- ℃ 11 تركيا
- 5 نوفمبر 2024
عبدالعزيز عاشور يكتب : مذكرات شاب
عبدالعزيز عاشور يكتب : مذكرات شاب
- 8 مايو 2021, 12:17:11 ص
- 1080
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
مع فورة الصبا وحماس النشاط السياسى فى بداية المرحلة الجامعية كان الفتى منا يسعى دوما لإقناع غيره بوجهة نظره وبما يظن أنه يعلم ..
وكان من فرط الحماسة أنك حين تمسك الميكروفون بيدك تتمنى داخليا ألا تتركه ..
فيما عرفناه فيما بعد بشهوة الكلام ..
أوقعنى أحد الأصدقاء فى قريتى يوما فى مأزق ما زال أثره فى نفسى للآن ولم أنسه له الى حين ..
كنا جلوسا أنا وهو وجار لنا من جيلنا يكبرنا بعام واحد ..
فجأة قال لى الصديق :
ايه رأيك يا عبد تشرح لأخونا فلان الفروقات بين الماركسية والاشتراكية العربية ..
وكأنه داس على زر أو فتح محبس مياه ..
انطلقت بحماسة أشرح لثالثنا الفرق بينهما واخذت أستخدم كل ما اكتسبته من مصطلحات وتشبيهات لإيصال المعنى المراد ..
وبعد دقائق قليلة حانت منى التفاتة لصديقى فلمحت على ثغره ابتسامة لم تكن مريحة لى ..
فعاودت الإلتفات لثالثنا فرأيته فاغرا فاه ترتسم على محياه نظرة تشتبك فيها البلاهة مع الشفقة والود ولسان حاله وكأنه يقول فى نفسه :
لا حول ولا قوة الا بالله ..
ايه اللى جرى لك يا ابن عاشور ؟
دا انت كنت واد زينة وبنقول عليك رزين وحلو ..
وانتبهت أننى أخاطب شخصا لم يتعلم وخرج من المدرسة الابتدائية لضعف فى الادراك العقلى ..
يعنى كنا بنقول عليه بركة ..
فأمسكت عما كنت أقوله وأدركت اننى أتحدث للشخص الخطأ عن الموضوع الخطأ ..
ورغم أننى ربما ما زلت ذاك الفتى الذى اذا تحدث تحمس وانطلق حتى ربما ينسى جوعه أو أوجاعه الا أن هذا الدرس الذى لقننى إياه صديقى وبلدياتى
علمنى الحرص على عدم الحديث الا فى الوقت المناسب وللشخص المناسب وفى الموضوع المناسب ..
وتذكرت قول الله تعالى :
( ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )
وأدركت حكمة المولى سبحانه فى تقديم الحكمة على الموعظة الحسنة وعلى الجدال بالتى هى أحسن فى الآية الكريمة ..
واخد بالك من ( وجادلهم بالتى هى أحسن ) ؟
مش بالتى هى أوجع
ولا بالتى هى أفحش
ولا بالتى هى أسوأ ..
بالتى هى أحسن ..
يعنى تنتقى أحسن ما لديك من أسلوب ومفردات وطريقة كلام وتعبير وجه حتى يلين لك قلب سامعك ويستمر وده لك حتى لو لم يرق له كلامك ..
وعن لين الكلام حتى مع من تثق أنه لن يعيرك سمعا ولن يتبع لك قولا يعلمنا رب العالمين حين قال لموسى وهارون عليهما السلام :
( اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى )
فالله سبحانه يعلم أن فرعون لن يؤمن ولن يتذكر ..
وإنما يعلم خلقه فى أنبيائه ..
نرجع تانى للحكمة ..
لما طبقت لفظ الحكمة على محاولتى شرح الفرق بين الماركسية والاشتراكية العربية للجار العزيز انتبهت أننى تحدثت فى موضوع لا يعنيه ولن يعنيه من قريب او بعيد ..
وأن الشخص المخاطب بالحديث حالته الإدراكية لا تسمح له باستيعاب الخطاب حتى وإن أراد ..
ما حدث هو عكس الحكمة المراد مفهومها فى الاية الكريمة ..
فتعلمت أن لكل مقام مقال ..
وأنه ليس من الحكمة أن تتحدث فى حفل زفاف عن حكم تغسيل وتكفين الميت ..
ولا أن تتحدث فى سرادق عزاء عن زواج المسيار ..
ولا أن تخطب الجمعة فى حى شعبى أو قرية نائية فتستخدم العربية الفصحى وتنتقى من مفرداتها الأشد جزالة من غيرها ..
ولا أن تخطب فى جمع من العلماء والأساتذة بلغة المصاطب البسيطة ..
ومن هنا تصبح الحكمة هى المدخل الأول لعقول وقلوب من تخاطبهم ..
وأنك حين ترى فى عيون الناس عدم تفهمهم او استنكارهم لخطابك فلا بد أن تبدا بلوم نفسك ومراجعتها قبل ان تلومهم ...