- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
صبحي حديدي يكتب: انتفاضات أوروبا: أبعد من الشرطة وأعمق من الشغب
صبحي حديدي يكتب: انتفاضات أوروبا: أبعد من الشرطة وأعمق من الشغب
- 7 يوليو 2023, 12:10:45 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
«الانتفاضات الحضرية: تحدّي النيوليبرالية في أوروبا» كتاب بالغ التميّز، وذو صفة مرجعية عالية النفع، صدر سنة 2016 بالإنكليزية، في لندن، ضمن منشورات بالغريف/ مكميلان؛ بتحرير مارغيت ماير وكاثرين ثورن وحقان ثورن. وقد يُفاجأ المرء، هنا، حين يقرأ أنّ الاضطرابات المختلفة، وما تسميه السلطات «أعمال شغب وتخريب» ويصنّفه الكتاب في باب الانتفاضات الاجتماعية بأنساقها المختلفة؛ عمّ، في أزمنة متباعدة ولكنها راهنة، فرنسا وبريطانيا والسويد وألمانيا وبولونيا واليونان وإسبانيا وتركيا؛ أو، في اختصار مشروع: سائر أوروبا المعاصرة، طولاً وعرضاً.
وقد تصحّ العودة إلى هذا الكتاب تحديداً، الآن وقد أخذت شوارع فرنسا (المدينية، وليس الضواحي والأطراف والهوامش وحدها) في الاستقرار على هدوء تدريجي؛ بعد العواصف الهوجاء التي حرّض عليها مقتل المواطن الشاب نائل، برصاص رجل شرطة في ضاحية نانتير، غرب العاصمة الفرنسية باريس. وبمعزل عن التنميطات المعتادة، وهي في غالبيتها أقرب إلى كليشيهات مسبقة الصنع، حول إدانة الشغب والتخريب والنهب وإحراق المنشآت العامة والخاصة (وهذه لا خلاف حول إدانتها من دون تردد، بالطبع)؛ ثمة ما يبدأ من معضلات الاجتماع السياسي والاقتصادي والديمغرافي والحضري، واستطالات هذه في سلوكيات عنصرية أو عصابية أو رهابية؛ وما ينتهي إليها أيضاً، بالنظر إلى أنّ قسطاً غير قليل من مظاهر العصيان المدني لا تغطيه الكليشيهات، وبالتالي لا تفسره بقدر ما تطمس بعض جوهره الأهمّ وتتعامى عن جذوره حين تكتفي بالسطوح الظاهرة وحدها.
قبل شرارة مقتل نائل، ثمة سابقة حظيت بالكثير من الاسترجاع والمقارنة، من دون مقدار مماثل من الاستعبار واستقراء الدروس. ففي تشرين الأوّل (أكتوبر) 2005، اندلعت في ضواحي العاصمة الفرنسية انتفاضة احتجاج عارمة بسبب مطاردة الشرطة مجموعة فتية من أصول مهاجرة، دُفعوا إلى سياج كهربائي فقضى اثنان منهما، وكانت بعض النتائج هكذا: انتشار الاضطرابات إلى 300 مدينة وبلدة، وتخريب مئات الممتلكات العامة والخاصة، وإحراق أكثر من 9000 مركبة، وإعلان الحكومة حالة الطوارئ لثلاثة أشهر. الفارق الأوّل، بالمقارنة مع عام 2023، أنّ أجيال المنخرطين في الانتفاضة، وفي أشكال الشغب المختلفة، تقارب الـ17 سنة، ونسبة غير ضئيلة منها تماثل سنّ نائل حين أجهز عليه الشرطي؛ والفارق الثاني أنّ الهواتف المحمولة الذكية لم تكن في سنة 2005 واسعة الانتشار، وكان جهاز الـ«بلاكبيري» نادر الحيازة وباهظ الثمن، وبالتالي لم يكن تناقل الصورة أو الفيديو أو انتهاج التحشيد والتحريض والتنظيم (عبر الـ«تيك توك» مثلاً) بهذه الكثافة والفاعلية.
في انتفاضات فرنسا وأوروبا قاطبة، مسائل القلق حول الهوية، والذعر من مستقبل غامض أو شبه غامض، والحذر من متغيرات عاتية تضع مواطن أوروبا بين مطرقة الليبرالية البربرية وسندان الليبرالية التكنوقراطية
فصول كتاب «الانتفاضات الحضرية» تقترح سلسلة قراءات مختلفة، أو بالأحرى مخالفة لـ«الحكمة الشائعة» التي تشترك في الترويج لها الحكومات والدوائر الأوسع في الميديا، بخصوص حركات الاحتجاج والاضطراب في مواقع أخرى من أوروبا؛ كما في انتفاضة العاصمة الدانمركية كوبنهاغن، ربيع 2007، حين انقلب مركز المدينة إلى ساحة معركة بين الشرطة وآلاف المحتجين، على مدار 4 أيام غير مسبوقة في تاريخ البلد الحديث، بعد إقدام وحدات مشتركة من الشرطة والجيش باقتحام «بيت الشباب» الذي لم يكن أكثر من مركز ثقافي مستقل. مظاهر التضامن انتقلت إلى 13 مدينة دانمركية، وإلى 46 مدينة أخرى في الجوار الأوروبي. بعد سنة، أواخر العام 2008، اندلعت انتفاضة في أثينا بعد مقتل طالب برصاص الشرطة، استمرت ثلاثة أسابيع على الأقلّ وانطوت على صدامات عنيفة مع الشرطة وأعمال تخريب وإحراق ممتلكات، فضلاً عن إضراب لنهار واحد في الأسبوع الأوّل من الاضطرابات انخرط فيه 2.5 مليون عامل وكان تدنّي الأجور لافتته الأبرز، ولجوء الطلاب إلى احتلال الجامعات في أثينا وتسالونيكي.
