- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
عدنان منصور يكتب: روسيا وافريقيا: من غياب اختياري إلى حضور ضروري
عدنان منصور يكتب: روسيا وافريقيا: من غياب اختياري إلى حضور ضروري
- 9 سبتمبر 2023, 5:03:33 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
لم تكن افريقيا تستحوذ على اهتمام روسيا القيصرية، خلال الحقبة الممتدة من القرن السادس عشر، مرورا بالاتحاد السوفييتي حتى نهاية حكم جوزيف ستالين عام 1953، حيث كانت القارة الافريقية في قبضة دول الاستعمار الأوروبية (بريطانيا، فرنسا،البرتغال، وبلجيكا) تتحكم بمصيرها، وتنهب خيراتها، وتستعبد شعوبها بكل شراسة وعنصرية.
لم يعر الاتحاد السوفييتي عند تأسيسه، اهتماما ملحوظا بافريقيا حتى نهاية الفترة الستالينية، نظرا لغياب القوى العقائدية المحركة للثورة في القارة السمراء، ورضوخ غالبية شعوبها لسلطة الإقطاع الزراعي والعائلي والقبلي، إلا أنه اعتبارا من بداية الخمسينيات من القرن الماضي، شهدت افريقيا اهتماما وتحركا سوفييتيا، واندفاعا لافتا باتجاهها، ما شكل مرحلة جديدة من العلاقات السياسية بينهما. هذه العلاقات شهدت مدا وجزرا خلال العقود الماضية، نتيجة تغير الظروف، وتطورات الأوضاع، وتباين المواقف والاداء.
روسيا مستمرة في انفتاحها على القارة السمراء، وعلى مختلف المستويات، لما فيه مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، ومصالح شعوب القارة
الاتحاد السوفييتي وحركات التحرر الوطني الافريقية!
مع مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، بدأت حركات التحرر الوطني الافريقية تنتفض ضد قوى الاستعمار، وتسلك طريق النضال والمقاومة بكل قوة للتحرر منه.
كان على الرئيس السوفييتي نيكيتا خروشوف الذي تسلم السلطة عام 1953، أن يحاكي هذه الحركات التحررية، ونخب شبابها الذين يتطلعون إلى الحرية والاستقلال، وفي عام 1957، احتضنت موسكو مهرجانا كبيرا للشباب، شارك فيه مئات الشباب الأفارقة، الذين كانوا يجدون في الاتحاد السوفييتي مثالا يحتذى، وقوة عالمية داعمة لهم. ومن أجل تعزيز العلاقات مع هؤلاء، عمد الاتحاد السوفييتي إلى تأسيس الجامعة الروسية لصداقة الشعوب في موسكو عام 1960، التي حملت اسم جامعة باتريس لومومبا في ما بعد، لتوفير التعليم العالي لطلاب دول العالم الثالث، الذين من خلالهم تعبر السياسات السوفيتية والعقيدة الشيوعية إلى بلدانهم. أراد الاتحاد السوفييتي حضورا ثابتا، وفاعلا وقويا في القارة الافريقية، من خلال دعم الأحزاب الشيوعية، وحركات التحرر الوطني حديثة العهد فيها، وتقديم المساعدات الاقتصادية والعسكرية، وتوفير الدعم السياسي والدبلوماسي للحكومات الصديقة له، بغية تقليص نفوذ الدول الغربية في دول القارة السمراء، لاسيما دول الحلف الأطلسي، دون تدخل عسكري مباشر لتغيير الأنظمة فيها، لأن الاتحاد السوفييتي كان يعول على القادة الوطنيين العقائديين الذين يتماشون مع سياساته، ويحوزون على ثقته، ويحتاجون إلى دعم مالي، وقدرات ومعدات عسكرية، توفر لهم الفرصة لاستلام الحكم وقيادة البلاد.
