عبدالعزيز عاشور يكتب : سلو بلدنا

profile
  • clock 1 يوليو 2021, 7:22:37 م
  • eye 941
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

عتاد أبى رحمه الله أن يصحبنى معه صباح عيد الفطر وصباح عيد الأضحى من كل عام الى ما يسمى عندنا ( المنزل ) ..

وهو فضاء مكشوف بين بعض بيوت الحى كنا نجتمع فيه فى كل المناسبات ..

ممكن تسميها دار مناسبات ..

معظم أهل القرية وقتها يمتهنون الزراعة حتى من كان منهم مدرسا او موظفا حكوميا ..

فقد كان الموظف او المدرس او الناظر يخرج مبكرا مع مواشيه الى حقله يقدم لها طعام الإفطار ويربطها الى جذع شجرته ثم يعود لبيته ويبدل ملابسه ويذهب الى عمله ..

وعند عودته من عمله يستكمل ما بدأه صباحا ..

وكانت عادة أهل القرية أنهم بعد صلاة الفجر وقبل التحرك الى الحقول انهم يغيروا ريقهم ..

غيار الريق يعنى تأكل أى حاجة سريعة الى ان يحين موعد الإفطار والذى عادة ما يكون فى حوالى التاسعة صباحا ..

وعادة كان غيار الريق عبارة عن ربع او نصف رغيف فلاحى يتم تسخينه على المنقد ( موقد طبيعى يعمل بما يسمى القوالح ) .. 

والقوالح لمن لا يعلمها هيا اللى بتكون فى كوز الدرة وتتبقى بعد تفريط الحب من الكوز  ..

ويتناول مع العيش بعضا من الملح المخلوط ببعض التوابل فيما يسمى ( دقة )..

يوم العيد بقى يحصل ايه وكنا بنعمل ايه ؟

كل عائلة لها مكان محدد فى دار المناسبات ( المنزل )..

والمنزل مفروش بالحصير ..

ولا شيئ سوى الحصير ..

وكل عائلة تحضر معها المنقد ( الموقد ) وبعض القوالح لإشعالها استعدادا لتسخين قطع العيش عليها .. ثم تناولها لغيار الريق بالعيش الساخن والدقة ..

دار المناسبات ( المنزل ) كانت مكانا مفتوحا بلا سقف ..

يعنى دخان المنقد والقوالح منها للسماء ..

استمر الحال عقودا من الزمن ..

حتى بدأت بعض ملامح الثراء والغنى او ان شئت قل بعض الإستغناء على الكثيرين من أهل القرية الذين كان الفقر أهم سماتهم خصوصا مع بدء السفر لدول الخليج بعد الطفرة البترولية ..

قرر أهل الحى تسقيف المنزل ( دار المناسبات ) ..

تحاشيا للأمطار من ناحية ومن ناحية أخرى للإستفادة منها فى صلاة الجمعة لأن الأرض تجاور مسجدا صغيرا ..

بعد الانتهاء من تسقيف المكان أصبح المنزل محكوما من كل الاتجاهات ولم تعد هناك فرصة لخروج دخان المواقد أيام العيد ..

ورغم ان الظروف كلها تقريبا قد تغيرت مع رحيل جيل الآباء ..

ورغم انه لم يعد هناك فلاح حقيقى فى القرية الا فيما ندر ..

ورغم توفر وسائل حديثة لم يرها جيل الآباء مثل الكهرباء والغاز ومواقد الغاز وغيرها من المستحدثات التى لم يلحقوا بها ..

ورغم ان المكان ( المنزل ) لم يعد مفتوحا بما يسمح بخروج الدخان الناتج من إشعال القوالح او حتى الفحم ..

ورغم أنك إن تلفت حولك وتفرست فى وجوه الحاضرين ستجد من بينهم أساتذة جامعات وضباطا ومهندسين ورجال قانون وشخصيات تشغل مناصب مرموقة ..

الا أنك ما زلت ترى حرص كل عائلة على إحضار ذات الموقد البدائى ونفس القوالح اللى معرفش بيجيبوها منين ويجيبوا معاهم ( الدقة ) والجبنة القريش او الجبنة القديمة ..

ويشعلوا القوالح ويعبأوا المكان بالدخان ..

وتلاقى العواجيز من أمثالى خصوصا المصابون ببعض الأمراض الصدرية يسعلون ويتألمون وهم يشعلون المواقد ( ويقمروا ) العيش للإنهماك بعدها فى التهام كل ما هو موجود أمامهم ..

مش غيار ريق ..

لا ..

دى مسابقة لطحن كل ما تيسر أمام كل منهم ..

أكثر من مرة أعاتب بشكل شخصى وأقول للمقربين أن الظروف قد تغيرت وأن أدوات الحياة قد تغيرت وأصبح فى متناول أيدينا ما لم يكن فى متناول أيدى جيل الآباء ..

فوسائل تسخين العيش من البوتاجاز الى الميكرويف أصبحت بين أيدينا ..

فلماذا الإصرار على فعل ما كان يفعله آباؤنا ؟

فتجد الإجابة الغالبة : 

                         سلو بلدنا وآباءنا يا عم الحاج ..

إشمعنى نسينا سلو آباءنا فى الإكتفاء بلقيمات لتغيير الريق ع الصبح .. ؟

وأصبحنا صباح كل عيد قاعدين نلغ فى الأكل كما لو كنا لم نتناول طعاما من اسبوع مضى ؟

واشمعنى نسينا سلو الآباء فى التراحم وحسن الخلق ..؟

واشمعنى اكتفينا بتقليد بعض الأفعال وكأنها مقدسات يأثم تاركها رغم أنها لم يعد لها محل ولم تعد مناسبة لا لظروف المكان ولا لظروف الحاضرين ؟

والنهاية .. سلو بلدنا وآباءنا واجدادنا ..

المشهد ده مش منفصل عن حياتنا العامة والفردية ..

هو مشهد من لوازم حياتنا ..

أصبحنا نجتر ماضينا ولا نفكر فى صنع حاضر او مستقبل يختلف ايجابيا عن ذلك الماضى ..

مهمااختلفت الظروف او الأدوات أو الدواعى ..

فأتذكر حينها قول الله تعالى :

( قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ )

ولم يشفع لنا أننا أصبحنا على درجة من العلم لم تسنح لآبائنا ..

ولم يشفع لنا أن الله قد من علينا بإمكانيات وقدرات لو سنحت لآبائنا او أجدادنا لربما كانوا قد غيروا وجه التاريخ ..

التعليقات (0)