية. فدخلت مع عبد الناصر إلى حجرة مكتبه، فوجدت المكان وقد افترشته كتبى وأعداد جريدتى ومستندات بكل اللغات عن قناة السويس متناثرة فى أرجاء الحجرة. أتانى الرئيس بجلباب أبيض قائلا: "ممكن تاخد راحتك بدل لبس البدلة فى الحر ده".. فلبس كلانا الجلباب وجلسنا على الأرض لقراءة ومناقشة محتوى كل مستند يحتاج توضيح وتفسير.. وعند منتصف الليل، قام الرئيس إلى حجرة الطعام وأتى بطبق به بعض قطع الكبد الباردة وبعض الخبز، وقدمه لى موضحا أنه لا يبغى طلب مأكولات من خارج البيت حتى لا يعلم أحد بوجودى...
جرى بيننا حديث طويل امتد إلى وقت متأخر من الليل، حيث طلب مني، أن أبسط القضية، بدءا بالتاريخ منذ قناة فرعون، وألا أوجز قط، وقال: أنا لا عمل لي الآن سواك، ألديك مانع من أن تستمر جلستنا إلى الصباح؟ وقبل أذان صلاة الفجر، كنت قد صغت المسودة القانونية لقرار التأميم. وانتهت المقابلة بأمر لي من الرئيس بأن ألقاه في الليلة التالية، ومعي مشروع القرار الجمهوري، في ساعة عينها، وتمت المقابلة في الليلة التالية بحجرة الرئيس بمبنى قيادة الثورة بالجزيرة، وجرى فـيها من الأحاديث ما جرى، وكان الأمر المشدد الذي صدر لي، هو ألا يعرف كائن من كان، أني موجود بالقاهرة؛ وذلك مراعاة لأقصى درجات السرية، كي لا يتنبه العدو فيأخذ حذره.
وعند طلب عبد الناصر بأن أذهب إلى منزلى بجاردن سيتى، على ألا أتصل بأى شخص، بما في ذلك أسرتى، لم يكن الرئيس متذكرا لوجود مكتب للشركة في القاهرة، حيث اكتفت التقارير بالإشارة إلى أهم مقار الشركة في منطقة القناة... لذلك، عندما قمت بتوجيه عنايته إلى وجود المقر الادارى في جاردن سيتى حيث أقيم، فقد كلفنى بالاستماع إلى خطابه الشهير بالاسكندرية، على ألا أتحرك من منزلى إلا إذا سمعت ذكر اسم ديليسبس، فأذهاب إلى هذا المقر الادارى بالقاهرة، حيث ستنتظرنى قوة من الشرطة للاستيلاء والتحفظ على المقر تنسيقا مع قيادات التأميم بمنطقة القناة، على أن أكتفى بالتحفظ القانونى على كل المستندات ومحتويات المقر ووضع الأختام اللازمة بالشمع الأحمر.
وبالفعل، ظللت قابعا بالمنزل حتى سماع كلمة السر فى الاذاعة المصرية (ديليسبس)... فنزلت من المنزل واتجهت إل مقر الشركة... فلم أجد أى قوة تنتظرنى سواء من الشرطة أو الجيش... فانتظرت بعض الوقت ثم قررت الدخول إلى المقر بمفردى.
يتوسط المقر حديقة جميلة، حيث وجدت جالسا السيد "الكونت فيليب دى جرايـــي" مع السيدة حرمه يحتسون الشاى، غير عالمين بما أعلنه رئيس الجمهورية منذ قليل عن تأميم الشركة العالمية لقناة السويس. وكان هذا الكونت هو نائب رئيس الشركة المقيم بمصر بدرجة "سفير الشركة". أما المدير العام التنفيذى، فكان مقيما بالاسماعيلية... وكان الكونت يعلم من أكون (عدوهم اللدود)، فعندما رأني، نهض من مقعده قائلا: أنت؟؟ ماذا تفعل هنا؟؟!! فأجبته: جئت استلم منك قناة السويس. فانزعج الكونت وقال لى ضاحكا: "لقد جننت!! لقد تصورت بعقلك المريض تحقيق أحلامك..!!"، وهمّ بنداء الحرس لاخراجى من المقر، لأنى كنت بالنسبة له عدو مشاغب...
وفى تلك اللحظة، دخلت قوات الشرطة بقيادة الضابط "التونسى" ومعه الصاغ "عطا محمود"، والذى تم اختياره لإجادته اللغة الفرنسية (من خريجى مدارس الفرير) وعرف عنه الذوق الرفيع وقمة الدبلوماسية. فقام عطا محمود بإخبار الكونت بقرار التأميم بمنتهى الذوق والديبلوماسية. هرع الكونت دى جرايي إلى الهاتف للاتصال بسفير فرنسا، الذى أشار عليه بالتعاون مع المصريين حتى اشعار آخر. فتوجه إلى وقال لى: "الليلة تحقق أحلامك، أما غدا، فسننتظر التعليمات التى قد تحولها إلى كابوس"... ثم كان ما كان... (أما عن أسباب فرق توقيت وصولى ووصول الشرطة إلى مقر الشركة، فقد كنت مقيما على بعد خطوات من الشركة، في حين أن الشرطة أفادت بالبحث طويلا عن المقر فى شوارع جاردن سيتى الدائرية).
دخلت غرفة اجتماعات مجلس الإدارة بمقر الشركة، وفتحت كتاب محاضر الاجتماعات، وكتبت باللغة العربية على رأس صفحة بيضاء:
" الاجتماع المصرى الأول لمجلس إدارة هيئة قناة السويس بتاريخ 26 يوليو 1956".
تلك القصة الحقيقية التى حدثت من 65 سنة، بطلها حاصل على دكتوراة في القانون الدولى من باريس عن قناة السويس، وهو حفيد أحد عمال السخرة ممن ساهموا في حفرها هو الدكتور مصطفي الحفناوي