- ℃ 11 تركيا
- 22 ديسمبر 2024
كيف يؤثر تراجع السكان على مكانة الصين عالمياً؟
كيف يؤثر تراجع السكان على مكانة الصين عالمياً؟
- 7 أبريل 2023, 11:20:36 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
انخفض عدد سكان الصين العام الماضي للمرة الأولى منذ ستة عقود، وهو تحول تاريخي من المتوقع أن يمثل بداية فترة طويلة من التراجع في أعداد المواطنين؛ وذلك وسط تداعيات عميقة على الاقتصاد الصيني، بل العالمي أيضاً؛ حيث أفاد المكتب الوطني للإحصاء في الصين بانخفاض عدد السكان بنحو 850 ألف شخص، ليبلغ نحو 1.412 مليار نسمة في عام 2022، وهو أول انخفاض منذ عام 1961 العام الأخير لمجاعة الصين الكبرى؛ أي منذ نحو 60 عاماً، لتصل بذلك أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان إلى لحظة محورية؛ إذ بدأ عدد سكان الصين ينكمش بعد انخفاض مطرد استمر لسنوات في معدل المواليد، الذي يقول الخبراء إنه لا رجعة فيه، وهو مؤشر عن تحول ديموغرافي إشكالي للبلد.
هذا وقد كشفت النمذجة الديموغرافية للأمم المتحدة أن عدد سكان الصين قد ينخفض إلى 1.313 مليار نسمة بحلول عام 2050، وقد ينخفض إلى أقل من 800 مليون نسمة بحلول عام 2100؛ ما قد يؤثر على حجم اقتصاد البلاد وبيئة الأعمال بها، لا سيما في ضوء ارتفاع شيخوخة السكان وانخفاض القوة العاملة؛ الأمر الذي ينم عن إقبال الصين على أزمة ديموغرافية شديدة الصعوبة خلال العقود المقبلة. وهو الأمر الذي ربما يكون له انعكاسات جيوسياسية واقتصادية عالمية.
أبعاد الأزمة
ثمة أبعاد متعددة تتقاطع مع الأزمة الديموغرافية التي تتعرض لها أكبر دولة عالمياً من حيث عدد السكان، وعلى رأسها التحول في ديموغرافية السكان، وانخفاض معدلات الخصوبة، وتدني الظروف الاجتماعية والاقتصادية بالبلاد، وهو الأمر الذي ارتبط بسياسات تحديد معدلات الإنجاب التي تبنتها البلاد منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي. ويمكن تناول أبرز هذه الأبعاد كالتالي:
1– التحول في ديموغرافية السكان: يحدث التحول الديموغرافي في الصين نتيجة انخفاض معدل المواليد؛ حيث وصل إلى مستوى قياسي بلغ 6.77 مولود لكل 1000 شخص في عام 2022، وهو أدنى معدل على الإطلاق، انخفاضاً من 7.52 مولود في عام 2021، كما بلغ معدل الوفيات – وهو الأعلى منذ عام 1974 – نحو 7.37 حالة وفاة لكل 1000 شخص عام 2022، مقارنةً بمعدل 7.18 حالة وفاة في عام 2021.
هذا بجانب سرعة شيخوخة السكان؛ إذ تضم الصين نحو 280 مليون شخص تزيد أعمارهم عن 60 عاماً بنهاية عام 2022، ارتفاعاً من 267.4 مليون في عام 2021. فضلاً عن ذلك، ارتفع متوسط العمر المتوقع في بمعدلات زيادة ملحوظة في العقود الأخيرة؛ ما أدى إلى ارتفاع عدد المسنين، بل من المتوقع أن يستمر هذا الاتجاه؛ حيث من المتوقع أن يتضاعف عدد هؤلاء الأفراد بحلول عام 2050.
2– التأثير المعاكس لسياسة الطفل الواحد: إن أحد الدوافع الرئيسية وراء انخفاض عدد السكان في الصين هو سياسة الطفل الواحد، التي تم تقديمها في عام 1979 وتم تنفيذها بصرامة حتى عام 2015. وقد تم تصميم هذه السياسة في الأصل للسيطرة على النمو السكاني، وهي السياسة التي ساهمت بدورها في انخفاض عدد المواليد وإحداث اختلال كبير في التوازن النسبي بين الجنسين؛ وذلك نتيجة التفضيل التقليدي للذكور على الإناث في المجتمع الصيني، بجانب انخفاض عدد النساء في سن الإنجاب.
