- ℃ 11 تركيا
- 22 ديسمبر 2024
علي الصاوي يكتب: عامل النظافة والسر في الترنّد
علي الصاوي يكتب: عامل النظافة والسر في الترنّد
- 25 أكتوبر 2022, 1:55:50 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
يقولون "إنّ الرواج لا يعكس القيمة" فالدر كامن في البحر والوصول إليه بالغ الصعوبة، والزجاج منتشر في كل مكان وسهل الحصول عليه، لكن يظلّ الدر أغلى قيمة وأرفع قدرا وأغلى سعرا، وهذا ما ينبغي أن يستقر في وجدان العوام وأصحاب المواهب الحقيقية أن مهما بلغ الزبد وطفى على السطع في غفلة من المجتمع يوما ما سيذهب جفاءً، وما ينفع الناس وحدة سيمكث في الأرض مهما تجاهله الناس وغض الطرف عنه متسولو الشهرة وعبيد الأضواء.
فمنذ واقعة عامل النظافة المصري في محل الكشري بسبب ما لاقى من إهانة على يد مدير المطعم على حد قول العامل، ووسائل التواصل الاجتماعي تحولت إلى فرن يَغلى من شدة حرارة الاهتمام المبالغ بتلك الواقعة حتى برز اسم العامل وتصدر "التريند" وليس للناس شاغلا إلا به، وتسلق المتسلقون وعشاق الظهور على أكتاف الترند لأخذ اللقطة وإظهار شهامة أولاد البلد مع العامل إما باستضافته أو توفير له فرصة عمل، أو دعمه معنويا، أملا أيضا في خطف الترند لصالحهم، ذاك الترند الذي تحوّل إلى مخدرات هذا العصر وصنم تُحرق له قرابين الطاعة والرياء وأحيانا النفاق لنيل رضاه.
فإن كنت خامل الذكر حاول أن تركب الترند، وإن كنت صاحب مضمون فارغ فاخلق لنفسك ترند، وإن استطعت أن تُسوّق بضاعتك التافهة على وسائل التواصل فافعل لتركب الترند، لا يهم ما تقدمه من محتوى طالما هناك جماهير سطحية، ونفاق اجتماعي منتشر، ووسائل إعلام تافهة سوف تأخذ بيدك وتُلمّعك وتنفخ فيك من روح فشلها لإفساد الذوق العام وضرب القيم العامة، مثلما يحدث مع مطربي المهرجانات واحتفاء الاعلام بهم، وبكل أسف لا أحد يهتم بالعواقب المترتبة على تصدر مثل هؤلاء للرأي العام، فحين يخفت بريق العباقرة وتتوارى النخب الحقيقية في العلم والثقافة وراء حجب التجاهل المتعمد، يصبح الأقزام في أحجام العمالقة، ويخفت صوت العُقلاء ويعلو صوت الجُهلاء وتسود السطحية، ومن هنا تتبدّل المعايير وتتغيّر المفاهيم عند العوام؛ فيضعون الصغير مكان الكبير، والجاهل مكان العالم، ويقدمون التفاهة على القيمة، فتنشأ أجيال لديها شعور راسخ أن التدنّي والرداءة هما القاعدة وغيرهما استثناء، والسبب هو مسخ القدوة التي تتصدر شاشات الإعلام الذي يشكل وعي الأجيال ويؤثر في ثقافتهم وصناعة سلوكياتهم.
وفي حمى تفاعل المجتمع مع واقعة عامل الكشري الذي أرى أنه بالغ كثيرا في ردة الفعل وربما كان مخطئا في جانب لم تظهره الكاميرا التي سجلت الواقعة، في وسط هذا الخطل أعجبني تعليق أحدهم حين قال: "أنا مش فاهم إيه البلد اللى كل ترنداتها عرّة كده، مفيش مرّة نطلع عالم، واحد عمل أبحاث، أو حد حقق رقم قياسي أو أفاد البلد بحاجة".
تعليق أجاد تشخيص المأساة وحال مجتمع يئن تحت وطأة الفقر والجهل وترميز التافهين حتى صار لهم أعناقا تطاول القامات المحترمة في المجتمع بل وتناطحهم، بفضل الدهماء الجُهلاء وبعض المتملقين من فنانين وإعلاميين، فبذرت تلك السلوكيات بذرة اليأس في نفوس الفضلاء والقضاء على أي أمل في إعادة قيم المجتمع لتسود وتوجه مرة أخرى، وتلك آفة وسائل التواصل الاجتماعي التي صدقت فيها نبوءة الكاتب الكندي آلان دنو في كتابه عصر التفاهة حين قال:
" نجحت وسائل التواصل الاجتماعي في ترميز التافهين، كثير من مشاهير السوشيال ميديا يظهرون لنا بمظهر النجاح، وهو أمر يُسأل عنه المجتمع نفسه، الذي دأب على التقليص التدريجي لصور النجاح التي تعرفها البشرية مثل العمل الجاد والخير للأهل وحسن الخلق والتفوق في الأكاديمي في الآداب والفنون، فألغاها جميعا من قائمة معايير النجاح".