حضور سوفييتي في أبرز دول القارة
مصر تعمقت العلاقات المصرية السوفييتية مع مطلع الثورة المصرية في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر 1952-1970 الذي اتبع سياسة وطنية مناهضة لقوى الهيمنة والاستعمار، ما جعله موضع ثقة القيادة السوفييتية، والدول الشيوعية في أوروبا والصين الشعبية. خلال حكم عبد الناصر، درس العديد من المصريين في الجامعات السوفييتية، والمعاهد، والأكاديميات العسكرية، لتتوج العلاقات الثنائية المتنامية، بوقوف الاتحاد السوفييتي إلى جانب مصر أثناء العدوان الثلاثي عليها عام 1956(بريطانيا، فرنسا واسرائيل)، وتهديده لهم بوقف العدوان. بعد ذلك، قام الاتحاد السوفييتي ببناء السد العالي، وتزويد مصر بالمعدات العسكرية، إلى أن أصبحت مصر تعتمد بالدرجة الأولى وبشكل واسع، على السلاح السوفييتي. بعد رحيل عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970، شهدت العلاقات السوفييتية المصرية تراجعا في عهد الرئيس أنور السادات، رغم توقيع معاهدة الصداقة بين البلدين يوم 27 مايو 1971، أي بعد ثمانية أشهر من وفاة عبد الناصر. لم يمر على المعاهدة عام واحد حتى قام أنور السادات بإبعاد المستشارين العسكريين السوفييت من مصر عام 1972، وكان ذلك بإيعاز وضغط أمريكي. لم تقف الأمور عند هذا الحد، بل عمد السادات عام 1976 إلى إلغاء معاهدة الصداقة مع الاتحاد السوفييتي من جانب واحد. لم يقتصر فتور العلاقات المصرية السوفييتية عند هذا الحد، بل أخذ منحى زاد من توتر العلاقات الثنائية وتراجعها، بعد أن اتهمت القاهرة القيادة السوفييتية عام 1981 بمحاولتها تقويض النظام والسلطة في مصر. بقيت العلاقات المصرية السوفييتية عادية حتى انهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي، ولم ترتق إلى مستوى العلاقات المتنامية، والمتميزة التي كانت في زمن العهد الناصري.
ب- الجزائر: منذ اليوم الأول للثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي التي قادتها جبهة التحرير الوطني الجزائرية، والتي كانت تضم في صفوفها جماعة من الشيوعيين الجزائريين، وقف الاتحاد السوفييتي إلى جانبها طوال نضالها، وزودها بالمعدات العسكرية، وقام بتدريب مئآت القادة العسكريين الجزائريين في الاتحاد السوفييتي، الذي كان أول من اعترف بالحكومة الجزائرية المؤقتة عام 1962، وقبل الإعلان الرسمي للاستقلال. كان التنافس شديدا بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي والصين وفرنسا على الجزائر، التي اصبحت دولة فاعلة ومؤثرة في حركة عدم الانحياز. هذه الدول ارادت جذب الجزائر إليها من خلال تقديم المساعدات، والمعدات التقنية، والقروض والخبرات الفنية، إلا أن علاقات الجزائر مع موسكو ظلت متميزة، ومتجاوزة العلاقات مع فرنسا والولايات المتحدة والصين.
ج- انغولا: منذ عام 1956 وحتى عام 1986، قام الاتحاد السوفييتي بتدريب وحدات عسكرية مقاتلة في أنغولا وناميبيا وتزويدها بالسلاح في حرب الحدود مع جنوب افريقيا. وفي عام 1976، وصل الدعم العسكري للحركة الشعبية لتحرير أنغولا (MPLA)، إلى ذروته حيث تمكنت البحرية العسكرية السوفييتية من استخدام الموانئ الأنغولية لتنفيذ التدريبات وتجهيز الوحدات المقاتلة. لكن الرئيس السوفييتي غورباتشوف رفض في ما بعد التدخل العسكري والإطاحة بحكومة جنوب افريقيا، معتبرا أن المفاوضات هي الحل المناسب للصراع القائم، ما أدى إلى انسحاب عسكري روسي من أنغولا.