3– إخفاق سياسة الأطفال الثلاثة: عَكَسَ اتجاه انخفاض عدد السكان، والتخفيف من التحديات الاجتماعية والاقتصادية، إصدار الصين مجموعة من التدابير لتشجيع الولادة ودعم رعاية الأطفال ورعاية المسنين؛ لتعدل بكين بذلك سياستها الخاصة بالطفل الواحد إلى اثنين في عام 2016؛ أي أنها سمحت للأزواج الصينيين بإنجاب ما يصل إلى طفلين منذ عام 2016، في حين أن الآباء من العائلات التي لديها طفل واحد، يمكنهم إنجاب طفلين منذ عام 2013، ثم في مايو 2021، أعلنت الصين أنه سيتم السماح للأزواج في الصين بإنجاب ما يصل إلى ثلاثة أطفال؛ أي ما تسمى “سياسة ثلاثة أطفال”؛ وذلك لتعزيز معدلات الولادة ومعالجة الخلل الديموغرافي في البلاد.
كما أصدرت الصين سلسلة من التدابير الداعمة لسياسة الأطفال الثلاثة، التي تشمل التخفيضات الضريبية، وخدمة رعاية الأطفال والتعليم بأسعار معقولة، وإدخال إجازة رعاية الأطفال. علاوةً على ذلك، بدأت الحكومات المحلية تقدم إعانات مالية لتشجيع الولادة، بيد أن النتائج المرجوة من هذه التحولات الواسعة نحو سياسات الإنجاب لم تتحقق بعد.
4– انحراف معدلات الخصوبة: انخفض معدل الخصوبة في البلاد باطراد منذ التسعينيات إلى أدنى مستوى له على الإطلاق عند 1.28 مولود في عام 2020؛ وذلك مقارنةً بمنافسيها؛ إذ وصل معدل الخصوبة في الهند إلى 2.05 مولود لكل امرأة في العام نفسه، و1.64 مولود في الولايات المتحدة. حتى اليابان، التي تشتهر بانخفاض معدل المواليد وشيخوخة السكان، بلغ معدل الخصوبة بها 1.34 مولود؛ وذلك نتيجة عدم التوازن بين الرجال والنساء في الصين؛ إذ تركت سياسة الطفل الواحد البلاد مع نسبة منحرفة بين الجنسين؛ وذلك على خلفية إجهاض العديد من الفتيات أو التخلي عنهن أو حتى قتلهن من خلال عمليات الإجهاض الانتقائي، بدافع التفضيل التقليدي للأولاد.
5– تدني الظروف الاقتصادية والاجتماعية: تفاقم انخفاض عدد السكان في الصين بسبب عدة عوامل أخرى، بما في ذلك ارتفاع تكاليف المعيشة، خاصةً في المدن الكبيرة المترامية الأطراف مثل بكين، بجانب التباطؤ الاقتصادي الناجم عن وباء كوفيد–19، لا سيما التدابير الصارمة في البلاد لاحتوائه، ناهيك عن تخفيف القيود المرتبطة بفيروس كورونا التي أدت إلى موجة من الإصابات، وتسببها في عدد غير معروف من الوفيات، وسط مخاوف من عدم شفافية الحكومة بشأن عدد الوفيات الحقيقي للفيروس منذ بداية الجائحة.
تداعيات محتملة
إن التحول الديموغرافي المتعمق في الصين قد يكون له آثار بعيدة المدى على نموها الاقتصادي؛ وذلك بخلاف العديد من التداعيات الأخرى، وقد يكون من أبرزها ما يلي:
1– فقدان رأس المال البشري: إحدى النتائج المباشرة لانخفاض عدد السكان هي فقدان رأس المال البشري على المدى الطويل؛ ما يعني عدداً أقل من رواد الأعمال والمبتكرين والعمال المهَرة الذين يساهمون في تغذية الاقتصاد وتحفيز المزيد من نموه، كما قد تجعل القوى العاملة المسنة ونقص العمال الشباب، بسبب انخفاض عدد السكان، من الصعب على الشركات العثور على العمالة التي تحتاجها لتلبية الطلب؛ نظراً إلى أن بعض الشركات تعتمد على العمل البدني أكثر من غيرها، ومن ثم فإن تقلص حجم القوى العاملة سيؤثر على بعض الصناعات بشكل أكثر حدة من غيرها، كما سيؤدي هذا الانخفاض إلى زيادة تكاليف العمالة؛ ما قد يجعل من الصعب على الشركات الصينية المنافسة في السوق العالمية. وعلى سبيل المثال، من المرجح أن تتحمل صناعات التصنيع والبناء العبء الأكبر لنقص العمالة.
هذا وقد زادت نسبة سن العمل إلى الإعالة في الصين من 37% في عام 2010 إلى 45% في عام 2021؛ ما يعني أنه لكل 100 شخص، يحتاج 45 منهم إلى الدعم، كما يمكن أيضاً التعبير عن هذا الاتجاه الديموغرافي في نسبة العمال إلى المتقاعدين؛ ففي عام 2020، كان هناك 3.74 شخص في سن العمل لكل متقاعد. ولكن من المتوقع أن تنخفض هذه النسبة إلى 1.68 شخص لكل متقاعد بحلول عام 2045. وسيكون لهذا آثار هائلة على الاقتصاد، من حيث الضغط على النظام الصحي ونقص المعاشات التقاعدية، ومن ثم التأثير على المجالات الاقتصادية.
