- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
رياض معسعس يكتب: الشام وغادة السمان: محيطان لا يحاطان
رياض معسعس يكتب: الشام وغادة السمان: محيطان لا يحاطان
- 27 يناير 2022, 9:18:18 ص
- 439
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
عندما وليت وجهي هاربا من سوريا إلى اللا أين، لم يخطر ببالي أني سأحط في أول محطة رحال في باريس.
كنت مراهقا يتسكع على أبواب الرجولة، لم يحفظ من العلم سوى شهادة ثانوية لا تغني ولا تسمن من علم، في غرفة سكنتها خادمة قبلي على سطوح، صارت غرفتي كزنزانة علوية تطل على مدينة الأنوار.
داهمني حنين طري العود للشام وما فتئ يستفحل ويفتح جرحا غائرا في النفس. طفقت أبحث عن كل ما يربطني بحاراتي القديمة، بالنوفرة، بالعمارة، بتلة السماكة، بالقيمرية، كل ما يرتبط بعبق دمشق في الذاكرة التي لا تعرف فيروس النسيان. عندما عرجت على جامعة السوربون والتقيت بسوري في مقهى قريب أداوي به جرح الحنين المتمرد على الالتئام، فرد على طاولتنا علبة تبغه، وكتبه، وأخبرني متبجحا أنه بصدد عمل روائي، وقرأ مقطعا يصف فيه عشيقة شامية متمنعة لم تسعفه وسامته حتى بتقبيلها، وظلت حسرة في قلبه سفحها على صفحة.
من بين الكتب قرأت عنوان: «عيناك قدري»، للكاتبة غادة السمان. لجهلي لم أكن أعرف من هي، عشقي المتمرغ في وحول الذاكرة الدمشقية دفعني لأبعد من العنوان. في الإهداء تقول: «أبي.. بصمت وتواضع، إليك من نزف المعركة، بعد ما علمتني كيف أحارب قدري»
هزني القول وشوقني أن بمقدور المرء محاربة أقداره. أدخلني عالم الأدب من كوة صغيرة، إلى ردهة فسيحة، ثم إلى محيط اللغات والآداب المتلاطم رغم أني عاشق للصحافة حتى النزيف. في أول أقصوصة التي أعطت المجموعة القصصية عنوانها، تصب غادة السمان أولى هواجسها والتي ستلازمها في أكثر من عمل تتبعته: وفاة أمها المبكر، توق الرجل الشرقي لإنجاب الذكور ولوم الزوجة على عدمه، وقدر الحب الذي لا يصمد أمامه أي تعنت أنثى. ثم الوحدة: «المرء يولد وحيدا ويموت وحيدا» نجد هذه اللازمة في عملين متباعدين زمنا: «الرواية المستحيلة»، و»يا دمشق وداعا» مع عنوان ملازم لهما: «فسيفساء دمشقية، والتمرد»
تتبعت خيوط الكاتبة المكتشفة، ولما كان من الصعب جدا الإحاطة بكاتبة ألفت سيلا من كتب جرفني معه (حوالي خمسين كتابا ولم تستسلم) في مقال قصير في صحيفة، أقتصر على جانب من الكرة الماسية المضلعة المشعة دون أن أضرب في علم الغيب.
هي ابنة الحارة الدمشقية، وقريبة نزار قباني الذي كان يسكن حارتنا أيضا وهز عقولا متحجرة حاكمته على ديوان خبز وحشيش وقمر.
تقول في روايتها يا دمشق وداعا: «أهدي هذه الرواية إلى مدينتي الأم دمشق، التي غادرتها ولم تغادرني، يوم رحيلي صرخت في وجهي، أمطري حيث شئت فخراجك عندي، وإلى الحبيب الوحيد الذي لم أخنه يوما واسمه: الحرية، الحرية، الحرية»
صدرت الرواية في عز الثورة السورية التي طالب فيها الشعب السوري بالحرية وقتل من أجلها. تقول «كلمة حرية تعاقب ألسنتنا عليها بالجمر لمجرد التفوه بها. الكلمة المحرمة الملعونة التي سمعني شقيقها أتفوه بها وتمنى إحراق لساني بجمرة كما فعلت جارتنا في زقاق الياسمين حين وضعت على لسان ابنتها جمرة لأن المسكينة تلفظت بكلمة حب.. حب، حرية، تمرد إنها كلمات محرمة» غادة الفتاة المتمردة على ظلم القبيلة تغادرها: «سأغادر شرنقتي حرة بأجنحة بعدما كنت دودة قز في شرنقة تصنع الحرير التقليدي وقد تموت مختنقة إكراما لمن لا يستحق»
زين المتمردة على تقاليد القبيلة في الرواية سرقت نفسها وذهبت وحيدة إلى طبيب لتجهض جنينا من زوج أخطأت بالزواج منه، رغم خطورة العملية: هذا التمرد المنفرد في زمن سيطرة القبيلة هو ما يميز الكاتبة.
زين بنت الدكتور أمجد الخيال التي كانت طفلة في الرابعة في «الرواية المستحيلة» والتي شهدت وفاة أمها على سرير ولادة متعسرة بتوأمين، صارت زين الصبية المتمردة ذات الثمانية عشرة ربيعا وذات جمال أخاذ.
