- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
قاسم قصير يكتب: عن بشاعة الحروب الأهلية وتداعياتها: كيف نرمّم أنفسنا ومجتمعاتنا؟
قاسم قصير يكتب: عن بشاعة الحروب الأهلية وتداعياتها: كيف نرمّم أنفسنا ومجتمعاتنا؟
- 1 يونيو 2023, 4:21:54 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
عانت العديد من الدول العربية في السنوات الأخيرة من حروب أهلية قاسية، وقد أدت هذه الحروب لسقوط عشرات آلاف الضحايا والجرحى وتدمير هذه البلاد وخسارة ثروات هائلة وتراجع النمو الاقتصادي، لكن الأخطر من كل ذلك الانعكاسات المجتمعية والنفسية وانتشار الكراهية والحقد بين أبناء الوطن الواحد.
ورغم توقف القتال والعنف أحيانا في هذه الدول، فإن آثار تلك الحروب لا تزال قائمة أحيانا إلى اليوم، في ظل عدم حصول مصالحات حقيقية أو معالجة عميقة لآثار تلك الحروب وتداعياتها.
واليوم وفي ظل وجود مؤشرات مهمة عن توجه بعض الدول العربية لمرحلة جديدة من التسويات والاتفاقات ووقف الصراعات فيما بينها، لا بد من تذكّر بشاعة الحروب الأهلية وتداعياتها الخطيرة كي نتعلم منها ولا نعود إليها مرة أخرى، والأهم من كل ذلك مرحلة ما بعد وقف الحروب والصراعات والبحث عن كيفية ترميم الأنفس والمجتمعات الأهلية كي تكون قادرة على مواكبة المرحلة الجديدة، ومن أجل البحث في كيفية بناء أوطاننا على أسس حقيقية وقوية.
خطورة هذه الحروب والصراعات الأهلية أنها تُحدث انقسامات خطيرة في داخل المجتمع الواحد لا تمكن معالجتها بسهولة، كما أنها تؤدي إلى جروح قاسية ونتائج خطيرة على صعيد انتشار العنف والقتل وفقدان آلاف المواطنين دون أن يُعرف مصيرهم بعد سنوات طويلة
ولا يمكن في هذا المقال الحديث عن كل الحروب الأهلية التي عانت أو لا تزال تعاني منها الدول العربية لأن الحديث يطول كثيرا، لكن لا بد من استعراض بعض نماذج هذه الحروب وتداعياتها، لعل ذلك يفيدنا اليوم في معالجة آثار بعض الحروب الجديدة التي نواجهها، والتي يتجه بعضها إلى مراحل جديدة من الصراعات أو يمكن أن تحصل تسويات واتفاقات لوقف هذه الحروب.
ومن أخطر الحروب الأهلية التي عانت منها الدول العربية، الحرب الأهلية في لبنان والتي دامت حوالي خمس عشرة سنة (من العام 1975 إلى العام 1990) ورغم وقف الصراع العسكري والأمني في لبنان، فإن آثار هذه الحرب لا تزال مستمرة إلى اليوم ولم يخرج اللبنانيون من تداعياتها. كما شهدنا العشرية السوداء في الجزائر بعد فوز جبهة الإنقاذ الإسلامية في الانتخابات النيابية في العام 1991 والانقلاب العسكري عليها، واستمر هذا الصراع بين 1992 حتى العام 2002. كما عانت دول عربية أخرى -ولا تزال- من حروب وصراعات أهلية، ومنها العراق وليبيا واليمن وسوريا والسودان، فيما تشهد دول أخرى صراعات سياسية وتأخذ أحيانا أشكالا عنفية كما حصل في مصر وكما يحصل حاليا في تونس ودول أخرى.
وخطورة هذه الحروب والصراعات الأهلية أنها تُحدث انقسامات خطيرة في داخل المجتمع الواحد لا تمكن معالجتها بسهولة، كما أنها تؤدي إلى جروح قاسية ونتائج خطيرة على صعيد انتشار العنف والقتل وفقدان آلاف المواطنين دون أن يُعرف مصيرهم بعد سنوات طويلة.
وإذا أخذنا الحرب الأهلية في لبنان نموذجا مباشرا، فإن آثار هذه الحرب لا تزال مستمرة إلى اليوم، فآلاف المواطنين فُقدوا خلال هذه الحرب ولم يُعرف مصيرهم إلى اليوم، وهناك لجنة خاصة لمعرفة مصيرهم لا تزال تتحرك إلى اليوم باسم لجنة أهالي المفقودين، كما أن الصراع السياسي لا يزال مستمرا، وكلما اندلعت أزمة سياسية أو حصل حدث أمني يستعيد اللبنانيون خطوط التماس بين المناطق المتصارعة وتعود لغة الحرب مجددا وينتشر الخوف من عودة الحرب الأهلية. كما نشهد اليوم عودة الحديث عن التقسيم والفيدرالية، والتحذير من استخدام السلاح في هذه الصراعات.
