- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
على الصاوي يكتب: الفاشل وشركاه
على الصاوي يكتب: الفاشل وشركاه
- 3 مارس 2022, 12:41:14 م
- 715
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
حين يفشل الإنسان وتُوصد في وجهه أبواب النجاح يشعر بالغُربة في مُحيطه، يقتله برد الفشل ببطء ويستبد به العجز أمام كل ناجح، فلا يدري ماذا يفعل، هل يستسلم ويحمل أسفار الفشل على عاتقه فيُعَيّر بها وحده، أم يَمكر ويُخطّط لضرب الناجحين كى يشاركوه فشله ويرفع عن نفسه الحَرج؟ وهنا يحضرني قصة لشاب كان قليل الحظ المعنوي في الحياة، لا يعرف النجاج لبيته عنوانا، ولا التميّز في نفسه مكانا، لا يَكتمل له مشروع ولا يستمسك له بناء، يرى أن معايير النجاح في نظره مجرّد خطف لحظات من المتعة في الظلام، وسهرة لعب في نادي ديسكو بين صالات القمار وشلة الأنُس ومغامرات نصف الليل، يَغتنم أى شيء من المتعة يَكوي بها جرح الفشل الذي يؤرقه ويجعله منبوذًا في نظر نفسه ومحتقرًا في أعين الناس.
ظل متخبطا بين خيباته وأماله إلى أن قرر السفر خارج بلده لعل النجاح يَشمّ رائحته فيلتصق به ويجلى صدأ الفشل من عليه، فكّر في أى بلد يذهب إليه، وجلس طويلا مع نفسه يبحث ويُفكّر حتى هداه عقله إلى دولة محدودة الموارد على شاكلة شخصيته الضعيفة وأفقه الضيّق، فقال لنفسه بعد أن عزم نية السفر: أيها النجاح أعاهدك إن لم أصب منك نصيبا أو حظا، فلن أسمح لأحد أعرفه بعد ذلك بالنجاح ما دمت حيّا، لن أقبل أن أركب قطار الفشل وحدي!
حزم الشاب حقائبه وسافر أملا في قنص فرصة أخيرة، تَروي جوف قلبه العاطش للنجاح والرِفعة، يريد أن يكون كبيرا بأى ثمن وإن ضعفت مؤهلاته وكثرت سقطاته، لكن كما يقول المثل الشهير"عويل بلاده عويل بلاد الناس" سقط الشاب في آتون الفشل وأخفق مجددا، ولم تسعفه إمكاناته في تحقيق غايته، فتأكّد أن فشله طابع خُلقى التصق به وجينات قد يكون ورثها عن أحد أجداده الفشلة، لا يدري ما العِلة أهو الضعف أم خُبث النية وسواد الطويّة.؟ لكنه لم يراع لأيّ من هذا، وبدأ يُخطّط كيف يُفشل من حوله، عن طريق بثّ الدعاية في مُحيطه وبين أقرانه، أن البلد الذي هاجر إليه رائع فهلُمّوا.. وإلىّ فضُمّوا، بدأ يُعدد محاسنها، ويتغزّل في رغد معيشتها، حتى خُيّل لأصحابه صحة دعاياه الكاذبة، فجاؤوا إليه زرافات ووحدانا رغبة في قطف ثمرات مختلفاً ألوانها من النجاح، غير مدركين أن ما ينتظرهم ليس إلا غرابيب سود من الفشل.
عاد الشاب إلى وطنه واصطحب معه نفرا من أصحابه المقربين، وعندما وصلوا إلى بلد الأحلام كما وصفها لهم فوجئوا بتخلّى صاحبهم عنهم واختفى فجأة، كأن الأرض ابتلعته ولم تترك منه أثر، فالتاعت قلوبهم وتطيرّت نفوسهم يأسا وحزنا، فبدأوا يتسكعون في حارات تلك البلد الغريب لهم شكلا ومعنى، فندب كل منهم حظه ولام نفسه لتصديق ذلك الكذاب الأشرّ.
ظلوا هكذا مدة ستة أشهر في تيه وضلال وهم بين نارين، يخشون الرجوع خوفا من أن يُعيّروا بالفشل، ويُمسكون عن الإقدام خوفا من مضاعفة الخسارة، إلى أن انتفض أحدهم وصرخ في وجوههم وقال: قد قلت لكم إن صاحبكم يكذب كما يتنفس فلم تصدقوني، أخبرتكم أنه مريض بالفشل ويريد أن ينقل إلينا العدوى فكذبتموني، وها نحن الأن نتلاوم ونتجادل وهو في سِعة من نفسه ينتظر متى نفشل لننضم إليه ونشاركه عار الأبد.
أراد الشباب الثلاثة الخروج من هذا المأزق بأقل خسائر وأعدوا له العدة ولسان حال أوسطهم يقول: بعض الناس حين لا يستطيع أن يهزمك بجُهده إما أن يُشوّش عليك أو يستقطبك إلى ميدانه ليحرقك بنيران فشله، وذاك ما فعله معنا هذا الأحمق، أراد أن نشاركه إخفاقاته في الحياة ونتائج سعيه الخائب كى لا يحمل إرث الهزيمة وحده، حتى إذا عيّره أحدهم بفشله أشار إلينا وقال: "لست وحدي الفاشل فهؤلاء أيضا فشله، أطاعوني كالأغبياء وسال لُعابهم على كلمات جوفاء تُجافي الحقيقة وتخالف الواقع، فاتبعوني على عمى إلى أن صدمهم جدار الحقيقة، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم، فأنا معذور وقد عاهدت القدر أن لا أدع أحدا ينجح إن لم أنجح أولا، وقد وفّيت بعهدي ومكرت بكم إلى أن تحقق مرادي."
وفي خضم رجوعهم مكسوفين مدحورين قال أصغرهم: إن صاحبنا لم يكن سوى شيطان تجسّد في صورة إنس ليغوينا ويضل بنا سبيل الرشاد، فاتبعناه وأطعناه حتى غرر بنا وصدقناه، وفي النهاية أحرقنا بنار فشله ولم يبالِ، وتلك بضاعة كل فاشل في استدراج ضحاياه نحو عسله المغشوش ليقعوا في شِراك شرّه ويُنفّض عنه غبار الخيبة، فإما أن يُضلهم بنصائحه الخاطئة فيهلكوا، أو أن يضربهم بأدوات نجاحهم ليشوّش عليهم ويقطع عنهم طريق التَميّز.
فكم من فاشل ارتدى ثوب النجاح وظلّ يصول هنا ويجول هناك، يُصدّر للناس أوهام وأحلام بلا رصيد حقيقي من الانجازات، وحين تفتش ورائه تجده كالعهن المنفوش لا وزن له ولا قيمة، وكعناوين الجرائد كلماتها براقة وجذابة لكن مضمونها فارغ كذباب يطير في وجه من يقرأه، فلا يجنى من وراءه سوى الزنّ ووجع الرأس ونقل العدوى، عاد الشباب إلى بلدهم بعد رحلة شاقة وهم يقولون في نفس واحد: لا لمصاحبة الفشلة بعد اليوم.