- ℃ 11 تركيا
- 23 ديسمبر 2024
عبد الحليم قنديل يكتب: غزة وحدها تنتصر
عبد الحليم قنديل يكتب: غزة وحدها تنتصر
- 4 نوفمبر 2023, 8:00:11 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
«غزة» تنزف وحدها وتقاتل وحدها، ولا أحد يدفع معها ضرائب دم، ربما باستثناء أهل الضفة الفلسطينية، في ما تخاذلت غالبية الأنظمة العربية، بل وتواطأ بعضها، اللهم إلا من تصرفات في الدبلوماسية الدولية، ربما لذر الرماد في العيون، من نوع التحرك الرسمي العربي والإسلامي في الجمعية العامة للأمم المتحدة، واستصدار قرار بأغلبية كبيرة، يطالب بوقف إطلاق نار إنساني، رفضته واشنطن و»إسرائيل»، وعدد قليل غالبه من أشباه الدول، التي لا ترى على الخرائط حتى بالميكروسكوب، من عينة ميكرونيزيا وجزر مارشال وما يشبهها.
ورغم أن القرار غير ملزم في التنفيذ، شأنه شأن قرارات مجلس الأمن «الملزمة» شكلا، لكن مجرد صدور القرار، كشف عن قوة هائلة لعدالة القضية الفلسطينية، ولنجاح عربي ممكن، حتى لو كان رمزيا، إذا تواتر التفاف عربي وإسلامي لنصرة الدم الفلسطيني في عالم متغير، بدا فيه المجتمع الدولي (الحقيقي) مناصرا للحق الفلسطيني، ورافضا لحرب الإبادة الجماعية الهمجية، التي يشنها جيش الاحتلال، وإلى حد أن دولا في أمريكا اللاتينية على بعد آلاف الأميال من فلسطين، تحركت وقطعت علاقاتها مع «إسرائيل»، كما قررت بوليفيا، أو سحبت السفراء من «تل أبيب» كما فعلت كولومبيا وتشيلي، بينما استقال دبلوماسيون أمميون احتجاجا على المذبحة الجارية لأهل غزة، واستقال موظفون كبار حتى في أمريكا وبريطانيا، بينما لم نسمع عن استقالة مسؤول عربي واحد، كبيرا كان أو صغيرا، ولا استجابت دولة عربية واحدة ـ ما عدا الأردن ـ من «المطبعين» لمطالب سحب السفراء وقطع العلاقات مع العدو، وقد أصبح ظاهرا، أن العدو هو أمريكا وإسرائيل وأغلب دول أوروبا في نفس واحد، ومن دون أن تتحرك دولة عربية واحدة منتجة ومصدرة للبترول والغاز الطبيعي لقطع الإمدادات عن الغرب الذي يقتلنا، ولا حتى التنادي لعقد قمة عربية عاجلة، رغم انقضاء نحو شهر كامل على حرب الإبادة الدموية للمدنيين في «غزة»، وأعدادهم تزيد على نحو فلكي كل يوم، والمجازر «الإسرائيلية» تتوالى بالعشرات، وأحدثها في مخيم جباليا، وما يزيد على العشرة آلاف قتلوا حتى اليوم بغارات وقصف وحشي لا يتوقف، أغلبهم من الأطفال والنساء، وكل موارد الحياة تقطع عن غزة، من الطعام والدواء والماء حتى الاتصالات والإنترنت، في محرقة بشرية شنيعة، يندر أن تجد لها مثيلا في مطلق التاريخ الإنساني، ناهيك عن دهس القوانين الدولية وحقوق الإنسان ومواثيق الحروب، التي صدع بها الغرب المنافق رؤوس العالمين، وسقط بالثلث في امتحان فلسطين وعذاب غزة.