قد يكون أحد أهم الأساليب المفيدة للهروب من الحروب الأهلية أو عدم الوقوع فيها مجددا استعادة بعض ما جرى خلالها من دمار وقتل وجرائم وسرقات ونهب وتدمير لكل البنى الاجتماعية. وعلى الصعيد اللبناني فقد نُشرت العديد من الكتب والروايات والوثائق عن هذه الحرب، وكلما يقرأ الإنسان كتابا منها يشعر بخطورة ما كان يحصل
ورغم أنه كُتب الكثير عن هذه الحرب الأهلية وما جرى خلالها، وصدرت روايات ونُشرت قصائد عنها، كما أُنتجت أفلام روائية ووثائقية، وتشكلت لجان وهيئات لدعم السلم الأهلي وتذكر مآسي هذه الحرب، وانعقدت عدة مؤتمرات لوقف الحروب والاتفاق على حلول سياسية (اتفاق الطائف واتفاق الدوحة نموذجا)، فإن ذلك لم يشكل تحذيرا كافيا للبنانيين من خطورة العودة إلى الحرب الأهلية؛ وضرورة العمل من أجل بناء وطن مستقر ودولة قوية والوصول إلى رؤية وطنية مشتركة، وها هم اللبنانيون اليوم يعودون مجددا إلى الصراعات والأزمات والتهديد بالعودة إلى القتال والانقسام.
والنموذج اللبناني ينطبق أيضا اليوم على ما يجري في اليمن وليبيا وسوريا، وإذا كانت الجزائر قد نجحت في الخروج من آثار العشرية السوداء، فإن مخاوف مثل هذا الصراع تنتشر اليوم في تونس ودول أخرى؛ في ظل الانقلاب على الديمقراطية وانتشار الديكتاتورية والظلم وانتهاك حقوق الإنسان ووضع الآلاف من المعتقلين السياسيين في السجون وضرب الحريات العامة، ويضاف لذلك الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
وقد يكون أحد أهم الأساليب المفيدة للهروب من الحروب الأهلية أو عدم الوقوع فيها مجددا استعادة بعض ما جرى خلالها من دمار وقتل وجرائم وسرقات ونهب وتدمير لكل البنى الاجتماعية. وعلى الصعيد اللبناني فقد نُشرت العديد من الكتب والروايات والوثائق عن هذه الحرب، وكلما يقرأ الإنسان كتابا منها يشعر بخطورة ما كان يحصل. وقد قرأت مؤخرا بعض هذه الكتب، ومنها كتاب عن مذكرات مسؤول عسكري في الحرب وهو جوزيف سعادة، وعنوان كتابه المترجم عن الفرنسية: "الضحية والجلاد أنا"، عن دار الجديد. وفي هذا الكتاب يروي صحافيان فرنسيان مذكرات جوزيف سعادة ودوره في الحرب الأهلية والجرائم التي حصلت وقتل مئات المواطنين دون أي جرم. ومن يقرأ الكتاب يشعر بحجم الحقد والكراهية التي أدت إليها الحرب الأهلية في لبنان. والكتاب الثاني للكاتبة اللبنانية ريجينا صنيفر تحت عنوان: "ألقيت السلاح، امرأة في خضم الحرب اللبنانية"، حيث تروي مذكراتها في الحرب وخصوصا بين أبناء المجتمع المسيحي.
مع بروز مؤشرات إيجابية لوقف الحرب في اليمن، أو الوصول إلى تسوية للملف السوري أو الأزمة في ليبيا، وفي ظل ما يجري في السودان، والمخاوف من عودة الصراع الداخلي إلى تونس، نحتاج مجددا لمعرفة آثار الحروب الأهلية وتداعياتها والتعلم من دروسها وبشاعة ما جرى خلالها، كي لا نعود إليها مرة أخرى
وهناك كتب أخرى روت آثار الحرب ومخاطرها وتداعياتها، وتشكلت في لبنان لجان وهيئات من مقاتلين سابقين أو من شخصيات تعمل لمنع العودة إلى الحرب، ومنها: محاربون من أجل السلام، وحركة السلام الدائم، والمنسقية العامة لشبكة السلم الأهلي. وتهدف هذه الهيئات للتحذير من العودة إلى الحرب الأهلية والعمل لبناء السلم الأهلي على أسس قوية. لكن للأسف رغم كل هذه الجهود لا يزال الانقسام يخيّم على الواقع اللبناني، والخوف من العودة إلى الحرب الأهلية لا يزال قائما لأن الحلول التي وُضعت لم تكن حلولا دائمة جذرية.
واليوم ومع بروز مؤشرات إيجابية لوقف الحرب في اليمن، أو الوصول إلى تسوية للملف السوري أو الأزمة في ليبيا، وفي ظل ما يجري في السودان، والمخاوف من عودة الصراع الداخلي إلى تونس، نحتاج مجددا لمعرفة آثار الحروب الأهلية وتداعياتها والتعلم من دروسها وبشاعة ما جرى خلالها، كي لا نعود إليها مرة أخرى، وكي نتعلم كيف نرمّم أنفسنا ومجتمعاتنا من آثار هذه الحروب، ونعمل لبناء دولة المواطنة الحقيقية، ونتعلم من تجارب الآخرين بدل الغرق في أزماتنا المستمرة.