رؤية النفق: إيال وايزمان مُتحدثًا عن حرب إسرائيل متعددة الأبعاد

profile
  • clock 11 مارس 2023, 10:48:30 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

تحوَّل محور الصِّراع بمقدار 90 درجة بعد إغلاق مُحيط غزة بالكامل باستخدام الأسوار البرية والبحرية الإسرائيلية. دَفعت كل حملة قصف إسرائيلية جديدة في 2008-2009، و2012، و2014، وأيّار/ مايو 2021 المقاومة الفلسطينية إلى عمق أكبر تحت الأرض، لتوسيع وتحصين نظام الأنفاق المتطور. لقد تحقق مقتل أكثر من خمسة آلاف فلسطيني وتدمير ربع المباني في القطاع تقريبا من الجو بشكل رئيسي، ولكنّ تمكن الفلسطينيون من مواصلة مقاومتهم من خلال سيطرتهم على ما يقع تحت الأرض.

حُفِرَت أولى الأنفاق في غزة عام 1982 بهدف ربط رفح الفلسطينية مع رفح المصرية؛ نظراً لتقسيم المدينة عقب انسحاب إسرائيل من سيناء بعد اتفاق السلام مع مصر. بدأت إسرائيل، بعد عقد من الزمان، مع توقيع اتفاقية أوسلو، في عزل القطاع، واستمرت عملية العزل خلال سنوات الانتفاضة الثانية، بين عامي 2000 و2005، وحُوصرت غزة بالكامل في عام 2007 بعد تولي حماس السلطة. مكَّن نظام الأنفاق من تدفق الإمدادات الأساسية من الغذاء والدواء والسلع الأخرى إلى القطاع، وكذلك الأسلحة من مصر. كما حُفِر، في عام 2004، نفقٌ تحت قاعدة عسكرية، وتمكَّن الفلسطينيون من وضع متفجرات تحت القاعدة وتفجيرها. واقتاد مقاتلون فلسطينيون، في عام 2006، الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط عبر نفق إلى غزة، وأُفرِج عنه بموجب اتفاق في 2011 مقابل إفراج إسرائيل عن أكثر من ألف أسير فلسطيني.

بدأ الجيش المصري بعد انقلاب 2013، بقيادة عبد الفتاح السيسي الذي نصَّب نفسه رئيسًا، بهدم الأنفاق التي تربط غزة بمصر، وبذلك شاركت مصر فعليًا في الحصار الإسرائيلي ضد غزة، وهو ما ساهم في إعادة تركيز الأنفاق باتجاه المنطقة الحدودية مع إسرائيل. عبرت في عام 2014 مجموعتان منفصلتان من المقاتلين الفلسطينيين الحدود، وداهمت إحداها قاعدة عسكرية في الجانب الإسرائيلي من السياج. أفاد الجيش الإسرائيلي، بعد اجتياح إسرائيل لغزة في نفس العام، بأنه «حيَّد» أكثر من ثلاثين نفقًا، لكنه تكبد خسائر فادحة، وخُطف جنديين آخرين تحت الأرض. اُفترض أنهم ماتوا، والمفاوضات جارية لإعادة جثثهم.

مكّنت هذه البنية التحتية النفَقيّة المقاومةَ المسلحة من مواصلة إطلاق الصواريخ على إسرائيل. وتحت قيادة محمد الضيف، القائد العسكري الأكثر فعالية لحركة حماس في السنوات الأخيرة، توسَّعت شبكة الأنفاق بكثافة، وتحولت إلى شبكة مُعقدة تمتد ثلاثين مترًا تحت مدينة غزة وتحت المناطق الحدودية؛ ويسميها الجيش الإسرائيلي «المترو». تقف الجيولوجيا إلى جانب حفّاري الأنفاق، فالتربة الجوفية في غزة تتشكل من أحجار رملية جافة في الغالب، ويَسْهُل الحفر فيها نسبيًا، ويمكن لفرق الحفارين، التي تعمل على مدار الساعة في نوبات تصل إلى 12 ساعة باستخدام المجارف أو المقادح الهوائية، حفر وتثبيت خمسة عشر مترًا يوميًا. واحتاج الأمر لاحقًا إلى وضع قواعد للحفر وللحركة تحت الأرض لتجنب الاصطدامات بين فرق الحفر، وصار العمل فيها يشبه العمل على نظام التحكم في الحركة الجوية، بحيث يستخدم تحديد المواقع عبر الأقمار الصناعية لتنظيم الحركة في الفضاء ثلاثي الأبعاد. يُعرّف قطاع غزة دوليًا على أنه «منطقة محتلة»، ولكن يبدو أن المنطقة الواقعة تحت سطحه منطقة مُحرَّرة.