الفلسطينيون لن يخسروا شيئا أكثر مما خسروا في عقود طويلة، واستعدادهم للتضحية بغير حدود وبلا سقف، وعندهم عقيدة قتال مقاوم لا تفتر، يظهر أثرها اليوم في معارك غزة
وقد لا يستطيع أحد تجاهل وجود المأساة المفزعة في غزة، لكن المآسي هي الوجه الآخر لبطولات قتال خارقة، توالت صورها الباهرة في الأيام الأولى لحرب «طوفان الأقصى»، وتتدافع صورها الجديدة مع بدء الغزو البري «الإسرائيلي الأمريكي»، ورغم غياب التكافؤ بأي معنى في موازين القوة المسلحة، تبدو قوات الغزو في وضع بائس يائس، تتقدم خطوات في الخلاء الزراعي المحيط بمدينة غزة، أو على محاور رفح وخان يونس، ويبدو أحيانا أنها تحقق شيئا في قطع الطرق الرئيسية داخل غزة الصغيرة المحاصرة من 16 سنة، لكنها تفاجأ بصدمات الأشباح، الذين أذاقوها الويلات والمذلة في أول أيام الحرب، ويخرجون اليوم من مدن الأنفاق تحت الأرض، ويقاتلون بأسلحة من صنع أيديهم، ويكلفون العدو «ثمنا باهظا» يعترف ببعضه، وبتردد مرتعب، خصوصا في دماء الجنود والضباط المذعورين، وهم يستقوون بما ملكت أيديهم من طائرات ودبابات وصواريخ وقنابل أمريكية خارقة، يتحول الكثير منها إلى «حديد خردة» في الميدان، ويتوالى فشل خطط الجنرالات الأمريكيين، وتسقط أساطير قوات النخبة «الإسرائيلية» والأمريكية، ولا يبدو لفشل العدو من نهاية مريحة، حتى لو نجح مئات الآلاف من جنودهم في غزو غزة بكاملها، فلا هدف عندهم وارد التحقق، لا القضاء على قوات المقاومة وكتائبها، ولا خلق وضع يناسبهم في «غزة»، من نوع جلب السلطة الفلسطينية في رام الله إلى حكم غزة، وقال مسؤولوها إنهم لن يذهبوا إلى غزة على ظهر دبابة إسرائيلية، ولا حتى «إدارة دولية» يقترحها الغربيون الأوروبيون بدعوى توفير الحماية لكيان الاحتلال، فلا أهل غزة يقبلون، ولا الفلسطينيون جميعا، ولا الدول العربية المجاورة خصوصا في مصر، التي تداوم على رفض كل الصيغ الملتوية لتهجير الفلسطينيين، ورفض عروض بمئات مليارات الدولارات، دفاعا عن أرض مصر وقضية فلسطين معا، والحيلولة دون حدوث نكبة جديدة، على طريقة ما جرى عام 1948، وكلها اعتبارات تضاعف من خطورة مأزق العدو «الإسرائيلي» الأمريكي، وتدفعه إلى تعويض خسارته العسكرية القائمة والمحتملة بعقاب أهل غزة جماعيا، وتفريغ غضبه الانتقامي بجرائم إبادة غزة حجرا وبشرا، وهو ما لن يكتمل أبدا، رغم التخاذل العربي المقيت في نصرة الصامدين، فقد تحولت غزة النازفة الدامية إلى قلعة أساطير غير مسبوقة، وإلى شارة نصر تتحدى بؤس الزمن وتفشى أوبئة الظلم والقهر.