د- الكونغو: لم يستغرق النفوذ السوفييتي في الكونغو وقتا طويلا بعد نيله الاستقلال. فالرئيس الكونغولي باتريس لومومبا المناهض للقوى الإمبريالية، كان الزعيم الأبرز والأقوى لأكبر فصائل الحركة الوطنية في الكونغو. لكن لومومبا سرعان ما واجه اضطرابات وفوضى محضرة مسبقا في البلد المستقل حديثا. ما كان على لومومبا إلا أن يطلب المساعدة من الاتحاد السوفييتي، لتمكينه من فرض الأمن، وعودة الاستقرار للبلاد، ووقف حالة التدهور. على الفور لبت القيادة السوفييتية طلب لومومبا، وقامت بإرسال مستشارين عسكريين سوفييت، ومعدات عسكرية إلى حكومة لومومبا، ما تسبب بانقسام داخل الحكومة الكونغولية حديثة العهد، وتسبب بخلاف حاد بين أعضائها، لاسيما بين لومومبا، ورئيس الجمهورية جوزيف كازافوبو المعارض للومومبا وللشيوعية على السواء. لم يرق للولايات المتحدة، والدول الغربية توجه الكونغو وانعطافه باتجاه الاتحاد السوفييتي، فكان لا بد لها ولبلجيكا من العمل في الخفاء على الإطاحة بلومومبا، من خلال رئيس الدولة كازافوبو الذي تولى المهمة، مستخدما سلطته على الجيش، ليقوم بتنفيذ انقلاب عسكري يطيح بحكومة لومومبا، ويطرد الخبراء السوفييت ويعين حكومة جديدة تعمل تحت سيطرته الكاملة. إثر هذا الانقلاب، تم اعتقال لومومبا، ونفذ حكم الإعدام به عام 1961، فقام أنصاره بتشكيل حكومة مناوئة تحت اسم»جمهورية الكونغو الحرة» في شرق البلاد بقيادة أنطوان غيزينغا. اقتصرت مساعدة السوفييت لغيزينغا على الدعم المالي، تجنبا للتورط العسكري في الخلاف الجاري، خاصة بعد دخول أطراف دولية عل خط النزاع القائم. لم تفلح «جمهورية الكونغو الحرة» في تحقيق هدفها، إذ تم سحقها مع بداية عام 1962. القضاء على حكم لومومبا، وتصفيته جسديا، أدى إلى تراجع الحضور السوفييتي في الكونغو، خاصة في عهد جوزيف موبوتو الذي قام بانقلاب عسكري، وأطاح بنظام كازافوبو عام 1965. استولى موبوتو على السلطة عام 1966، وحكم الكونغو بديكتاتورية موصوفة لمدة 37 عاما حتى عام 1997، حين أطاحت به ثورة مسلحة بقيادة لوران كابيلا الذي تولى الرئاسة بعده.
روسيا وافريقيا مرحلة جديدة من العلاقات النوعية
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه، وفي عهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، نسجت روسيا علاقات وثيقة مع دول افريقية عديدة، وقامت بتنفيذ مشاريع اقتصادية واستثمارية وبنيوية تحتية في دول جنوب الصحراء. في زيمبابوي قامت شركة غريت دايك انفسمنتس ليمتد الروسية – الزيمبابوية، باستثمار أكبر مخزون من البلاتين في العالم، بقيمة مليار وستمئة مليون دولار، وهذا المشروع يعتبر من أكبر المشاريع الروسية في افريقيا. وفي انغولا تشارك شركة روسية في استخراج أحجار الماس بحصة قدرها 50.5%، بقيمة 700مليون دولار، بالإضافة إلى تعاون روسيا مع أنغولا في مجال الفضاء، وبناء الأقمار الاصطناعية. أما في زامبيا، فتشارك روسيا في إنشاء مركز للطاقة الذرية والعلوم والتكنولوجيا، كما تشارك شركة «روس نفط» الروسية مع كونسورتيوم لإنتاج الغاز في شمال البلاد، والمقدر حجمه بـ2.2 متر مكعب. وفي غينيا استثمرت شركة روسال الروسية لإنتاج الألمنيوم أكثر من 300 مليون دولار في مجال استخراج البوكسيت. في الغابون، وقعت شركة روس نفط، مع شركة نفط غابونية عقدا لاستثمار مشترك لحقول النفط، وإنشاء البنى التحتية للنفط والغاز. وفي جنوب افريقيا، تقوم شركات روسية بإنشاء محطات لتوليد الطاقة، واستخراج الألمنيوم، بالإضافة إلى شركات روسية عديدة، تقوم بإنتاج النفط في دول غربي افريقيا (نيجيريا والكامرون) وإنتاج الألمنيوم في نيجيريا، واستخراج الذهب في بوركينا فاسو وغينيا. تشير البيانات الروسية إلى أن التبادل التجاري مع الدول الافريقية جنوب الصحراء، وصل عام 2018 إلى 3 مليارات دولار. وهذا رقم متواضع، تطمح روسيا إلى زيادته، كون الناتج المحلي الإجمالي للدول الواقعة جنوب الصحراء الكبرى، سيصل إلى 2 ترليون دولار عام 2050.