غرس الجيش الإسرائيلي جدرانًا أسمنتية حول محيط القطاع، واستخدام أجهزة استشعار تحت الأرض للكشف عن حفّاري الأنفاق. رئيس الأركان الإسرائيلي الحالي، أڨيڤ كوخافي، المعروف بـ «تفكيره خارج الصندوق»، مصمم منذ فترة طويلة على وضع حد للأنفاق. لقد أتاح اندلاع الاحتجاجات هذا العام[1] في القدس الشرقية والضفة الغربية الفرصة له. نشرت إسرائيل في 13 مايو غالبية قواتها الجوية المتمثلة بـ 160 طائرة، بما في ذلك الطائرات الحربية من طراز F-16 وF-35 لتحوم على ارتفاعات مختلفة بالقرب من ساحل غزة، ونقلت في الوقت نفسه كتائبها المدرعة بالقرب من السياج في غزة، مما دفع الكثيرين للاعتقاد بأنهم على وشك غزو القطاع. وقال ناطق عسكري للصحافيين الأجانب، بعد منتصف ليلة 14 أيّار/ مايو، معلومة خاطئة مفادها إن غزوًا بريًا قد بدأ.

كانت هذه خدعة تكتيكية يُهدف عبرها إلى تشجيع مقاتلي حماس لاتخاذ مواقعهم القتالية في الأنفاق لتقوم بعدها الطائرات بإلقاء قنابلها الخارقة للتحصينات Bunker Buster دفعة واحدة، مما يقضي على الميزة الإستراتيجية الحقيقية الوحيدة لحماس ويحول شبكة الأنفاق إلى شِراك موت تدفنهم فيها. كانت خطة كوخافي، المسماة الضربة الصاعقة Lightning Strike، قيد الإعداد لعدة سنوات، وقدَّر الجيش أنه سيدفن ما بين ستمئة إلى ألف مقاتل من حماس في تلك الليلة، أي جزء كبير من القوة القتالية في غزة، بما في ذلك ضباط كبار، وربما حتى الضيف نفسه، بضربة واحدة.

أسقطت الطائرات القنابل من عُلوٍ شَاهق لتسمح لها بالتسارع كفاية لتتوغل في عمق الأرض. ولتصل القنابل إلى الأنفاق، كان عليها أن تمر أولاً عبر الأحياء المدنية المكتظة في غزة. يشتعل فتيل القنبلة عند اصطدامها بالسطح، سواء سطح مبنى أو طريق أو منطقة مفتوحة، ويسمح التأخير المُبرمج لبضعة أجزاء من الألف من الثانية للقنبلة السريعة باختراق السطح وزَرع نفسها في عمق الأرض قبل أن تنفجر الحمولة الهائلة ذات الطن الواحد من المتفجرات، أكبر القنابل في ترسانة سلاح الجو، وفقًا للصحافة الإسرائيلية، وترسل موجات صدمة في الأرض. أسقطت الطائرات الإسرائيلية خلال ما يزيد عن نصف الساعة تقريبا 450 قنبلة من هذا النّوع في باطن الأرض في غزة، بمعدل قنبلة كل خمس ثوانٍ، وهذا هو المكافئ الأرضي لقذائف الأعماق المضادة للغواصات.