ويتحدثون في «إسرائيل» عن حرب طويلة، وستكون كذلك فعلا، حتى لو جرى التوصل إلى «هدن» موقوتة، والحروب الطويلة هي آخر ما يفيد كيان الاحتلال، الذي لن يقوى على تحمل التكاليف والخسائر البشرية بالذات، فالتكنولوجيا الحربية المتقدمة قد تجلب مزايا موقوتة، لكنها لا تحسم الحروب في النهاية، وقد تحطمت و»عميت» هذه التكنولوجيا في غمضة عين صباح السابع من أكتوبر 2023، وثبت أن التكنولوجيا يمكن تحديها وشل فاعليتها، وبالذات مع قدرة الطرف الفلسطيني المقاوم على إبداع تكنولوجيا بديلة، بأرخص التكاليف المالية، فالشعب الفلسطيني هو أفضل الشعوب العربية تعليما وإبداعا، ثم إن المحنة الفريدة التي كابدها على مدى قرن كامل، قد خلقت الفلسطينيين خلقا جديدا، فوق المقدرة الفطرية الهائلة على تحمل الآلام والنكبات والمجازر، وتجاوزها بالإيمان الراسخ بالله وبالحق الذي لا يموت، الذي يسعى للشهادة باعتبارها غاية الأماني، ويستقبل المصائب بالصبر الجميل، ويستولد من المحنة المنحة، ويضاعف من صلابة الروح المعنوية الجماعية، ويدفع إلى الساحة بحركات مقاومة جديدة، ففي وقت ما، كانت «حركة فتح» في قلب الصورة الفلسطينية، واليوم تبدو فصائل المقاومة في غزة وريثة لنداء المقاومة ذاتها، وإذا اختفت في أي وقت افتراضا، فسوف تولد آلاف من خلاياها و»فتح» جديدة، فقد عرف الشعب الفلسطيني طريقه الذي لا طريق غيره، وأدرك أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها، وزاده ثباته على أرضه ثقة أكيدة في نصر الله لعباده المقاومين، وقد كانت غزة على الدوام هي القابلة الولادة لحركات المقاومة الفلسطينية الكبرى، ربما لسبب يبدو ظاهرا، هو أن غزة خزانة القضية الفلسطينية، وغالب أهلها من المهجرين أصلا من قلب نواحي فلسطين التاريخية ذات السبعة والعشرين ألف كيلومتر مربع، وفي كثافة غزة السكانية إيحاء رمزي قوي بالتحول الذي جرى ويجري، وتحول الفلسطينيين مجددا إلى أغلبية سكانية راجحة في كل أرض فلسطين التاريخية، بينما يجري على الجانب الآخر انكماش وتآكل، وتنضب مخازن «الهجرة اليهودية» المستعدة للذهاب إلى استيطان فلسطين، وكانت هجرة وجلب اليهود السوفييت في تسعينيات القرن العشرين، آخر عملية نقل دم كبرى لكيان الاحتلال الاستيطاني، بينما لا تستطيع الحركة الصهيونية إقناع ملايين اليهود الأمريكيين بالذهاب إلى فلسطين، بل العكس هو الذي تتواتر مشاهده، واكتساب جنسيات طوارئ احتياطية صار عادة متفشية عند ملايين الإسرائيليين، فوق زيادة معدلات الهجرة العكسية باطراد، وتضاعف ميول الفرار الجماعي للمستوطنين وتفريغ المستعمرات في الشمال والجنوب، مع المخاوف المستجدة المرعوبة من أسلحة جماعات المقاومة في الجوار، وكلها مشاهد ليست مرشحة للتراجع، فقد انفصمت عرى الثقة بين المستعمرين «اليهود» وجيشهم الحامي، الذي ظنوا طويلا أنه لن يقهر، بينما رأوا قهره ممكنا عاصفا على يد ألف من المقاومين صباح السابع من أكتوبر الماضي، وهي واقعة لن تمحى أبدا من ذاكرة «اليهود الإسرائيليين»، تذكرهم دائما بالعقاب الذي ينتظرهم، وبالافتقار إلى الأمن في وطن سرقوه من أهله الحالمين بالعودة، بينما الفلسطينيون لن يخسروا شيئا أكثر مما خسروا في عقود طويلة، واستعدادهم للتضحية بغير حدود وبلا سقف، وعندهم عقيدة قتال مقاوم لا تفتر، يظهر أثرها اليوم في معارك غزة، وتنتقل روح غزة إلى الضفة والقدس والداخل الفلسطيني، وصنعت وتصنع ثورة وصحوة جديدة، قادرة على إنهاك العدو في مراحل قائمة ومقبلة، تنزل هدف التحرير من فضاء الأماني المحلقة إلى تواريخ التحقق الزاحفة بإذنه تعالى.
كاتب مصري