قمة روسيا – افريقيا: قفزة نوعية للتعاون المشترك
إن تزايد الشركات الروسية في افريقيا، وأهمية هذه القارة لروسيا، وما يتوفر لها من إمكانات، وما تختزنه من طاقات وثروات هائلة، دفع القيادة الروسية للعمل على تفعيل العلاقات الثنائية الروسية ـ الافريقية، ما جعل الرئيس الروسي بوتين، يعلن في قمة البريكس التي انعقدت في جوهانسبورغ عام 2018، أن موسكو تدرس عقد مؤتمر قمة روسيا – افريقيا، وستكون الأولى من نوعها. بالفعل، دعت روسيا إلى عقد اول قمة بين الطرفين، روسيا وافريقيا، التي جرت في مدينة سوتشي بين 23
و24 أكتوبر عام 2019، بمشاركة 6000 شخص، قدموا من روسيا ومن 104 دول ومناطق. جمعت القمة 54 رئيسا من البلدان الافريقية الذين وقعوا 92 اتفاقية وبروتوكول، شملت قطاعات عديدة، اقتصادية وصناعية واستثمارية وعلمية وطاقوية ومعدنية وغيرها. ومن أجل دفع التعاون مع افريقيا إلى مستويات متقدمة، لاسيما بعد الحرب الأوكرانية وتداعياتها على الساحة الأوروبية، والشرق أوسطية،
والآسيوية والافريقية بالذات، دعا الرئيس بوتين إلى عقد مؤتمر ثان، لقمة روسية – افريقية. قام الزعماء الافارقة بتلبية دعوة بوتين، حيث عقدت القمة الثانية في بطرسبورغ بين 27 و28 يوليو 2023. جاء اجتماع القمة مع انعكاسات الحرب الأوكرانية على افريقيا، حيث أعلن الرئيس بوتين، أن روسيا مستعدة لإرسال الحبوب إلى البلدان الافريقية دون مقابل، مؤكدا أن بلاده قادرة على تعويض القارة من الحبوب الأوكرانية.
رافق القمة، انعقاد منتدى اقتصادي وإنساني، حيث تعمل موسكو على انجاحها، وتعزيز حضورها ونفوذها في القارة السمراء. شارك في مؤتمر قمة بطرسبورغ 49 دولة افريقية رغم ضغوط الغرب على دول افريقية، وحثها على عدم حضور القمة، التي شارك فيها 27 زعيما افريقيا من الدول المشاركة البالغ عددها 49 دولة افريقية.
اما باقي الدول فقد تمثلت بوزراء وسفراء، بينما حضر في القمة الاولى 43 من رؤساء الدول والحكومات. بوتين في قمة بطرسبورغ، أكد أهمية افريقيا، ودورها في العالم، التي أصبحت على حد قوله «أحد أقطاب العالم المتبلور المتعدد الأفكار»، وأن روسيا على استعداد للعمل معا على مكافحة الفقر وتوفير الأمن الغذائي، ومواجهة تداعيات التغيير المناخي. كلام بوتين يأتي بعد أن عززت روسيا خلال السنوات الماضية، حضورها اللافت والمتنامي في افريقيا، من خلال صادرات الحبوب، والتعاون في مجالات الطاقة على أنواعها، والاستثماروصفقات الأسلحة التي جعلت من روسيا أكبر موردي السلاح لدول القارة، بعد توقيعها اتفاقيات تعاون عسكري مع 19دولة افريقية، لتصبح روسيا الدولة الثالثة عالميا بعد الولايات المتحدة وفرنسا في صدارة الموردين للسلاح إلى افريقيا..
روسيا مستمرة في انفتاحها على القارة السمراء، وعلى مختلف المستويات،
لما فيه مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، ومصالح شعوب القارة التي هي أحوج ما تكون إلى التنمية المستدامة والتقدم والخروج من حالة التخلف التي هي فيها.
مصالح مشتركة، ومستقبل واعد ينتظر افريقيا، للوصول اليه من خلال تعاون مشترك بناء لا بد منه.