- ℃ 11 تركيا
- 22 ديسمبر 2024
عبد الحليم قنديل يكتب: انقلاب في العراق
عبد الحليم قنديل يكتب: انقلاب في العراق
- 15 يناير 2022, 9:15:36 ص
- 454
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
تبدو المفارقة ظاهرة في أحوال العراق اليوم، فقد أعيد انتخاب محمد الحلبوسي (السني) رئيسا للبرلمان، وهو ما يحدث لأول مرة في عراق ما بعد الاحتلال الأمريكي، وما تبعه من هيمنة إيرانية، وربما يعاد تنصيب برهم صالح (الكردي) رئيسا للجمهورية بالصلاحيات البروتوكولية ذاتها المحدودة، وقد يكون الأهم الوارد، أن فرصة مصطفى الكاظمي (الشيعي) باتت كبيرة في تجديد بقائه على رأس الحكومة.
ظاهر المفارقة، أن استمرار تسمية القيادات على حالها، قد يوحي بالركود، بينما الحقيقة لا ظواهر الأمور، أن التجديد للقيادات نفسها، قد يشي ببعض التغيير والإزاحة السياسية، خصوصا في علاقات العراق بمحيطه الإقليمي، أو في تغير المزاج العام داخل العراق نفسه، فالعراق يبتعد أكثر عن معنى الهيمنة الإيرانية الغالبة، ويقترب أكثر من جواره العربي الخليجي والأردني والمصري بالذات، وفكرة «البيت الشيعي» السياسي جرت عليها تشققات ودواعي فرز غير مسبوق، وأحزاب الطابع الديني تآكلت وتتوارى، وأولوية المعنى العراقي المستقل إلى إطراد في حضورها، خصوصا بعد تراجع الوجود المقنن لقوات وقواعد التحالف الأمريكي ـ الغربي عموما، وعقد اتفاق تقليص الدور، وحصره في وظائف التدريب والاستخبارات والاستشارات العسكرية، وانفلات أعصاب الأحزاب والميليشيات الأكثر ولاء لإيران، بعد هزائمها التاريخية في جولة الانتخابات الأخيرة، وفشلها في التفاهم والمساومة مع تيار مقتدى الصدر، الذي يرفع شعار «حكومة أغلبية وطنية لا شرقية ولا غربية» ما يعني الرغبة في تقليص النفوذ الأمريكي والإيراني معا، والانقلاب على سيرة حكومات «التوافق» على توزيع حصص الفساد، ونهب ثروات العراق الغني، ومحو شخصيته الوطنية المستقلة.
ثمة روح عروبية جديدة تتفتح ورودها في العراق، وتنفك عنها بعض القيود الفارسية الثقيلة مع النجاح الجزئي لانتفاضة «تشرين»
وفي وجوه المفارقة العراقية المتعددة، نجح رجل الدين الشاب مقتدى الصدر، في ما فشل فيه السياسي «العلماني» المخضرم إياد علاوي، قبل أكثر من عشر سنوات، الاثنان من الشيعة في القيد الطائفي، لكن الفوارق الشخصية كثيرة، فقد كان علاوى بعثيا قياديا، واختلف وطورد في ظل حكم أحمد حسن البكر ونائبه صدام حسين، وعلاوي ابن لأسرة سياسية قديمة منذ زمن الحكم الملكي، وشغل منصب رئيس الوزراء لشهور أوائل زمن الاحتلال الأمريكي، وحاول استلهام قبضة صدام القوية في ممارسته القصيرة للحكم عامي 2004 و2005، وأهّله ذلك ليصبح موضع دعم ورهان من دول خليجية غنية مناوئة لإيران، وكوّن تحالفا واسعا من السنة والشيعة في انتخابات 2010، وفاز فيها بالمركز الأول، لكن نوري المالكي، الذي كان وقتها سيد اللحظة ورئيس الوزراء، قطع الطريق على علاوي، واستعان بأطراف «البيت