- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
عبد الحليم قنديل يكتب: عرب ما بعد أوكرانيا
عبد الحليم قنديل يكتب: عرب ما بعد أوكرانيا
- 19 مارس 2022, 6:16:04 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
يبدو العرب اليوم في حالة انتظار على رصيف التاريخ، فرغم أن أغلب الحكومات العربية صوتت أمميا مع إدانة الحملة العسكرية الروسية في أوكرانيا، بينما رفض القليل منها أو امتنع عن التصويت، إلا أن الجمهور العربي بدا مختلفا، ومتحمسا في أغلبه للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ربما باستثناء تيارات على الساحة السورية، التي شهدت تدخلا روسيا دمويا منع سقوط جماعة بشار الأسد.
وقد لا يكون حماس الشارع العربي محبة في روسيا، ولا كراهية لأوكرانيا التي لا ناقة لنا فيها ولا جمل، لكن بغضا للأمريكيين وللغرب عامة، الذين تحداهم بوتين بشراسة، وأعلنوا ضده حرب عقوبات اقتصادية قصوى غير مسبوقة في التاريخ، لكنهم لم يتجاسروا على الدخول في حرب عسكرية مباشرة، يعرفون أنها لن تبقي ولن تذر، خصوصا مع حيازة روسيا لأقوى ترسانة نووية في الدنيا المعاصرة، تتيح للرئيس بوتين أن يدمر حواضر الغرب جميعها في دقائق، ما جعل الرئيس الأمريكي جو بايدن يضع لنفسه وعلى نفسه خطوطا حمراً، تغل يده عن نصرة دميته الرئيس الأوكراني الكوميدي فولوديمير زيلينسكي، الذي سلحت ودربت وزودت واشنطن جيشه بعشرات آلاف الأطنان من المعدات الفتاكة، ودفعته لتحدي روسيا، في نزال معلوم النتيجة سلفا، حتى إن تأخرت المواعيد، ولكن دون أدنى استجابة لصرخات واستغاثات زيلينسكي اليومية، ودعواته المتوسلة لأمريكا وحلف «الناتو» لفرض حظر جوي في سماء أوكرانيا، أو حتى السماح لبولندا المجاورة بتقديم مئات من المقاتلات السوفييتية القديمة، وتكفل واشنطن بنقلها إلى ما تبقى من قواعد أوكرانيا الجوية، وهو ما رفضه الرئيس الأمريكي، بدعوى التخوف من الدخول في حرب مع روسيا، توافرت فرص ومناسبات لدفع واشنطن إليها، ليس آخرها مقتل صحافي أمريكي في ضواحي «كييف»، والهجوم الروسي بالصواريخ على قاعدة «يافوريف» غرب أوكرانيا، وهي قاعدة أمريكا الكبرى لتدريب المقاتلين الأوكرانيين الأكثر إقداما وصلابة، من نوع كتائب «آزوف» و»الرادي»، الذين تسعى روسيا لإبادتهم، باعتبارهم من جماعات القوميين الأوكران «النازيين» بأوصاف موسكو.