انهارت المباني في المنطقة التجارية في غزة والمناطق الحدودية، ما أدى إلى دفن عائلات بأكملها وتدمير الطرق والبنية التحتية؛ وقُتل في تلك الليلة، بحسب المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، 39 فلسطينيًا، من بينهم 14 طفلاً. فرت العائلات في المنطقة الحدودية خوفًا من غزو بري إلى جحيم وسط المدينة. وقالت الفِلسطينية مريم إنها شعرت «وكأن غزة بأكملها تهتز... وكأن عاليها يصير سافلها، وكأن الأرض تلفظ ما في بطنها. مثل زلزال مستمر. كما أُبلِغَ أيضًا عن موجات صدمة شعر بها الإسرائيليون في مستوطنات يهودية قريبة.

عندما استقرت الأرض في صباح اليوم التالي للهجوم، أشاد البعض في الصحافة الإسرائيلية بالعملية، ووصفوها بأنها ضربة معلم، ووُصِف كوخافي بالـ «عبقري» وبأنه أفضل قائد حرب للشعب اليهودي منذ بار كوخبا[2]. قاد الأخير تمردًا ناجحًا لفترة وجيزة ضد الإمبراطورية الرومانية في عام 132 بعد الميلاد. أما كوخافي، فهو الحاكم الفعلي لأناسٍ بدون دولةٍ يبلغ عددهم ما يقرب من خمسة ملايين ويعيشون في ظل شكل معقد من الفصل العنصري القانوني والمكاني. وعندما كان كوخافي مرشحًا لمنصب أعلى في الجيش، قُوِرنَ بإيهود باراك، الجندي إسرائيلي «اللامع» فرضًا، وكانت توجد تكهنات بأنه، مثل باراك، سيحول مؤهلاته العسكرية، وينتقل إلى عالم السياسة، إلا أن نتنياهو لم يؤيد ذلك، وعُيِّن كوخافي في نهاية المطاف على يد وزير الدفاع آنذاك، القومي المتطرف أفيغدور ليبرمان. ومع التشجيع من اليمين، بدأ كوخافي ولايته التي ستدوم لثلاث سنوات رئيسًا للأركان العامة في بداية عام 2019 (مُدّدت لمدة عام)، مع وعده بجعل الجيش أكثر فتكًا، كما لو أن مشكلة الجيش كانت أنه غير مؤذٍ. بدأ بالحديث عن «الانتصارات السريعة» والاحتجاج على القيود التي فرضتها الحكومة على استخدام القوة وكأنها قيود خطيرة.

لم يعترف الجيش بفشل كوخافي حتى آب/ أغسطس، أي بعد ثلاثة أشهر من الهجوم. إما لأن الخدعة كانت قد انكشفت، أو لأنها عززت أنفاق المقاومة، حيث لم تتكبد حماس إلا عددًا قليلاً من الضحايا في تلك الليلة التي هزت الأرض، كما احتفظت بقوتها القتالية وقدرتها على إطلاق الصواريخ على الأراضي الإسرائيلية. أشعلت مقاومة حماس احتجاجات في مدن فلسطينية مثل يافا واللد في إسرائيل نفسها، وخلقت تضامنًا بين الفلسطينيين الذين فصلتهم السيطرة الإسرائيلية إلى مناطق مختلفة. قدّم الفلسطينيون، ضد رواية كوخافي عن «النصر السريع»، حربًا طويلةً كان فيها وجود المقاومة المُجرَّد يُعتبر انتصارًا.