الشيعي» الموالية بغالبها وقتها وبشدة لإيران، وفاز بسجال «الكتلة الأكبر» وحصل على منصب رئيس الوزراء للمرة الثانية بعد الاحتلال، لكن الرياح أتت بما لا تشتهيه سفن المالكي، الذي راكم ثروات مسروقة، قيل إنها طالت سقف السبعين مليار دولار، ولم يكن يتورع هو الآخر عن مواجهة خصومه بالقبضة «الصدامية» ذاتها، وخاض ما سماه «صولة الفرسان» لردع التيار الصدري وعمليات «جيش المهدي» ضد قوات الاحتلال الأمريكي، إضافة لحروبه الطائفية الاستئصالية ضد جماعات السنة العرب، وضد حركات المقاومة الوطنية البعثية والإسلامية، إلى أن فاجأته كاسحة ظهور جماعة «داعش» التي سيطرت في ساعات معدودات على أغلب المحافظات الغربية والشمالية (السنية) وتفننت في جرائم قطع رؤوس ضباط جيش المالكي الميليشياوي الشيعي غالبا، ومع صدمة «داعش» المزلزلة، سقط المالكي عن عرشه، وقدم حزب المالكي (الدعوة) وجها آخر هو حيدر العبادي، بدا أقل طائفية، وأكثر قدرة على حشد الجهد الذاتي في معركة هزيمة «داعش» التي استعان فيها بفتوى النجف، وبالأمريكيين والإيرانيين معا، لكن النصر الذي نسب إلى العبادي، لم يزد فرصه في انتخابات 2018 متدنية التصويت، التي جيء بعدها برئيس الوزراء الباهت الشخصية عادل عبد المهدي، بينما كانت القواعد الشعبية الشيعية تغلي، ويتعاظم ضيقها بالأحزاب الممعنة في طائفيتها، والسارقة بفجور للثروات من تحت العمائم، والموالية الخاضعة لإيران، ولأوامر قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري، الذي قتله الأمريكيون في ما بعد بصاروخ ذكي على أبواب مطار بغداد، ثم كانت قيامة انتفاضة الفرات الأوسط والجنوب الشيعي أواخر أكتوبر/ تشرين الأول عام 2019، وتوالي جولاتها وتضحياتها، والتصدي لها بالعنف الدموي الشنيع من جماعات الهوى الإيراني، وسقوط 30 ألف قتيل وجريح في صفوف المنتفضين الشبان، بينما لجأ التيار الصدري وشيخه مقتدى، إلى مغازلة (انتفاضة تشرين) ومنافستها أحيانا بحشود تخطف الكاميرات، وأضاف لمكاسبه التي كان حققها قبلها في انتخابات 2018، حين خلع النبرة الدينية المباشرة، وكون مع فئات علمانية ويسارية تحالف «سائرون» وفاز بالمركز الأول بنحو 54 مقعدا، زادها في الانتخابات الأخيرة عام 2021 إلى 73 مقعدا، ورفض التحالف مع جماعات «الإطار التنسيقي» المشايع لإيران، الذي تدنى تمثيله البرلماني، وفشل في الضغط في الشارع لتعديل النتائج، كما فشل في مساومة الصدر، لإعادة تأسيس البيت الشيعي الجامع، ورفض الصدر بحزم إشراك المالكي بالذات، الذي تدنى تمثيل كتلته «دولة القانون» إلى 35 مقعدا لا غير من إجمالى 329 مقعدا في البرلمان، فيما تقدمت عليه كتلة «تقدم» السنية بزعامة الحلبوسي، التي عقدت حلفا مع كتلة «عزم» السنية بقيادة الملياردير الملغز خميس الخنجر، ومد الطرفان مع كتل الأكراد خيوط تشاور فتحالف ضمني وظاهر مع الكتلة الصدرية، حققت لمقتدى الصدر هدفه الثأري بإقصاء المالكي، وعزل حلفائه من جماعات الولاء الإيراني.
