- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
عميد ركن أحمد رحال يكتب: البادية السورية.. رحم الولادة الثالثة لـ “داعش”
عميد ركن أحمد رحال يكتب: البادية السورية.. رحم الولادة الثالثة لـ “داعش”
- 18 نوفمبر 2021, 11:15:51 ص
- 669
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
مع نهاية آذار/ مارس عام 2019، بعد ثلاثة أسابيع من القتال الضاري باستخدام صنوف متعددة من القوات البرية والجوية والاستخباراتية والاستطلاع، خرج علينا الرئيس الأميركي “دونالد ترامب” ليعلن الانتصار على تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام/ داعش”، نيابة عن التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية وحليفه “قوات سوريا الديمقراطية/ قسد”، وذلك بعد تحرير “الباغوز” والمناطق المحيطة بها التي كانت تشكل الحصن الأخير لتنظيم “داعش” وعائلاته، في شمال شرق الفرات على الحدود العراقية السورية. والنصر المظفر الذي أعلنه الرئيس “ترامب” على الإرهاب والقضاء على تنظيم “داعش”، كان سبقه إليه -على تلك الشاكلة- سلفُه الرئيس “أوباما”.
في 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، عاد الرئيس الأميركي “ترامب” لينقل خبر مقتل زعيم تنظيم “داعش” بعملية استخباراتية-عسكرية (عملية كايلا موللر) نفّذتها قوات خاصة أميركية في غارة مفاجئة، في محافظة إدلب شمال غربي سورية، في عملية شاركت فيها مقاتلات حربية وطائرات مسيّرة، حسب واشنطن. وبلهجة سادها الفخر (حسب وكالة سي إن إن)، قال الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، خلال كلمة له في البيت الأبيض: “السفاح، الذي حاول كثيرًا ترويع الآخرين، قضى لحظاته الأخيرة في قلق وخوف وذعر مطبق من القوات الأميركية التي كانت تنتفض عليه”.
في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي، نصَب تنظيم “داعش”، في بادية “المسرب”، كمينًا محكمًا ضدّ ميليشيا “أسود الشرقية” العاملة بإمرة الفرقة 17 من جيش نظام الأسد (أسود الشرقية هم سوريون من أبناء عشيرة الشعيطات من موالي نظام الأسد)، حيث قام التنظيم بتنفيذ هجوم خاطف، اعتمد فيه على الدراجات النارية التي اخترقت حواجز الفرقة 17، وقُتل في هجوم التنظيم أكثر من 15 عنصرًا من عناصر ميليشيا “أسود الشرقية”، وأصيب أكثر من 40 آخرين، إضافة إلى مقتل القائد “عبد الستار حميدة”، ولم يكتف تنظيم (داعش) بذلك، بل إنه استطاع اختراق اتصالات نظام الأسد وخطط التعزيز والمساندة، حيث علم جهة قدوم التعزيزات والمآزرات، فعمل على نصب كمين آخر أوقع الطرفين بين فكي كماشة، وبذلك ارتفعت أعداد القتلى والجرحى، واعتُبر هذا الهجوم “أكبر خسارة بشرية لميليشيات النظام وحلفائها من إيران وحزب الله”، على يد تنظيم “داعش”، منذ نحو 5 أشهر.
في اليوم الثاني، أعلن نظام الأسد مقتل العميد الركن “أحمد جعفر أسعد” المنحدر من قرية “الفروخية” في مدينة بانياس، على إثر انفجار لغم فيه خلال مشاركته في عمليات عسكرية في المناطق الشرقية، لكن مصادر موثوقة أكدت أن العميد “جعفر” قُتل في بادية “المسرب” أيضًا، خلال هجوم تنظيم “داعش” على ميليشيات “أسود الشرقية”.
على مدى أكثر من عام سابق، لا يكاد يمرّ أسبوع إلا وهناك عملية لتنظيم “داعش”، يستهدف فيها دوريات ومواقع وثكنات نظام الأسد والميليشيات الإيرانية والروس، في البادية السورية وفي مواقع مختلفة ومتباعدة ضمن أرياف وبوادي خمس محافظات سورية: (دير الزور، الرقة، حلب، حماة، حمص)، حيث أعاد التنظيم ترتيب قواته بتكتيك جديد ابتعد فيه عن سياسة التمسك بالجغرافية والاحتكاك بالسكان والتموضعات الثابتة، وانتقل إلى تكتيكات حرب الصحراء التي تعتمد على مبدأ الذئاب المنفردة والمجموعات الصغرى، والكمائن، والإغارات، التي تضرب عدوها بسرعات خاطفة (لدغة العقرب)، تحت قاعدة: (اهجم، اضرب، اقتل، اغتنم، اهرب قبل وصول التعزيزات والمآزرات)، وعلى مبدأ تأمين التخفي، وهو العارف تمامًا بجغرافية مسرح الأعمال القتالية “البادية”، التي جهّزها وحصّنها بأنفاق وكهوف وحفر وسراديب تخفيه عن أعين طائرات الاستطلاع المعادية له.