لدينا أنا وكوخافي ماضٍ مشترك. كتبت قبل أربعة عشر عامًا في كتابي «أرض جوفاء» عن غارة قادها في أبريل 2002، عندما كان قائدًا للواء المظليين، على مدينة نابلس ومخيم بلاطة للاجئين في ضواحيها. كنت مهتمًا بالطريقة التي ناقش بها البعض في الجيش الغارة باستخدام مصطلحات من النظرية النقدية ودراسات ما بعد الكولونيالية والدراسات الحضرية، ولا سيما المفاهيم التطبيقية المرتبطة بدولوز وغاتاري. كان كوخافي مُهمًا هنا لكونهِ واحدًا من الجنود/الشعراء/الفلاسفة الإسرائيليين الذين شقوا لأنفسهم طريقًا خاصًا، وهو الدور الذي احتله موشيه ديان في الستينيات. ادعى كوخافي أنه كان قد فكر في وقت من الأوقات في دراسة الهندسة المعمارية (كما درستها أنا)، رغم أنه اختار الفلسفة في النهاية.

عندما وافقت المجلة العبرية Theory and Criticism، إحدى المنصات الأكاديمية القليلة في إسرائيل التي سمحت باستجواب الصهيونية، وتعتبر هدفًا متكررًا لليمين الإسرائيلي، على نشر جزء من بحثي، اتخذ رئيس التحرير، دون علمي، خطوة غير مسبوقة بإرسال نسخة إلى المتحدث باسم الجيش، لمنح كوخافي حق الرد. أوضح المحرر في وقت لاحق أن هذا الأمر منصف، لأن اسم كوخافي ذُكر في البحث بطريقة غير اعتيادية. (تصادف أن تكون أخت كوخافي، الباحثة البارزة في مرحلة ما بعد الاستعمار، عضوًا في هيئة تحريرها). وجاء الرد رسالة من محامي كوخافي يهدد فيها برفع دعوى تشهير. رأيت هذا كفرصة. إذا رُفعت القضية إلى المحكمة، فسأكون قادرًا على الدفاع عن النتائج التي توصلت إليها، ولفت انتباه جمهور كبير إليها، وسأحظى بفرصة لاستجواب كوخافي، وهو الأهم بالنسبة لي، إلا أن المجلة لم ترغب بتحمل المخاطرة، وطلب مني المحررون تعديل النص، إلا أني رفضتُّ وسحبت بحثي.

طعن محامو كوخافي في بعض المزاعم وهي أمور هامشية مقارنة بالحجة الرئيسة حول المزيج الغريب بين الفلسفة والحرب، بيد أنهم لم يتمكنوا من تحدي كلمات كوخافي، حيث أُخذِت من مقابلة مصورة أجريتها معه. نقلت عنه وصفه للغارة بـ «الهندسة[3] العكسية». أوضحتُ أن جنوده ابتعدوا عن الشوارع، وانتقلوا من مبنى إلى آخر عن طريق إحداث فجوات في جدران بيوت الناس، وتمكنوا بهذه الوسائل من عبور المدينة القديمة في نابلس ومخيم بلاطة للاجئين عبر ما كان في الأساس أنفاقًا فوق الأرض منحوتة في النسيج الحضري الكثيف. اُستخدم الخداع كتكتيك هنا أيضًا. وجاء في الأمر العملياتي من كوخافي: «إننا نعزل المخيم تمامًا في وضح النهار، مما سيخلق انطباعًا بحلول حصار منظم ووشيك». أراد كوخافي أن تتخذ المقاومة مواقع دفاعية، ومن ثم يقوم جنوده «بتطبيق مناورة فراكتالية[4]، أن يتدافعوا في وقت واحد من كل الاتجاهات ... تحركنا عبر المباني، ودفعت حركتنا [المتمردين] إلى الشوارع والأزقة، حيث طاردناهم»، وعندما طلبوا الاستسلام رفض كوخافي. مات سبعون فلسطينيا. لم يكن هدف المناورة احتلال المدينة، بل قتل الناس ثم الانسحاب. لقد أسميت هذا «اقتصاد الموت»[5].

