صبحي حديدي يكتب: لقاء بايدن ـ نتنياهو لا حاجة لأعشاش طائر الوقواق

profile
  • clock 22 سبتمبر 2023, 1:41:20 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

السُذّج، عن سابق قصد وتصميم تحديداً، وبعض الحمقى من المؤمنين بدفاع رؤساء الولايات المتحدة العنيد عن مبادئ الديمقراطية ودولة القانون، ونفر من الآملين خيراً في استمرار إخضاع العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية لـ«القِيَم المبدئية» أياً كانت الأنواء والعواصف والإدارات والعواصف؛ هؤلاء كانوا يأملون خيراً في رفض الرئيس الأمريكي جو بايدن استقبال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض، بالنظر إلى انزلاق الحكومة الإسرائيلية الأكثر فاشية ويمينة وعنصرية نحو هاوية فاضحة في ملفات القانون والقضاء والحقوق العامة، باعتراف العديد من كبار حماة الكيان الصهيوني ومدّاحي «الواحة الديمقراطية الوحيدة» في الشرق الأوسط.
ولا بأس، هنا، بطُرفة حول لقاء بايدن مع نتنياهو في نيويورك، ساقها آرون دافيد ميللر في مقال على موقع كارنيغي بعنوان «ليس في وسع بايدن ولا نتنياهو عقد لقاء رديء»؛ استهله هكذا: «أفكارهما الخاصة قد لا تعكس تماماً نقاط كلامهم العام. «أتمنى لو كان ترامب هو الرئيس» قد يفكّر نتنياهو. «لا أصدّق أنّ هذا الرجل لا يزال بيننا» قد يتعجب بايدن، ألا تستطيع إسرائيل المجيء برئيس وزراء أفضل؟». الأوّل، يتابع ميللر، رئيس أمريكي في عداد أخلص المنحازين إلى إسرائيل، والثاني هو الأطول عهداً في الحكومات الإسرائيلية لكنه يواجه القضاء بتُهم الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة. مصدر الطرافة أن ميللر ليس سوى الأمريكي اليهودي الذي دافع طويلاً وبشراسة عن دولة الاحتلال خلال مختلف الوظائف التي شغلها في وزارة الخارجية، أو حتى من منصبه كـ»مؤرّخ» رسمي في البيت الأبيض؛ ضمن فريق من أصدقاء الاحتلال ضمّ أمثال دنيس روس ومارتن إنديك وجوناثان شوارتز وجو لوكهارت، وهذا الأخير قال التالي في وصف نتنياهو: «إنه بين الأشخاص الأشد إثارة للنفور. كاذب وغشاش. حين يفتح فمه، لا تثقْ في أنّ أي شيء يقوله يمكن أن يكون صادقاً».
وكي يُكمل الطرفةَ تفصيلٌ أقرب إلى الكوميديا السوداء، كان الصحافي الإسرائيلي دافيد ماكوفسكي، كبير معلقي «جيروزاليم بوست» قد تعمد صبّ الزيت على نار الـ»فانتازم» العربي، حسب تعبيره، حول وجود أربعة حاخامات في وزارة الخارجية الأمريكية، فروى حكاية دارت ذات ليلة في بيت السفير الأمريكي لدى تل أبيب، عشية وضع اللمسات الأخيرة على اتفاقية الخليل، أواخر 1996. كان ميللر، مساعد روس، قد استأذن فريق العمل لأداء الصلاة اليهودية المعروفة Kaddish، على روح والدته التي توفيت مؤخراً في كليفلاند؛ فأبى روس إلا أن يشارك زميله في الصلاة، ثم انضمّ إليهما إنديك، وشوارتز، و… إسحق موردخاي، وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، وكان موجوداً لأغراض استكمال الاتفاق. ويروي ماكوفسكي أنّ المفاوضين الفلسطينيين الحاضرين وقعوا في حيص بيص أمام هذا المشهد، ولم يكن في وسعهم القيام بشيء آخر سوى الحملقة في الفراغ!
لقاء بايدن ـ نتنياهو حصل، إذن، ولم يغيّر من دينامياته الكثيرة ومباحثاته وخلاصاته أنه جرى في نيويورك وليس في واشنطن، وتحت راية الأمم المتحدة وليس في المكتب البيضاوي؛ والفوارق ضئيلة، والأرجح أنها شكلية إعلانية استعراضية، بين أن يكون المحور الأهمّ في اللقاء هو تشديد بايدن على ضرورة التزام حكومة نتنياهو بأسس دولة القانون، أو حثّه على منح السلطة الوطنية الفلسطينية بضع جرعات من «سيروم» أكذوبة الدولة، أو تدقيق آخر ما توصلت إليه جهود إدارة بايدن في تعبيد الدروب أمام التطبيع السعودي ـ الإسرائيلي؛ أو أيّ ملفّ آخر لا يمكن له أن يخرج عن صميم المبدأ الجوهري الذي حكم ويحكم علاقات الولايات المتحدة مع دولة الاحتلال، على مدى عقود وإدارات وحكومات.