عملية بادية “المسرب” تلك لم تكن العملية الأولى لتنظيم “داعش”، ولن تكون الأخيرة، وقد سبقتها عمليات عديدة لكنها دقت ناقوس الخطر من عودة تنظيم “داعش” مرة أخرى، للقوة التي كان عليها ولعملياته التي آلمت الجميع، وفي الآونة الأخيرة، شهدت البادية السورية تصعيدًا ملحوظًا في عمليات التنظيم العسكرية، منها ما استهدف ميليشيات إيرانية في محيط مدينة البوكمال، ومنها ما استهدف ميليشيات لـ “حزب الله” قرب سدّ الفيض غربيّ تدمر، ومنها ما استهدف “لواء القدس الفلسطيني” (والقدس وفلسطين براء من هذا اللواء) في البادية الشامية، وقد لحقت بنظام الأسد سابقًا هزيمة نكراء أيضًا على يد تنظيم “داعش”، في عملية هجوم منظمة ودقيقة نفذها التنظيم على رتل لـ “الفرقة الرابعة” التي يقودها اللواء “ماهر الأسد”، قبل عيد رأس السنة الميلادية، العام الفائت، أوقعت 40 قتيلًا ودمّرت معظم حافلات الرتل، ولم تسلم القوات الروسية من هجمات تنظيم “داعش”، بعد عملية خداعية للتنظيم، هاجم فيها دورية روسية ودفعها للتوغل في حقل ألغام أعدّه مسبقًا شرقي مدينة “السخنة”، وأدت العملية إلى مقتل اللواء “فيتشسلاف غلادكيخ” وإصابة آخرين، وتبعتها عملية أخرى للتنظيم في تلك المنطقة، قُتل فيها قيادي في ميليشيا “الدفاع الوطني” الموالية لموسكو (محمد تيسير الضاهر)، كان مع مرافقيه “عندما انفجرت بهم عبوة ناسفة تحت آلية كانوا يستقلونها”، وقُتل معه عدد من عناصر حمايته، وكل تلك الهجمات دفعت موسكو إلى إطلاق عملية “الصحراء البيضاء”، التي شاركت فيها قوات روسية من قاعدة حميميم، إضافة إلى مرتزقة (فاغنر)، لواء القدس الفلسطيني، الفيلق الخامس، ميليشيات الدفاع الوطني، ميليشيات جيش الأسد، طائرات وحوامات قاعدة حميميم، فضلًا عن القوى الجوية بجيش الأسد، وقد أرادت موسكو أن تكون تلك العملية العسكرية إنجازًا يُثبت كذب ادعاء الأميركان بالانتصار على تنظيم “داعش”، وقد توقفت مرات عديدة وأعيد التخطيط لها، ومن ثم الانطلاق من جديد، لكن الشيء المؤكد أنها فشلت، ولم تحقق أبسط أسباب الإعداد لها وإطلاقها.
في العلوم العسكرية والتكتيكية، يُعدّ أحد أهم عوامل النصر في المعركة دقة وفعالية القرار المتخذ، ويحتاج القرار العسكري لأي معركة، على مختلف المستويات (التكتيكي، العملياتي، الاستراتيجي) إلى معرفة وتدقيق ثلاثة معطيات أساسية: قوة وإمكانيات العدو، قوة وإمكانيات الصديق، مواصفات مسرح الأعمال القتالية.
وباعتبار أن إمكانيات الصديق والعدو معروفة وشبه ثابتة، فإن العامل المرجح بالمعركة هو القدرة على قراءة مسرح الأعمال القتالية والقدرة على استثماره ومعرفة خفاياه، لأن مقوله: (قتلت أرض جاهلها، وقتل أرضًا عالمها)، كانت ولا تزال معادلة حقيقية وصحيحة، ومسرح الأعمال القتالية الذي يتحرك به (داعش) اليوم، سواء في سورية عبر البادية السورية أو في العراق عبر صحراء الأنبار، يمتد على مساحة تقدر بـ 80 ألف كم2، نصفها تقريبًا داخل الأراضي السورية، لكن في أدبيات “داعش” العسكرية غالبًا ما يتعامل معه كمسرح أعمال قتالي واحد، ويخضعه للتقييم والدراسة والرصد والاستهداف.