لم يعد بوسع أمريكا أن تعاود ما فعلته عبر نحو عقدين من التحكم بالقمة الدولية، ولا بوسعها عزل روسيا كما تروج، وبالذات مع يقظة الشرق الآسيوي
وبقطع النظر عن مجريات الحرب الدائرة، وما شهدته من تباطؤ ملحوظ في تحرك القوات الروسية، والتردد في اقتحام المدن الكبرى بوسط وغرب أوكرانيا، والتركيز على مناطق «الدونباس» و»ماريوبول» في الشرق، وعلى «خيرسون» وشمال البحر الأسود و»بحر آزوف» في الجنوب، ربما بهدف اقتطاعها وضمها إلى روسيا في ما بعد، وإرغام حكومة «كييف» على توقيع صك استسلام، قد تتأخر فرصه إلى مدى أسابيع، بقتال واقتحامات متقطعة متأنية، تؤدي مع المفاوضات الجارية إلى «خض ورج» الوضع الأوكراني، الذي يشهد نزيفا متصلا بهروب وهجرة الملايين، بقطع النظر عن هذا كله، وسواه من الأساليب الروسية المتداخلة، فإن مغزى حرب أوكرانيا ظهر من أول يوم، ومن أول طلقة رصاص، وتغير العالم بغير رجعة إلى ما كان، وهو تطور لم ينشأ اليوم، ولا حتى مع أزمة أوكرانيا التي تحولت إلى صدام بالنار، بل بدت أماراته ظاهرة قبل ما يزيد على عشر سنوات، حين تعرضت موسكو للخديعة، وحرمت نفسها من استخدام حق «الفيتو» المخول لها في مجلس الأمن، وسمحت لقوات «الناتو» بفرض حظر جوي فوق ليبيا، بدعوى منع نظام القذافي من قصف المدنيين المنتفضين، لكن العملية تحولت إلى حرب قصف ودمار شامل، انتهى بمقتل القذافي وخسارة روسيا لنفوذها ومصالحها في ليبيا، وهو ما صمم بوتين على عدم تكراره في سوريا، وأيد بشار الأسد الذي تدخلت إيران لنصرته بوجه الثورة السورية، وإلى أن تدخلت روسيا على نحو مباشر، ومن قواعد «حميميم» و»طرطوس»، وغيرت موازين القوة، وأنقذت بشار، بعد ما كاد يهلك حكمه، وقد لا يفيد التوقف هنا عند طبائع المعادلات السورية الداخلية المضطربة، فقد كانت الثورة السورية قد فقدت قوة اندفاعها الشعبية السلمية الأولى، وتحولت إلى حرب مهلكة، بدت أطرافها المسلحة مرتهنة كلها للخارج ولمليارات دولاراته، ثم قد لا يكون من جدال كثير في وحشية التدخل الروسي كغيره من كل صنف ولون، لكن واقعة التدخل الروسي المسلح، بدت إشارة إلى تطور عالمي جديد، مختلف عن فترة الغزو الأمريكي الهمجي لأفغانستان ثم العراق، التي عكست انفراد القطب الأمريكي وقتها بإدارة شؤون الدنيا، وسريان ما عرف باسم «القطبية الأحادية» التي أعقبت انهيارات موسكو الشيوعية، وانفراط كتلتها السابقة في شرق أوروبا، وزحف حضور «الناتو» إلى مقربة من حدود روسيا نفسها، والسعي لالتهام وضم «جورجيا» و»أوكرانيا»، واستيقاظ الدب الروسي، على وقع أقدام «الناتو» الثقيلة تطرق بابه، وإشعال نار «الثورات الملونة» عند حدوده، وكانت الاستجابة ظاهرة بحرب جورجيا المحدودة ذات الخمسة أيام، ثم بحرب ضم «القرم» واقتطاعها من أوكرانيا عام 2014، ثم بتحرك القاذفات والسفن الحربية الروسية إلى سواحل سوريا أواخر 2015، وتقبل واشنطن لما جرى كأمر واقع، لم تنجح في قلب معادلاته، ولا في دفع روسيا لحرب استنزاف طويلة في سوريا، تعاود التفكير فيها اليوم مع غزوة روسيا لأوكرانيا، وإن كان الرئيس الروسي بوتين يدرك ما يخطط له، ولا يتراجع عن حملة إفشاله، رغم العبء الثقيل لعقوبات الغرب الاقتصادية والمالية والرياضية والثقافية والسياسية وغيرها، فلم