وفي أيار (مايو) 2011 خرجت في إسبانيا تظاهرات واسعة ضدّ سياسات التقشف الحكومية، شملت 57 مدينة في طليعتها برشلونة والعاصمة مدريد؛ وانطوت، كذلك، على أعمال شغب وصدامات مع مفارز شرطة لم يردعها الطابع السلمي الإجمالي للحراك، واستفزّها نصب خيام الاحتجاج في الساحات العامة، وكذلك استلهام أساليب التظاهر والتجمع واحتلال الساحات في إطار ما سيُعرف تحت مسمى «الربيع العربي». ولسوف يكون لافتاً أنّ هذا التوجّه/ التكتيك سيمتدّ إلى 951 مدينة وبلدة، في 82 دولة داخل أوروبا وخارجها! الدور سيأتي على بريطانيا، في آب (أغسطس) ذلك العام أيضاً، رداً على مقتل رجل برصاص الشرطة في توتنهام، فاندلعت أعمال احتجاج لم تشهدها العاصمة لندن منذ 1780، سرعان ما امتدت إلى ليفربول وبريستول ومانشستر وبرمنغهام، وأسفرت عن مقتل 5 أشخاص واعتقال 4.000؛ وليس من دون دلالة أنّ وزيرة الداخلية يومذاك كانت تيريزا ماي، وعمدة لندن كان بوريس جونسون.
الشرطة، في تسعة أعشار الدول الأوروبية، كانت وتظلّ القاسم المشترك الأعظم خلف هذه الانتفاضات، بصرف النظر عن دوافع الاحتجاج وأشكاله، سلمية كانت أم عنيفة، وانزلقت إلى الشغب أم اكتفت بصياغات رمزية لا تعفّ عن الشغب أيضاً (على غرار السترات الصفراء في فرنسا، مثلاً)؛ وأياً كانت الهوية السياسية أو الاقتصادية أو الإيديولوجية للسلطة المدنية في رئاسة الدولة أو الحكومة أو أغلبية البرلمانات. ولا تُغفل، هنا، حقيقة أنّ الشرطي الفرنسي الذي أطلق النار على الفتى نائل كان، في زعمه، يطبق قانون سنة 2017 الذي يوسّع نطاق تمكين الشرطي من استخدام السلاح الناري، والذي سنّته الجمعية الوطنية في عهد الرئيس الاشتراكي فرنسوا هولاند (وليس اليميني جاك شيرك سنة 2005، أو حتى اليميني الثاني نيكولا ساركوزي المهووس بمفاهيم الأمن). وثمة اليوم علماء سياسة واجتماع وأكاديميون ومنظّرون لا يجدون حرجاً في الحديث عن طراز من الرهبة يعتور الحكومات إزاء مؤسسة الشرطة، بما يكبّل عمل النظام الديمقراطي في كثير أو قليل، ويمسّ مبدأ فصل السلطات ذاته.
وفي العودة إلى فرنسا، وانتفاضة 2005 تحديداً، كان رئيس الوزراء دومنيك دوفيلبان أكثر تواضعاً من حيث الحوار والتفاوض والأخذ والعطاء، شرط أن يتمّ هذا كلّه تحت سقف مشروع القانون، وعلى طريقة حوار الطرشان عملياً، في صيغة مفرغة تحوّلت إلى مادّة تندّر لدى الفرنسيين: إني أسمع أصوات الذين يحتجون، ولكني أيضاً أسمع أصوات الذين لا يحتجون! ذلك لأنّ قواعد اللعبة الديمقراطية صريحة وفصيحة أتاحت له هوامش المناورة تلك، مثلما مكّنت الرئيس الفرنسي الحالي من المناورة مع وزير داخلية مكروه ومتهم بالتحرّش الجنسي. فالأصل أنّ أياً من الثلاثة لم يأتِ إلى السلطة بموجب انقلاب أو ورث الحكم عن أبيه؛ وليس عليه بالتالي أن يذعن للملايين التي انتخبت أغلبيته البرلمانية أو الرئاسية، ثمّ صارت (أو شرائح واسعة منها على الأقل) تعضّ أصابع الندم على التصويت له.
وليست خافية، في انتفاضات فرنسا وأوروبا قاطبة، مسائل القلق حول الهوية، والذعر من مستقبل غامض أو شبه غامض، والحذر من متغيرات عاتية تضع مواطن أوروبا بين مطرقة الليبرالية البربرية وسندان الليبرالية التكنوقراطية، على حدّ تعبير الراحل بيير بورديو؛ فكيف إذا اقتادته، صاغراً أو حتى راضياً، إلى مستنقعات عنصرية وانعزالية وشعبوية. وفي نحو اللغة الفرنسية ثمة صيغة فعل خاصة هي الزمن الماضي الناقص، وكان عدد من المفكرين قد تتبعوا انتقال هذا الزمن من فقه اللغة إلى فقه الحياة اليومية، ولم يجدوا صعوبة كبيرة في وصف الحاضر الفرنسي هكذا: زمنُ ماضٍ ناقص، بات ينسحب على القارّة العجوز أوروبا، تباعاً وحثيثاً!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس