عبود مصطفى عبود يروي : بضع سنين.. الحلقة الثانية

profile
عبود مصطفى عبود كاتب وناشر
  • clock 4 أبريل 2021, 2:23:40 ص
  • eye 1108
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

بضع سنين

استقبلتني الطائف بمطر غزير جدا، فما أن خرجت من الطائرة إلا والأمطار تنهمر كالسيل، فاستبشرت خيرا، بسرعة انتهت الإجراءات واستلمت الباسبور وحقائب ملابسي وخرجت من المطار، ولم أجد أحدا في انتظاري، وكانت الشركة التي تعاقدت معها أخبرتني أن شخصا سيكون في انتظاري، استأجرت ( ليموزين) وأعطيته العنوان شارع الستين بجوار مستوصف الوطن.

استغرق الطريق نصف ساعة، حاولت خلالها التطلع إلى معالم الطريق لمعرفة أية معلم من معالم الطائف التي شاهدتها على اليوتيوب،فلم أوفق سوى في معرفة فندق أوالف ببرجه الشهير، وصلنا إلى العنوان والمطر ما زال شديدا، طلب السائق 120 ريالا، وكان هذا رقما مبالغا فيه جدا، فكان الرقم المناسب آنذاك في أغسطس 2013 لا يزيد عن 50 ريالا لكنه استغل جهلي بالأسعار، دخلت إلى صيدلية الوطن، كان فيها شابا مصريا، قبل أن يغير لي العملة،أعطيت السائق ما طلبه وأنزل لي حقائبي ورحل، وقفت في الشارع أنتظر، وبعد دقائق قليلة حضر لي الأستاذ طارق يسن الطاهر وهو مربي فاضل ومعلم من طراز رفيع، سوداني الجنسية لكنه مصري الهوى والثقافة والتعليم، تخرج في دار العلوم ويحفظ القاهرة وضواحيها خاصة منطقة الدقي، وكنت قد ألتقيت به في القاهرة، كان برفقته شخصا يدعى إبراهيم، لم أسترح له من الوهلة الأولى، وقلت في نفسي هذا رجل خبيث، ملامحه تنضح بذلك كما يقول علم الفراسة العربي، وتذكرت قصة الإمام الشافعي مع الرجل الخبيث الذي قابله في اليمن وقد كتبت هذه القصة في أحد كتبي للأطفال وهو "حكايات من حياة الأئمة"

تقول الحكاية أن الشافعي نزل باليمن ليطلب كتب الفراسة وفي الطريق مر برجل يجلس بفناء داره، أزرق العينين، ناتئ الجبهة أي مرتفع الجبهة.

فقال له الشافعي: هل من منزل؟ أي هل لديك سكن؟

فقال الرجل: نعم

قال الشَّافعي: وهذا النَّعت ( أي وصفه لملامح الرجل) أخبث ما يكون في الفِرَاسَة.

لكن الرجل أسكن الشافعي في بيته فرأى فيه الإمام أَكْرَم رجل، لأنه بَعَث إليه بعشاء وطِيب، وعلفٍ لدابَّته، وفِرَاش ولِحَاف.

فبات الشافعي ليلته يقول ما أصنع بهذه الكتب، وقد ثبت خطأ ما جاء فيها، فملامح الرجل وفق علم الفراسة تقول أنه لئيم النفس خبيث الطبع، لكن سلوكه كان غير ذلك، فلا شك أن ما جاء في هذه الكتب غير صحيح.

فلمَّا أصبح الشافعي قال للغلام الذي يخدمه: أَسْرِج - أي جهز الخيل للرحيل- وركب الإمام فرسه ومر على الرجل وقال له: إذا قدمت مكة، ومررت بذي طوى، فسل عن منزل محمَّد بن إدريس الشَّافعي، يريد الإمام بذلك أن يستضيفه ويكرمه جزاء له.

فقال الرَّجل: أمولى لأبيك أنا؟! ومعناها هل أنا خدام لأبيك

قال الشافعي: لا

قال الرجل: فهل كانت لك عندي نعمة؟!

الشافعي: لا

الرجل : إذن أين ما تكلَّفت لك البارحة؟

الشافعي: وما هو؟

الرجل: اشتريت لك طعامًا بدرهمين، وإدامًا بكذا، وعِطْرًا بثلاثة دراهم، وعَلَفًا لدابَّتك بدرهمين، وكِرَاء الفِراش، واللِّحاف درهمان.

الشافعي لغلامه قائلا: يا غلام أعطه؟

الرجل : بقي كِرَاء المنزل؛ فإنِّي وسَّعت عليك، وضيَّقت على نفسي.

قال الشَّافعي في نفسه : فغَبِطت نفسي بتلك الكتب، وقلت له بعد ذلك: هل بقي من شيء؟

الرجل: امض، أخزاك الله، فما رأيت قطُّ شرًّا منك.

تذكرت هذه الحكاية وقلت في نفسي هل تصدق فراستي في هذا الرجل كما صدقت فراسة الشافعي أم يخيب ظني ويكون رجلا كريما، طردت الفكرة من رأسي، عندما رأيت الرجلين يحملان معي حقائبي وتوجه ثلاثتنا إلى فندق مجاور للصيدلية، اسمه "نوارة الستين" سكنت في غرفة في هذا الفندق وتعرفت على زميل لي في العمل، ينزل في الغرفة المجاورة، اسمه سامي عادل، يرتدي عوينات طبية، وبدين إلى حد كبير، له لحية بسيطة متصلة بشاربه، يبدو أنيقا رغم بدانته وملامحه مريحة على العكس من إبراهيم الذي لم تريحني قسمات وجهه ورأيت في عينيه خبثا لا مثيل له، استرحت قليلا وبدلت ثيابي المبتلة من الأمطار وأخرجت جوالي، واتصلت (wi-fi) الفندق، وطمأنت زوجتي وأهلي باتصال عبر الماسينجر، ثم كتبت على الفيس بوك "وصلت بحمد الله إلى الطائف".

بعد دقيقة واحدة من هذا البوست اتصل بي عبر الماسينجر صديقي الشاعر أحمد نبوي والذي يعمل أستاذا للأدب العربي في جامعة الطائف، رحب بي وعرف الفندق الذي أنزل فيه وأخبرني أنه سيتركني لأستريح بعض الوقت، ثم يمر علي لنجلس معا في كافيه ليقوم بواجب الترحاب بي.

بالفعل تقابلنا وجلسنا في كافيه المحطة، دردشنا وتذكرنا معا دار الفاروق، ودوواينه الشعرية التي نشرتها له في الدار، وإيهاب عبد السلام صديقنا المشترك، ثم أعادني للفندق ومرت الليلة الأولى في الطائف بسلام.

التعليقات (0)