يعد بوسع أمريكا أن تعاود ما فعلته عبر نحو عقدين من التحكم بالقمة الدولية، ولا بوسعها عزل روسيا كما تروج، وبالذات مع يقظة الشرق الآسيوي، التي توالت فصولها عبر عقود، وصنعت ملامح جديدة لسباقات السلاح والاقتصاد والتجارة والتكنولوجيا، وفي آسيا ستون في المئة من مجموع سكان العالم، و30% من مساحة اليابسة، وروسيا بامتدادها الأرضي الهائل، بلد «أورو ـ آسيوي» في الوقت نفسه، وهي أكبر أقطار الأرض مساحة (17 مليون كيلومتر مربع)، ورغم عدد سكانها المتوسط (160 مليون نسمة)، وحجم اقتصادها المتواضع نسبيا (1.7 تريليون دولار)، فإن إطلالتها الكونية الواسعة من غرب العالم إلى شرقه، تمنحها جوارا دافئا مع الصين، ذات الستة ملايين كيلومتر مربع، وبعدد سكان مرعب ( 1.5 تريليون نسمة)، يزيد مع الجاليات الصينية إلى ما يجاوز عدد سكان الغرب الأمريكي والأوروبي والتابعين مجتمعين، وبقوة اقتصاد وتكنولوجيا ساحقة، تمنح الصين المكانة العالمية الأولى من سنوات بمعيار تعادل القوى الشرائية، وترشحها خلال سنوات معدودة، لاحتلال مكانتها المستحقة الأولى عالميا، بإجمالي ناتجها القومي الإسمي النقدي، إضافة لشبكتها التجارية الكونية المعروفة باسم «الحزام» و»طريق الحرير»، وهو ما يعني أن الانفتاح على الصين وحدها، يعد أوسع أبواب العالم المعاصر، وهو ما خططت له روسيا العائدة إلى مقارعة أمريكا بقوة السلاح، فقد صارت للصين وروسيا علاقات «بلا حدود»، وهو ما يعني ببساطة، أن محاولات أمريكا والغرب خنق روسيا، لن تجدي غالبا، ويدفع واشنطن الجزعة إلى حملة ابتزاز وضغط على بكين، فشلت مرارا، فالصين لا تخفي تأييدها الضمني والصريح للتصدي الروسي، وتزيد من معاملاتها التجارية مع روسيا (146 مليار دولار سنويا)، القابلة للزيادة إلى ما لا حدود، إضافة لاضطرار الغرب الأوروبي إلى شراء البترول والغاز الروسي، وعبر أراضي أوكرانيا نفسها، في خلاف علني بالمصالح مع سعار واشنطن المحموم.
والخلاصة، أن عالما جديدا يكتمل تشكيله، وأن استقطابا عالميا شرقيا غربيا يقوم، قطب روسي ـ صيني في مواجهة القطب الامريكي الغربي، لا يشبه الاستقطاب الثنائي القديم زمن الحرب الباردة، ربما إلا في تسميات أطرافه المتقاربة، مع تغير الأوزان، فلم يعد من مكان لاستقطابات الأيديولوجيات الاشتراكية والرأسمالية، بعد ما جرى من تحولات وانقلابات في سيرة اقتصاد الصين وروسيا من قبلها، بل صار الاستقطاب هذه المرة بجوانب معقدة، تختلط فيها المعاني القومية بصيغ حكم واختيارات بعينها من اقتصاد السوق، تختلف في حدود دور الدولة بالذات، مع انكشاف وتساقط أقنعة المثال الغربي، وتكشف إفلاس قيمه المروجة، وانفضاح عنصريته الفاقعة، مع مواريث الدم التي بنيت عليها رفاهيته، وكلها معان تثير خيال العرب كما غيرهم من الأمم المقهورة، فقد جنى العرب من الغربيين كل المصائب تقريبا، ويدفعهم الحنين إلى تذكر الزمن السوفييتي، الذي كان مساندا لأغلب قضاياهم في التحرر والتنمية، ورغم اختلاف الزمن الروسي الحالي، فإن شيئا من رائحة الحنين المستعادة، يدفع أغلب الشارع العربي لتمني انتصار روسيا، وكأنها تقوم بالوكالة عنهم بتصفية الحساب المرير مع الأمريكيين، ومع تركة الغرب الاستعماري التي سحقت أحلامهم ولا تزال.
كاتب مصري