وصف كوخافي، في المقابلة التي صورتها معه في مكتبه في قاعدة عسكرية بالقرب من تل أبيب، النظرية الكامنة وراء اقتحامه بلغة مثيرة للذهول:

هذا الفضاء الذي تنظر إليه، وهذه الغرفة التي تنظر إليها، ليست سوى تأويلك لها. يمكنك الآن توسيع حدود التأويل، ولكن ضمن حدود المنطق، فيجب أن يكون تأويلك مُلتزمًا بالقوانين الفيزيائية، لأن تلك المساحة تحتوي على مبانٍ وأزقة. السؤال: كيف تؤِّول الزقاق؟ هل تؤوله على أنها مكان للمشي كما يفعل المعماريون ومخططو المُدن، أم تؤوله على أنه مكان ممنوع المشي فيه؟ هذا يعتمد فقط على تأويلك لهذا الفضاء. أوَّلنا الزقاق وقتها على أنه مكان ممنوع المشي فيه، والباب على أنه مكان ممنوع المرور عبره، والنافذة مكان ممنوع النظر خلالها، لأن سلاحًا ينتظرنا في الزقاق، وفخًا ينتظرنا خلف الأبواب، وهذا لأن العدو يؤول الفضاء تأويلًا تقليديًا وكلاسيكيًا، ولا أريد الالتزام بهذا التأويل ولا أن أقع في شراكه. ولا أريد ألّا أقع في شِراكهِ فحسب، بل أريد أن أفاجئه.

هذا هو جوهر الحرب. أريد الانتصار. أريد أن أخرجَ من مكان غير متوقع، وهذا ما حاولنا القيام به. لهذا اخترنا طريقة المشي عبر الجدران... مثل دودة تأكل طريقها إلى الأمام، تظهر في نقاط ثم تختفي. وهكذا انتقلنا من داخل منازل [الفلسطينيين] إلى خارجها بطرق غير متوقعة، وفي أماكن لم نكن نتوقعها، نأتي من الخلف، ونضرب العدو الذي كان ينتظرنا وراء الزاوية... نظرًا لأنها كانت المرة الأولى التي يتم فيها اختبار هذه الطريقة [على مثل هذا النطاق]، كنا نتعلم في أثناء العملية نفسها سُبل تكيفنا مع الفضاء الحضري حولنا، وبالمثل تعلمنا سُبل تكييف الفضاء الحضري حولنا لاحتياجاتنا... اتخذنا هذه الممارسة التكتيكية الدقيقة، وحولناها إلى طريقة، وبفضل هذه الطريقة، تمكنا من تأويل الفضاء بأكمله تأويلًا مختلفًا... قلت لقواتي: أيها الرفاق! هذه ليست مسألة اختيارك! لا توجد طريقة أخرى للتحرك! إذا كنت معتادًا حتى الآن على التحرك في الطرق والأرصفة، فانسَ ذلك! من الآن فصاعدا كلنا نسير عبر الجدران!

ووصفت الفلسطينية عائشة تجربتها لهذه المداهمة:

تخيل نفسك جالسًا في غرفة معيشتك التي تعرفها جيدًا، وفي هذه الغرفة يشاهد أفراد العائلة التلفزيون معًا بعد تناول العشاء... وفجأة، يختفي هذا الجدار بصوت يصم الآذان، وتمتلئ الغرفة بالغبار والحطام، ويخرج من الجدار جنديًا تلو الآخر، بأوامر صارخة. ليس لديك فكرة عما إذا كانوا يلاحقونك، أو إذا كانوا قد أتوا للسيطرة على منزلك، أو إذا كان منزلك يقع في طريقهم إلى مكان آخر. يصرخ الأطفال ذعرًا... هل من الممكن أن تتخيل الرعب الذي يعيشه طفل عمره خمس سنوات حين يرى أربع، أو ست، أو ثمان، أو اثني عشر جنديًا بوجوهٍ مطلية باللون الأسود، وبمدفع رشاش موجهُ عليهم، وبهوائيات بارزة من حقائب ظهرهم تجعلهم يبدون مثل حشراتٍ فضائية عملاقة تشق طريقها من خلال هذا الجدار؟

أشارت عائشة إلى جدار آخر في منزلها به خزانة كتب: 'هذا هو المكان الذي دخلوا منه. فجروا الجدار وواصلوا طريقهم إلى منزل جارنا».