في رواية «يا دمشق وداعا» يتهافت عليها العشاق. زين التي كان أبوها يتمناها وليدا ذكرا يعطيه اسم زين العابدين، لما جاءت أنثى اختصر الاسم على زين فهي نصف ذكر، لكنها «أخت الرجال»
وشخصية زين الروائية تتماهى مع شخصية غادة الشابة التي سحرت أكثر من عاشق عندما التحقت بالجامعة الأمريكية في بيروت، وانخرطت في مجتمع الكتاب والمبدعين.
عشقها كاتبان عشقا جنونيا وشربا نخب حبها المستحيل حتى الثمالة. في كتاب رسائل الكاتب اللبناني أنسي الحاج كتب لها:
منذ أن بدأت الصحف تنشر اسمك وتنشر لك وتنشر عنك وشيء كالنسغ يسيل منك في عروقي، شيء كالضوء يلمع منك في رأسي.
ويبقى الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني الأكثر ولها وولعا. في كتاب رسائل غسان كنفاني يكتب لها في إحدى رسائله:
«أيتها الشقية، أعرف أنني أحبك، أعطيك العالم إن أعطيتني منه قبولك بي.. فأنا، أيتها الشقية، أعرف أنني أحبك، وأعرف أنني إذا فقدتك فقدت أثمن ما لدي، وإلى الأبد.
هكذا تبقى غادة حبيسة «قصة مدينتين» فيهما ترعرعت، وفيهما أحبت، وفيهما كتبت، ومنهما هجرت إلى: «غربة تحت الصفر» في لندن، وجنيف، وحطت رحالها تستريح من وعثاء سفر طويل ومضن في باريس، لا من الكتابة بحبر الشرايين.
رسالته إلى أخته فايزة والتي يحدثها عن غادة نشعر مدى الحب العميق الذي كان يكنه لها الممزوج بدمع كتيم من ألم دفين أحرق كبده بجمره، وكأنه حبيس خزان روايته رجال تحت الشمس يدق أطرافه بقبضة لا تلقى جوابا على حوافي صحراء غادة. رسائل الحب كثيرة.
«مشاغبة زقاق الياسمين» لا تترك صلاة في محراب الحب الذي كرست له جل رواياتها (أعلنت عليك الحب، الحب من الوريد إلى الوريد، لأنني أحببتك، زمن الحب الآخر، الحبيب الافتراضي، عاشقة في محبرة، حب، الأبدية في لحظة حب، محاكمة حب. القلب العاري عاشقا، الحب والحرب) تقول: «ها أنا امرأة ضجرة تنام سأما فوق فراش محشو برسائل الحب التي كتبها العشرات لها، ها أنت تأتي تشعل النار في رسائلي وفي ذاكرتي وشجري لا أملك إلا أن أتبعك عارية القدمين حتى آخر العالم» تتساءل: هل أنا هكذا؟ لا أغادر حبا إلا وأصير قابلة للتورط في حب آخر».
حطت رحالها في باريس بعد» كوابيس بيروت» بعد أن كان» جسدها حقيبة سفر» وفيها فقدت حبها الأخير: زوجها بشير الداعوق. صور العواصم الغربية والعربية ترجمتها لغة في الصحافة، لكن دمشق ساحة النجمة، جنينة السبكي، الصالحية، أبو رمانة، الحجاز، الحميدية، المسكية، الأموي، البزورية، مدحت باشا، القباقبية.. تبقى في كل رواياتها « تتسكع داخل الجرح» تقول: «لو جلست وإياك يا دمشق حول مائدة مستديرة وأبرزت لي فواتيرك كلها، لما قلت غير عبارة واحدة: لك عمري»..» دمشق يا مدينتي الملتهبة، المضيئة، أينما كنا، فكل رصاصة تطلق عليك، تستقر في صدورنا».
استقرت في صدورنا كلنا رصاصات ليست إسرائيلية هذه المرة لكنها سورية عربية، والجرح مفتوح على مصراعيه يستكمل نزيف مستدام. في «رسائل الحنين إلى الياسمين» تقول:» في الليلة الماضية قالت لي ذاكرتي: ارسمي خروفا، فرسمت لها مدينة اسمها دمشق وضحيت بالخروف على مذبح دمشق». مدينة أخرى هي توأم روحها، تنام وتستيقظ معها ولها لأن «بيروت75» « لا بحر فيها» ولأنها باتت مدينة الكوابيس « كوابيس بيروت» في حرب 75 بين الإخوة الأعداء نالت منها « طرطوشة» (كما تفضل أن تزركش رواياتها بعامية شامية) لقد أحرقت مكتبتها وأوراقها ورسائلها ومنها رسائل عشق قديمة تحاول لملمتها.
هكذا تبقى غادة حبيسة «قصة مدينتين» فيهما ترعرعت، وفيهما أحبت، وفيهما كتبت، ومنهما هجرت إلى: «غربة تحت الصفر» في لندن، وجنيف، وحطت رحالها تستريح من وعثاء سفر طويل ومضن في باريس، لا من الكتابة بحبر الشرايين.
انتهت الصفحة يا ست الشام والكلام، ولا ينتهي الكلام.