2– انكماش حجم السوق الصينية: بجانب سياسات الإغلاق المرتبطة بفيروس كورونا، وتراجع سوق العقارات، وهما الأمران اللذان دفعا إلى نمو الاقتصاد الصيني بنسبة 3% فقط في عام 2022 – وهو أسوأ معدل منذ ما يقرب من 50 عاماً – فإنه مما لا شك فيه أن الخلل الديموغرافي للمجتمع الصيني قد يؤدي إلى مزيد من التباطؤ للاقتصاد الصيني على خلفية انكماش حجم السوق، مع عدد أقل من العملاء، لا سيما في ضوء انخفاض حجم الطلب على السلع والخدمات، وتضرر بيئة الأعمال في البلاد. هذا وقد تؤدي شيخوخة المجتمع إلى الانخفاض في حجم الإنفاق الاستهلاكي؛ حيث يكون كبار السن أقل ميلاً لإنفاق الأموال من الشباب.
3– التشكيك في السياسات الحكومية: توقع الاقتصاديون في الحكومة الصينية أنه بحلول عام 2049، سيكون نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الصين قد وصل إلى نصف مثيله في الولايات المتحدة أو حتى ثلاثة أرباعه، في حين أن الناتج المحلي الإجمالي سينمو إلى ضعف نظيره الأمريكي أو حتى ثلاثة أضعافه، بيد أن هذه التوقعات كانت تفترض أن عدد سكان الصين سيكون أربعة أضعاف سكان الولايات المتحدة في عام 2049، في حين أن الأرقام الحقيقية تروي قصة مختلفة تماماً؛ إذ إنه بافتراض أن الصين محظوظة بما يكفي لتثبيت معدل الخصوبة عند 1.1 طفل لكل امرأة، فإن عدد سكانها في عام 2049 سيكون ثلاثة أضعاف نظيره في الولايات المتحدة فقط، وستكون جميع مؤشراتها الرئيسية الحيوية – الديموغرافية والاقتصادية – أسوأ بكثير، وهو ما يشير إلى أن جميع سياسات الصين الاقتصادية والخارجية والدفاعية تستند إلى بيانات ديموغرافية خاطئة.
4– اختلالات جيوسياسية واقتصادية عالمية: قد تؤدي الأزمة في النهاية إلى التأثير على النظام العالمي الحالي؛ فهناك مخاوف عديدة بشأن التدهور الاقتصادي الصيني؛ ما قد يشكل مشكلة محتملة لبقية العالم، بالنظر إلى الدور الرئيسي للصين باعتبارها ثاني أكبر اقتصاد عالمي، ناهيك عن تصرف السلطات الصينية وفقاً لإيمانها الراسخ بالشرق الصاعد والغرب المتدهور؛ فمثلاً يعتقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه ما دامت روسيا تحافظ على علاقات مستقرة مع الصين الصاعدة، فإن الغرب المتراجع سيكون عاجزاً عن تحميله المسؤولية عن عدوانه على أوكرانيا، ولكن إذا ثبت عكس ذلك، فستكون آمال الطرفين غير مطمئنة لهما على الإطلاق.
ومن ثم، فمن الواضح أن ما يحدث في الصين سيكون له تداعيات عالمية؛ وذلك في ضوء بدء انكماش حجم القوى العاملة الصينية المنخرطة في التصنيع؛ ما يعني ارتفاع تكاليف التصنيع في الصين، وهو ما سيؤدي بدوره إلى ارتفاع الأسعار، وارتفاع معدلات التضخم العالمية، لا سيما في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
خلاصة القول أن انخفاض عدد سكان الصين لديه القدرة على أن يكون له تأثير كبير على اقتصاد البلاد في السنوات القادمة؛ وذلك نتيجة انخفاض معدلات المواليد، وارتفاع الوفيات وشيخوخة السكان، وانخفاض القوة العاملة، وزيادة تكاليف الضمان الاجتماعي، وتباطؤ النمو الاقتصادي، ونقص العمال المهرة، وفقدان رأس المال البشري، وزيادة تكاليف العمالة، وهي العوامل التي قد تمثل إشكالية عالمية محتملة، بالنظر إلى الدور الرئيسي الذي تلعبه الصين في النظام الاقتصادي العالمي.
ومع ذلك، لم يتضح بعدُ كيف ستتعامل الحكومة الصينية مع هذه التحديات، وإذا ما كانت حزمة السياسات يمكن أن تخفف من هذه التحديات لضمان بقاء البلاد قادرةً على المنافسة في الاقتصاد العالمي؛ الأمر الذي سيتطلب تكثيف الاستثمار في مجالات التكنولوجيا والأتمتة لتعويض العنصر البشري، لا سيما الاستثمار في تدريب وتطوير قدرات العاملين لتكون قادرةً على التكيف مع ظروف السوق المتغيرة.