ثمة مجاز استشراقي في إعجاب الضباط المستعمرين بالمناطق التي يحكمونها. أحب كوخافي نابلس. قال ذات مرة إنها أجمل مدينة في الضفة الغربية. وعلى الرغم من أن اجتياحه كان أقل تدميرا من اجتياح جنين قبلها بأيام قليلة، فإن الدمار في نابلس لم يكن ضئيلا، إذ أظهر مسح أجرته المعمارية الفلسطينية نورهان أبو جدي[6] أن أكثر من نصف المباني في منطقة القصبة كانت بها فجوات. ودُمرت بعض المباني التاريخية، من بينها النوازل العثمانية التي تعود للقرن الثامن عشر في خان الوكالة الفاروقية، ومصنع الصابون النابلسي والكنعاني.

كان شاليف هوليو أحد الضباط الذين شاركوا في الهجوم على نابلس، والذي أنشأ فيما بعد مجموعة إن إس أو NSO، التي استخدم برنامجها للتجسس بيغاسوس Pegasus من قبل الحكومات القمعية في المملكة العربية السعودية والمكسيك والهند لاختراق الهواتف الذكية للصحفيين والنشطاء السياسيين. (بعد التقارير المكثفة عن أنشطة إن إس أو في الصحف حول العالم، وكذلك من قبل المنظمة التي أقودها العمارة الجنائية Forensic Architecture، يبدو أن الشركة على حافة الهاوية). تحول الاختراق مع بيغاسوس عبر الجدران من المجال المادي إلى المجال الرقمي، أي جدران الحماية بدلًا من جدران البيوت. ويعد هذا اختراقًا أكبر لخصوصيتنا، لأن المعلومات الموجودة على هواتفنا الذكية تكشف عنا أكثر بكثير مِمّا تحتويه بيوتنا.

تُظهر إشارات كوخافي لإعادة تفسير الفضاء تأثير نظرية ما بعد البنيوية. لم يقل ذلك في مقابلتنا، لكن معلمه، اللواء المتقاعد الدكتور شمعون ناڤيه، مدير مؤسسة أبحاث نظرية إدارة العمليات في كلية الدفاع الوطني الإسرائيلية، كان دائمًا واضحًا بشأن جذور مقاربة كوخافي. تضمن منهج مؤسسة أبحاث نظرية إدارة العمليات في كلية الدفاع الوطني الإسرائيلية أعمالًا نظرية أساسية. قدم عمل غيتاري ودولوز «ألف بساط» المصطلحات التي وجدها المنظرون العسكريون مفيدة: «الجذمور» و«الفضاء الناعم» و«آلات الحرب». طُبِّقت مفاهيم غي ديبور عن الانجراف (المرور عبر المدينة كما لو كانت مكانًا «بلا حدود») والتحويل (تكييف المباني لأغراض جديدة) على طرق التفكير حول الاستخدام العسكري للبنى المحلية. ووضعت أسلوب «تقطيع الأبنية»[7] للفنان الأمريكي گوردون ماتا كلارك جنبًا إلى جنب مع طلاب مؤسسة أبحاث نظرية إدارة العمليات في كلية الدفاع الوطني الإسرائيلية مع صور الفجوات في الجدران الفلسطينية. تضمنت القائمة أيضًا كتابات أحدث حول التمدن والعمارة. قال لي نافيه: «قد يكون دريدا غامضًا إلى حد ما بالنسبة إلى لطلابنا، إلا إنا نتشارك الخلفية أكثر مع المعماريين، حيث نجمع بين النظرية والتطبيق. يمكننا أن نقرأ، لكننا نعرف أيضًا كيف نبني ونهدم وأحيانًا كيف نقتل».