لقاء بايدن ـ نتنياهو حصل، إذن، ولم يغيّر من دينامياته الكثيرة ومباحثاته وخلاصاته أنه جرى في نيويورك وليس في واشنطن، وتحت راية الأمم المتحدة وليس في المكتب البيضاوي؛ والفوارق ضئيلة، والأرجح أنها شكلية إعلانية استعراضية

يدرك بايدن، ومثله يعرف نتنياهو، أنّ اللقاء هذا قد يكون الأكثر انطواء على بواعث الاحتقان خلال عشرات اللقاءات التي عقدها الثاني مع رؤساء الولايات المتحدة؛ ممّن تعاقبوا على البيت الأبيض، مقابل 15 سنة من خلوده في رئاسة الحكومة: احتجاجات شارع إسرائيلي عريض، وجالية أمريكية يهودية، ضدّ مشاريع تعديل أنظمة القضاء ووضع المحكمة العليا الإسرائيلية على رفوف الإهمال؛ وممارسات العنف والتنكيل والاستيطان التي يرتكبها الاحتلال في الضفة الغربية، وأنذرت بولادة أشكال جديدة شتى من المقاومة الفلسطينية خاصة في صفوف الشباب؛ وإلقاء السياسة الأمريكية، حول التمسك بحلّ الدولتين، في سلّة مهملات حكومة نتنياهو؛ والذهاب بمستويات التوتر مع إيران، بصدد برنامج طهران النووي، إلى حوافّ بالغة الخطورة، على أرض إيران ذاتها أو مناطق نفوذها العسكري في سوريا.
لكنّ هبوط نتنياهو في نيويورك للقاء بايدن ليس من طراز اجتياح طائر الوقواق لأعشاش الطيور الأخرى كي يضع بيوضه فيها فتحضنها نيابة عنه، ثم ترعاها حتى تفقس، ويتولى الفرخ الوليد أمر التخلّص بنفسه من الفراخ الشرعية وينعم وحده بالعشّ والغذاء؛ ليس لأنّ نتنياهو غير معنيّ، في المرحلة الراهنة على الأقلّ، بأيّ عشّ يمنحه له ولحكومته رئيسُ القوّة الكونية الأعظم، فحسب؛ بل أساساً لأنّ أيّ عشّ أمريكي لن يتسع راهناً لبيوض هذه الصهيونية العنصرية الفاشية الأبارتيدية التي يديرها نتنياهو صحبة أمثال إيتمار بن قفير وبتسلئيل سموتريش، فضلاً عن حقيقة أنّ تعبير «عشّ الوقواق» مجازي اصلاً، والطيران حوله افتراضي تخيّلي. وهكذا فإنّ نتنياهو سوف يهبط في عشّ فعلي تواصل تأثيثه الإدارة الراهنة، ومن خلفها الكونغرس الأمريكي بتمثيلاته الديمقراطية والجمهورية سواء بسواء؛ والمتظاهرون اليهود الذين تجمعوا أمام مقرّ لقاء بايدن ونتنياهو في نيويورك، ليسوا أعلى أصداء وهتافات من نظرائهم متظاهري تل أبيب والقدس، والجعجعة هنا ليست مختلفة في الشكل أو الجوهر عن الضجيج والعجيج هناك.
والإنصاف يقتضي القول إن نتنياهو 1996 (أي زعيم الليكود، ورئيس الوزراء بالانتخاب وليس بالتعيين كما كانت عليه الحال قبلئذ)؛ قطع مشواراً حافلاً لتصعيد نتنياهو 1991 (الشخصية المتلفزة التي أطلّت على العالم من شاشة الـ CNN، عبر قناع واقٍ للغاز، مباشرة، في أعقاب سقوط أوّل صاروخ «سكود» عراقي على تل أبيب). وبعد وقت قصير من تولّيه المنصب، كان المزاج الدولي والعربي الرسمي (من الأسبق لرؤساء مصر حسني مبارك، وأمريكا بيل كلينتون، وفرنسا جاك شيراك…) يتولى ترقية نتنياهو وتبييض ساحته وصفحته، معللاً النفس بالمنطق القائل: الرجل انتُخب قبل أسابيع معدودات فقط، وهو بالكاد فرغ من تشكيل حكومته، فامنحوه فضيلة الشكّ، واصبروا عليه قليلاً.
ولقد طالب بالسلام مع الأمن والقوة وأرجحية الكفّ الإسرائيلية؛ وطمأن العالم إلى أنه ملتزم بالاتفاقات التي وقعها سلفاه إسحق رابين وشمعون بيريس، فبدا الإعلان أشبه بكرم أخلاق من جانبه؛ وشاء أن يبدو عادلاً حين طلب المساواة في توزيع التنازلات بين العرب والإسرائيليين، فرأى أنه من غير المعقول أن تُقدم دولة الاحتلال على انسحابات من الأراضي المحتلة بنسبة 100٪، ولا يقدّم العرب شيئاً؛ حتى لقد خيّل للبعض أنّ العرب هم الذين يحتلون بعض الأراضي الإسرائيلية، ويماطلون في الانسحاب منها!
يومذاك كان بعض المعلقين في الصحافة الأمريكية قد أسبغوا طابعاً مسرحياً على أجواء الترقب تلك، ومنحوا نتنياهو لقب «الرجل اللغز» وتوقعوا انكشاف الأسرار من صورته المعلَنة الغائمة. لكن نتنياهو ظل يعمل وفق منطق آخر، كما هي حاله اليوم في اللقاء مع بايدن: لا يسفر عن اللغز والأحجية… إلا عند الفئة التي سردتها السطور الأولى من هذا المقال!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

كلمات دليلية
التعليقات (0)