اتساع مسرح الأعمال القتالية ووعورة البادية السورية وصعوبة تغطيتها كاملة بالقوى البشرية أو رصدها من قبل أعداء “داعش”، أضاف ميزة أخرى إلى ضربات التنظيم، وزاد من قدراته على المناورة بالنيران والقوات، بعد أن اعتمد في هجماته على تكتيك القتال بالمجموعات القتالية الصغرى، وبذلك استطاع تنظيم “داعش”، بعملياته اللاحقة وبالتكتيكات المستخدمة والأساليب المتبعة، تحويل البادية السورية إلى ثقب أسود يبتلع ميليشيات النظام والقوات الروسية والإيرانية، معتمدًا على شبكة من الأنفاق والسراديب والكهوف، ومستفيدًا من إلمامه ومعرفته بجغرافية مسرح العمليات، وخبراته الدقيقة بالتضاريس واستفادته من مزايا الأرض، على نقيض القوات الروسية وميليشيات الأسد وإيران الجاهلة تمامًا بتلك المزايا، وبذلك حصل التنظيم على أفضلية قتالية تفوّق فيها على خصومه، على كامل المسرح الجديد في البادية السورية.
العمليات العسكرية الأخيرة للتنظيم تُنبئ بخطورة عودته من جديد، مع مخاوف مشروعة من أن تشكل البادية السورية رحم الولادة الثالثة لعودته إلى حيّز الوجود، ولا سيما أن البادية السورية تُعدّ منطقة هشة أمنيًا، بالرغم من أنها ممرّ شبه إجباري لأرتال قوافل إيران، وأرتال صهاريج “شركة القاطرجي” التي تهرب النفط والغاز والقمح من مناطق (قسد) إلى مناطق النظام.
وفق خرائط التفاهمات الأميركية الروسية، تُعدّ البادية السورية منطقة نفوذ روسية، وعمليات قتال التنظيم فيها تقع على عاتق قاعدة “حميميم” وحلفائها، لكن الأميركان رأوا أخيرًا أن خطر “داعش” ما زال قائمًا، وأن وجودهم في سورية سيستمر حتى القضاء على إرهاب تنظيم “داعش”، باستفادة سياسية مطلقة من المتغيرات الأخيرة، ومن خطورة عودة “التنظيم” مرة أخرى للساحة السورية.
ومما لا شك فيه أن ضربات التحالف الدولي والخسارات المتتالية للتنظيم، ومقتل عدد كبير من أمراء الصف الأول، وكذلك مقتل قائده “البغدادي”، قد نالت من بنية تنظيم “داعش”، لكن كلّ المؤشرات الحالية تدلل بقدرته على الظهور من جديد، وأن لديه كامل مقومات العودة، والاستفادة من عناصر قوة ما زال يملكها، من حيث امتلاك التمويل المالي اللازم، وفرة المصادر البشرية، ضعف العدو المقابل، والقدرة على إعادة التنظيم وترتيب الصفوف. لكن تجارب وخبرات الأعوام السابقة أكدت أن تنظيم “داعش” يرتبط بكثير من أجهزة الاستخبارات المحلية والإقليمية والدولية، وأن فرعي تنظيم (داعش) الأسدي والإيراني هما من أقوى أفرع “داعش”، لذلك تبرز أسئلة غاية بالأهمية:
هل ارتباطات تنظيم “داعش” وتنظيم القاعدة بشكل عام، بالاستخبارات الإيرانية واستخبارات الأسد، هي غائبة ومخفية وغير مرئية لمن يدّعي قتال تنظيم (داعش)؟؟
وهناك شهادة قدّمها وزير الدفاع العراقي السابق، الفريق أول ركن عبد القادر عبيدي، على شاشة قناة “يو تي في”، ضمن برنامج “شهادات خاصة”، تحدث فيها عن معسكرات تدريب لتنظيم (داعش) أقيمت في العراق وإيران، بمدربين من الحرس الثوري الإيراني وبعلم أجهزة استخبارات البلدين.
والسؤال الأهم: هل انتهت مهمّة تنظيم “داعش” والجهات التي أوجدته في المنطقة، أم أننا أمام حالة ترويج وعروض تُشكل مقدمة لإعادة ظهور نسخة مطورة عن التنظيم، ليعود ويفتك بأرواح السوريين، ويقدّم خدمة جليلة يبحث عنها نظام الأسد وهي: مهمة ضرورة وقف أي حلول سياسية حاليًا، والانصراف إلى الحرب على الإرهاب فحسب؟
(مركز حرمون)