من أعمال الفنان گوردون ماتا كلارك

تستخدم الفلسفة أيضًا في الجيوش الأخرى لتحسين الاستراتيجية. وليس تحول المنظرين العسكريين الإسرائيليين إلى الدراسات الحضرية بالأمر الغريب حقًا. كانت الجيوش الغربية، التي كانت تميل خلال الحرب الباردة إلى التفكير من منظور ساحات القتال المفتوحة، غير مستعدة للتعامل مع البيئات الحضرية المعقدة جسديًا، واجتماعيًا، وسياسيًا، وتقنيًا، في حين سمح التقارب بين المجالين العسكري والأكاديمي في إسرائيل بوجود تكتيكات مستوحاة من اليسار النظري الراديكالي وتشق طريقها إلى ترسانة المشروع الاستعماري اليميني المتطرف. حصل ناڨيه على درجة الدكتوراه من كينگز كوليدۯ لندن. وزوجته، هانا ناڨيه، منظِّرة والعميد السابق لكلية الآداب في جامعة تل أبيب. لا تعتبر في إسرائيل مثل هذه الروابط غريب، حيث لا مفر من التفكير العسكري، ولا يكون الجيش بعيدًا عن الحياة اليومية.

تقنيات إسرائيل في حرب المدن ليست جديدة بشكل خاص. المدافعون عن كومونة باريس، مثلهم في ذلك مثل القصبة في الجزائر العاصمة، أو في بيروت وجنين ونابلس، تجولوا في المدينة في مجموعات صغيرة غير منسقة بالتمام، متنقلين عبر الفتحات والأنفاق بين المنازل والأقبية والساحات، مستخدمين الممرات والأبواب السرية. كتب لويس أوگست بلانكي في كتابه «تعليمات لحمل السلاح» المنشور عام 1868 أن حماية الجيوب الحضرية المتمتعة بالحكم الذاتي تعتمد بشكل متساوٍ على الحواجز والفجوات الصغيرة تحت الأرض. كانت المصادر النظرية لمؤسسة أبحاث نظرية إدارة العمليات في كلية الدفاع الوطني الإسرائيلية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، مستوحاة من ممارسات ونظريات نضالات التحرير. تعلم الجيش من أعدائه، من خلال النظرية، محاكاة أساليبهم وتكييفها. يحدد الجيش من خلال النظرية، أو ربما يبالغ في تحديد، المقاومة التي يبادر لقمعها. إنها مفارقة إسرائيل: على الرغم من الهيمنة المحلية والإقليمية الكاملة للدولة، إلا أنها لا تزال تتخيل نفسها على أنها تخوض حرب عصابات ضد أعداء أقوى وضد تهديدات وجودية.

يجدر الاعتراف أيضًا بأن «التدافع» و«المشي عبر الجدران» ربما كانا ناجحين ضد المقاتلين الفلسطينيين الشباب غير المدربين وغير المسلحين تسليحًا جيدًا في مخيم صغير للاجئين تحت حصار كامل، ولكن عندما واجهت الوحدات الإسرائيلية نفسها مقاتلي حزب الله الأقوى والأفضل تسليحًا وتدريبًا في لبنان في صيف 2006، كانت الأمور مختلفة جدا. في التعليمات التشغيلية التي اسْتهزئَ بها لاحقًا على نطاق واسع، أمر گال هيرش[8]، خريج آخر من مؤسسة أبحاث نظرية إدارة العمليات في كلية الدفاع الوطني الإسرائيلية، جنوده بالقيام بـ «تفكيكٍ مكاني-فضائي للبنية التحتية للعدو». لم يكن لدى مرؤوسيه أي فكرة عما كان من المفترض أن يفعلوه. في غضون ذلك، أوقع مقاتلو حزب الله، الذين كانوا يتنقلون من خلال فتحات في المباني التي كانوا يدافعون عنها، إصابات إسرائيلية فادحة.

