- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
عمرو حمزاوي يكتب: إحياء حركة السلام الألمانية… سقطة الصحافة الرصينة
عمرو حمزاوي يكتب: إحياء حركة السلام الألمانية… سقطة الصحافة الرصينة
- 2 مارس 2023, 5:15:35 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
لم أعهد الصحافة الألمانية الرصينة ساخرة من أمور جادة، لم أعهدها غير مبالية حين تناول قضايا حيوية. لذا، هالتني قراءة مقالات الرأي في صحيفة اليمين المحافظ الشهيرة «فرانكفورتر الجماينه تسايتونج» (Frankfurter Allgemeine Zeitung) وفي صحيفة اليسار الاشتراكي الشهيرة «زويددويتشاه تسايتونج» (Süddeutsche Zeitung) عن التظاهرات الداعية إلى السلام في أوكرانيا التي شهدتها بعض المدن الألمانية (خاصة برلين) يوم الأحد الماضي.
كان كتاب وسياسيون ألمان، أبرزهم أليس شفارتزر (Alice Schwarzer) وهي كاتبة نسوية شهيرة وسارا فاجنكنشت (Sahra Wagenknecht) وهي سياسية بارزة من حزب اليسار (Die Linke) وعضو في البرلمان الألماني، قد دعوا إلى التظاهر السلمي للمطالبة بوقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا والبحث عن حلول تفاوضية تباعد بين البلدين والشعبين وبقية الشعوب الأوروبية وبين المزيد من كوارث الحرب وكلفتها الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية الباهظة.
قد تظن، عزيزي القارئ، أن مثل هذه الدعوة السلمية، وبعد انقضاء عام كامل على الحرب الروسية الأوكرانية ومع الغياب التام لإمكانية الحسم العسكري بانتصار طرف وهزيمة الآخر، تستحق التناول الموضوعي في صحافة مستنيرة كالصحافة الألمانية الرصينة وربما حصدت بعضا من تأييد أصحاب مقالات الرأي الثابتة والمفكرين والأكاديميين الذين يتولون شرح «كل أمور روسيا وأوكرانيا» من خلال إسهامات دورية في الصحف والمحطات التليفزيونية والإذاعية منذ اشتعلت الحرب. غير أن شيئا من هذا لم يحدث، بل على النقيض التام حفلت صفحات الرأي في فرانكفورتر الجماينه وفي زويددويتشاه بمقالات وتعليقات ساخرة من الدعوة إلى التظاهر من أجل السلام ومسفهة السيدتين البارزتين بين الداعين، شفارتزر وفاجنكنشت، بحجة الانحياز السياسي إلى روسيا وموالاة فلاديمير بوتين والعداء لأوكرانيا ولحقها في الوجود كدولة مستقلة. بل حمل بعض المقالات والتعليقات في عناوينه لغة صادمة تتنكر، من جهة، لتاريخ حركة السلام الألمانية التي برزت في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين على خلفية استمرار الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي وسباق التسلح النووي بينهما آنذاك، وتمتهن، من جهة أخرى، المساعي الرامية لإحياء معاصر لحركة السلام لكونها تأتي من كاتبة نسوية لم يعرف عنها الاهتمام بقضايا العلاقات الدولية من قبل ومن سياسية يسارية ذات أصول ألمانية شرقية تتهم بكراهية النظام الرأسمالي الغربي الذي أسقط التجربة الاشتراكية في ألمانيا وبالعداء الصريح لكل ما يرتبط بالولايات المتحدة الأمريكية.
الأكثر إيلاما لجهة التنكر والامتهان والسخرية التي طالت مجتمعة الدعوة إلى السلام بين روسيا وأوكرانيا والداعين لها هو ما صار بمثابة هيمنة الرأي الواحد والموقف الواحد على الصحافة الألمانية
هالني التنكر لتاريخ حركة السلام التي ظلت قوية حتى بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط المعسكر الشرقي ولعبت دورا حاسما في التحفظ الرسمي الألماني بشأن التورط في منتصف التسعينيات في الحرب الأهلية في يوغسلافيا السابقة التي تعاملت معها الولايات المتحدة بالتدخل العسكري (إدارة الديمقراطي بيل كلينتون آنذاك) وفي رفض جمهورية برلين للغزو الأمريكي- البريطاني للعراق في 2003 وابتعادها أوروبيا مع الشريك الفرنسي عن دعم جنون الإدارة الأمريكية التي كان يوقدها الجمهوري جورج دبليو بوش (بوش الابن). هالني أيضا الامتهان والسخرية من السيدتين شفارتزر وفاجنكنشت، ليس فقط لأن مثل هذه السقطات لا ترد في الصحافة الألمانية الرصينة، بل لأن لشفارتزر أهمية كبيرة كصحافية بارعة وشجاعة تولت الدفاع عن المساواة الجندرية والترويج لها بين القطاعات السكانية الأقل اهتماما بقضايا الفكر والثقافة والسياسة من خلال إصدار مجلتها الشهيرة «أيام» (Emma) ولأن فاجنكنشت، وعلى الرغم من تحفظي على شعبويتها الفجة (وهي مستحدثة) بشأن قضايا كالهجرة غير الشرعية واللجوء، صاحبة مواقف سياسية شجاعة في القضايا الداخلية كرفض تورط جمهورية برلين في سباق تسلح خطير ومعارضة إرسال سلاح ألماني إلى ساحات القتال وأيضا فيما خص القضايا الأوروبية والدولية التي انتقدت بشأنها استتباع الإرادة الألمانية والأوروبية للمواقف والمصالح الأمريكية.
غير أن الأكثر إيلاما لجهة التنكر والامتهان والسخرية التي طالت مجتمعة الدعوة إلى السلام بين روسيا وأوكرانيا والداعين لها هو ما صار بمثابة هيمنة الرأي الواحد والموقف الواحد على الصحافة الألمانية. لا حديث، وكما شرحت في مقالات الأسابيع الماضية، سوى حديث الحرب والتسليح والدبابات ومن بعدها الطائرات اللازمة لدحر روسيا. لا حديث سوى حديث طرد روسيا من الأراضي الأوكرانية قبل التفاوض. لا حديث سوى عن التنسيق الأمريكي – الألماني بشأن دبابات أبرامز وليوبارد، وبشأن الذخيرة ونظم الدفاع الجوي باترويت وغيرها. لا حديث سوى عن ديكتاتورية بوتين ودموية جيشه وإمكانية حصار روسيا والتخلي عن الطاقة القادمة منها إلى ما لا نهاية. وفي كل هذا، تبدو الصحافة الألمانية الرصينة كصحافة صفراء تروج للرأي الواحد وتدافع دون معالجات موضوعية عن موقف واحد وتتنكر لمن يطالبون بالسلام عوضا عن الحرب، ولمن يشددون على استحالة تهميش روسيا وثقلها الديموغرافي والسياسي وثرواتها الطبيعية أوروبيا وعالميا إلى أبد الآبدين.
تحية إلى شفارتزر وفاجنكنشت اللتين أرادتا إحياء حركة السلام الألمانية في ظروف هيمنة الرأي الواحد وسيطرة أحاديث التسليح والحروب.
كاتب مصري