والمحصلة المرئية إلى الآن، إن فكرة التحالف الشيعي الأكثري انهارت عمليا، وأن أولوية التكتل الطائفي ذهب ريحها، وأن السياسة العابرة للطوائف زادت حضورا في العراق، الذي لا ينص دستوره رسميا على التوزيع الطائفي للمناصب كما حال لبنان، بل سرى التقاسم كعرف مرضٍ منذ احتلال العراق في إبريل/نيسان 2003، لكن الجديد الملموس هذه المرة، أنه قد تزيد فرص مراجعة الأعراف السياسية المفتتة لوحدة العراق والعراقيين، وقد يمكن تخليق سياق يتقبل مراجعة الدستور، الذي وضعه حاكم الاحتلال الأمريكى بول بريمر، وأقصى عروبة العراق إلى الهامش لا المتون، فثمة روح عروبية جديدة تتفتح ورودها في العراق، وتنفك عنها بعض القيود الفارسية الثقيلة مع النجاح الجزئي لانتفاضة «تشرين» ودخول عشرات من شبابها الوطني إلى عضوية البرلمان الجديد، وخلخلة نفوذ الأحزاب الطائفية والدينية التقليدية، بما قد يوفر قوة دفع مضافة لحلم استعادة عراقية العراق وعروبته، وإعادة بناء حركته الوطنية والثقافية وهويته العروبية، خصوصا إذا تحقق المتوقع إلى حد ما، وأعيد انتخاب مصطفى الكاظمي «المستقل» رئيسا للوزراء، وهو الذي جاء إلى منصبه بدفع مباشر من زلزال «تشرين» وكان قبلها رئيسا لجهاز المخابرات، ومالت أغلبية البرلمان السابق لاختياره رئيسا للحكومة عقب استقالة عادل عبد المهدي مضطرا، وقد لا يكون الكاظمي اختيارا مثاليا صافيا، وفي تاريخه الشخصي ثقوب وخروق ودواعي ريبة، لكن «براغماتيته» الظاهرة ونشاطه الملموس، وانفتاح سياسته على الخليج وعلى مصر بالذات، قد يعين على كسب متدرج لمعركة التملص من التبعية المفرطة المزمنة للجوار الإيراني، وقد يفتح الباب الموارب لتقوية مؤسسات الدولة الهشة في العراق، ودفعها لخوض حرب داخلية تنتظرها مع جماعات «داعش» التي عادت لانتعاش ملحوظ، ومع جماعات مسلحة منساقة عقائديا للتشيع الفارسي، وتتخفى سياسيا وراء تحالف «الفتح» بزعامة هادي العامري، ومن وراء واجهات سياسية لكتائب «حزب الله» و»عصائب أهل الحق» وغيرها، تستعد كلها بعد هزائمها الانتخابية المنكرة لشن هجمات دموية مسلحة، قد لا يتورط المالكي بتراكم حنكته في تأييدها علنا، وإن كان يستخدمها من وراء ستار، ويطمع في العودة إلى «الواجهة الأمامية» من جديد، وإن كان يدرك أن زمنه السياسي قد فات، وأن أحزاب اليمين الديني والطائفي دالت دولتها، وفي عموم العالم العربي، وليس في العراق وحده، فقد احتكر حزب «الدعوة الإسلامية» صدارة المشهد غالبا في حكم العراق بعد الاحتلال، من إبراهيم الجعفري إلى حيدر العبادي، وكان المالكي هو العنوان الأبلغ دلالة، فهو الأمين العام لا يزال لحزب «الدعوة» وهو المعادل الشيعي لجماعة «الإخوان» في أوساط السنة، وقد تلاشى تأثير «الإخوان» في العراق، وكان آخر نسلهم السياسي ممثلا في شخص سليم الجبوري رئيس البرلمان الأسبق، ودارت الدائرة على حزب المالكي، الذي بدأ حياته السياسية بامتهان بيع «السبح» بالقرب من مقام السيدة زينب في دمشق، وربما لا يتبقى له سوى اختيار العودة إلى مهنته القديمة.
كاتب مصري
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "180 تحقيقات"