تبخر الكثير من الحماس للنظرية بعد حرب لبنان عام 2006. ترك العديد من المرتبطين بـمؤسسة أبحاث نظرية إدارة العمليات في كلية الدفاع الوطني الإسرائيلية الجيش. تجنب كوخافي العزل؛ لأنه كان في غزة في ذلك الوقت. لقد تحرك بسرعة بين الرتب، لكنه لم يتوقف عن نشر كلماته الطنانة المفضلة: «الخداع» و«اللا متوقع» و«الاحتيال» و«قوة الفتك» و«الأبعاد المتعددة». لقد رأى أن مشروعه الأكبر يتمثل في تطوير ما أسماه «عقيدة عملياتية متعددة الأبعاد». أنشأ وحدة تعرف باسم الأشباح، مصممة لشن حرب مدن في مناطق مدنية مكتظة بالسكان. لقد تصور الكثير من الوحدات القتالية الصغيرة، لكل منها قدرة استخباراتية وقوة جوية بفضل الطائرات المُسيَّرة التكتيكية الخفيفة، وتدرّب هذه الوحدات في بيئات محاكاة ثلاثية الأبعاد.

يتحدث كوخافي أحيانًا حتى في هذه المرحلة المتأخرة من حياته المهنية إلى مرؤوسيه عن الفن والثقافة المعاصريْن. أتساءل ما الذي سيقوله روجر ووترز، الناشط البارز المؤيد لفلسطين ومؤيد حركة المقاطعة، إذا كان يعلم أن كوخافي يحب استخدام صورة غلاف فيلم پينك فلويد الجانب المظلم من القمر The Dark Side of the Moon ليشرح أن على الوحدات أن تتحرك مثل أشعة منكسرة تمر عبر بلور كريستالي. وبغض النظر عن مقدار النظرية التي قرأها، فإن المدينة الفلسطينية بالنسبة لكوخافي ليست بيئة معيشية، وليست مجتمعاً مستعمراً يكافح من أجل التحرير، بل نظام هندسي معقد يتطلب تأويلا وإعادة تأويل غير منتهٍ من أجل حل المشكلة التي تمثلها. لقد ادعى كوخافي دائمًا أنه يفكر خارج الصندوق، ولكن مع اقتراب تقاعده، يتبدّى لنا الآن أنه لم يهرب أبدًا من حدود ذلك الصندوق.

إحالات

[1] نُشرت هذه المقالة في نهاية ديسمبر من عام 2021، وعليه، فالكاتب يتحدث عن مناورة كوخافي خلال هبَّة أيار في العام نفسه.

[2] اسم آرامي يعني «ابن الكوكب»، وهو قائد يهودي قاد حشود اليهود في ثورة ضد الإمبراطورية الرومانسية في عام 132 ميلادية في محاولة منه لتأسيس دولة يهودية مستقلة في فلسطين، وقد نجح في ذلك لمدة ثلاث سنوات، حتى عاد الرومان، ودمروا مملكته وقتلوه.

[3] أو الجيومترية العكسية.

[4] أو مناورة كسيرية، والفراكتلات عبارة أشكال هندسية تتميز في الطريقة التي تتدرج بها سواء بالزيادة أو بالنقصان.

[5] عملية بموجبها يأخذ شخص ما على عاتقه تحديد من يستحق الموت ومن يستحق الحياة.

[6] مديرة مركز أبحاث العمارة المستدامة في جامعة ماستريخت في هولندا ومؤلفة كتاب «القتل المديني في فلسطين Urbicide in Palestine».

[7] أسلوب فني يسمح بإعادة تخيل الحائط/البيت/المبنى بما يسمح بمسائلة الوظيفة الأساسية من وجوده في المجال العام، ويسمح أيضًا بإنشاء لوحة/قطعة/أداة مؤقتة دون الحاجة إلى البناء أو إضافة أي شيء إلى الهيكل الأساسي (أي عبر الحذف والقطع فقط) – المُترجم.

[8] عميد عسكري إسرائيل ترأس الفرقة 91، والمعروفة أيضًا باسم فرقة الجليل، وهي تابعة للقيادة الشمالية للجيش الإسرائيلي والمسؤولة عن الجبهة مع لبنان من روش هنكرا (رأس الناقورة) إلى جبل الشيخ.

 

كلمات دليلية
التعليقات (0)