محمد بيروتي يكتب: مخيم واحد ومرحلتان

profile
  • clock 11 يوليو 2023, 4:14:55 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

عام 2002، وكنت حينها أعمل موظفا في محافظة جنين، وبمرافقة تيري رود لارسن النرويجي الذي عمل مندوبا مكلفا من الأمم المتحدة لدى منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، ووسيطا في عملية السلام، قمنا بزيارة مخيم جنين بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي منه.
تجولنا فوق أنقاض البيوت، أو إذا أردنا الدقة، تجولنا فوق أنقاض كانت بيوتاً سويت في الأرض، وكأنّ الهدف من ذلك كان تمهيدا لتعبيدها كما تفعل البولدوزرات والمداحل عادة. بيوت كانت قبل العملية الإسرائيلية تأوي أناساً يعيشون حياة عادية ويربون أطفالا بين حجر ممزق وقطعة معدن كانت باباً أو نافذة، وأخشاب الخزائن المسحوقة والحشيات التي شهدت ولادة جيل جديد من الأطفال، صبيانا وبنات، كنا نلمح قطعة من لحم آدمي، أصبعا أو جزءا من كف أو خصلة شعر ملتصقة بالجلد، فلم يكن الوقت قد أسعف القاتل حينها على إخفاء جريمته، أو أنه لم يكن مهتما حتى بذلك، ولم يكن أهالي المخيم قد عادوا لانتشال جثث أحبابهم من تحت الأنقاض. وعلى مدى فترة المصاحبة التي استمرت نحو ساعتين، كانت رائحة الموت تغزو أنوفنا من بين الأنقاض. لن أنقل انطباعاتي فهي منحازة لفلسطين والفلسطينيين، سأنقل فقط ما سمعته من مندوب الأمم المتحدة، الذي قال، «ما أراه لا يحدث إلا بفعل الطبيعة، زلزال مدمر أو فيضان هائل، إما إذا كان هذا قد حدث بفعل الإنسان فهذه جريمة حرب، بل أشد الجرائم التي شهدتها الإنسانية وحشية».

معركة مخيم جنين هي معركة الكرامة، الكرامة بمعناها المادي والمعنوي، وهي معركة كل الفلسطينيين في مواجهة الغطرسة الصهيونية والتخاذل العربي

مضى على هذه الزيارة 21 عاما، عادت الجرافات الإسرائيلية لتستعيد أمجادها الغابرة، أو لتعوض فشلها السابق بصحبة المدرعات والدبابات وطائرات الأباتشي وما يزيد عن ألفين من صفوة الوحدات العسكرية الإسرائيلية، بإضافة جديدة نوعية، الطائرات المسيرة ووحدات السايبر الحديثة. وعدت مرة أخرى لزيارة المخيم، مصاحبا لوفد من حركة فتح ومن دون وفود أجنبية، وفي دماغي تدور فكرة المقارنة. والنتيجة، حجم الدمار أقل، أقل بكثير، وعدد القتلى الفلسطينيين أقل، ولا نعلم شيئا عن حجم الخسائر الإسرائيلية، التي تكبدت في العملية الأولى عام 2002 نحوا من 23 قتيلا. أما الثابت فهو جذوة المقاومة الفلسطينية، التي لم تتراجع خلال العقدين الأخيرين. وكما حدث في عام 2002، حدث عام 2023. لم تكن هذه معركة المخيم، كانت معركة الفلسطينيين كافة، زرنا بيوت العزاء في ميثلون، وجنين واليامون وفحمة، وبالطبع مخيم جنين، وتأملنا اليافطات التي مجدت الشهداء، رأينا شعارات الجهاد الإسلامي، وشعارات حماس وشعارات العاصفة، تأملت وجوه ذوي الشهداء، كانت وجوها صارمة، مستبشرة، لا أحد يلطم خداً، ولا أحد يمزق ثوبا، ولم نر اللون الذي يميز الموت عادة، اللون الأسود، بل ساد العلم الفلسطيني بألوانه المعبرة. رأينا وحدة الشعب الفلسطيني بأجل صورها، وحدة لا ينزعها رأي هنا، أو كلمة هناك. رأينا كذلك، أن الجيل الذي خاض المعركة هو ذاته الجيل الذي ولد على الحشيات ذاتها التي مزقتها جنازير الدبابات عام 2002، الجيل الذي ولد العام ذاته أو الأعوام التي تلته. هل كانت معركة مخيم جنين ضرورية؟ هل كانت مغامرة غير محسوبة؟ هل هي جنون فلسطيني نمطي؟ أيعقل «وفق قوانين كلاوزفيتس ولاو تسي وماوتسي تونغ» أن يواجه مئتان من المقاتلين شبه العزل، جيشا محترفا مدججا بالدبابات والطائرات والجرافات وألفين من الوحدات العسكرية المختارة؟ أيعقل أن مخيما كهذا، ببيوت متهالكة متقادمة وفي مساحة لا تزيد عن نصف كيلومتر مربع، وفي موقع الجبل من خلفه والسهل من أمامه يستطيع «استراتيجيا أو تكتيكيا» أن يحتمل مواجهة كهذه طوال زمن غير محدد؟ ألم يطرح هذا السؤال ذاته في مارس 1968؟ ألم يتهم ياسر عرفات حينها بالجنون والمغامرة والنية المبيتة على تعريض المقاتلين الفلسطينيين في الكرامة لمذبحة مضمونة النتائج؟ ألم يطرح السؤال ذاته في معارك بيروت عام 1982، عندما واجه المقاتلون الفلسطينيون وأبطال المقاومة اللبنانية الجيش الكتائبي المدجج من الخلف، وجيش شارون من الأمام. وأي جيش؟ لكم أن تتخيلوا القوة الساحقة للجيش الإسرائيلي الذي دمر وهزم 3 دول عظمى واستولى على أراضٍ تفوق مساحتها مساحة فلسطين التاريخية ثلاث أو أربع مرات. جيش عاظم قوته بين سنتي 1967 و1982 مرات ومرات. وماذا كانت النتيجة. ليس مهما القول عن انتصار في الكرامة، أو هزيمة للجيش الإسرائيلي، ما هو مهم ما قاله ياسر عرفات حينها، «سنكف عن الهرب، سنكف عن الركض أمام جبروت الجيش الإسرائيلي».
وهذا هو مخيم جنين، إنه الصورة المصغرة عن مخيمات اللاجئين الفلسطينيين كافة، ليس داخل الوطن المحتل، بل في الأردن ولبنان وسوريا، هذه المخيمات التي حملت لواء الثورة في السنوات التالية على هزيمة يونيو، تتحين الفرصة فقط للعودة إلى ميدان المعركة، وهذه الفرصة ستأتي لا محالة. معركة مخيم جنين هي معركة الكرامة، الكرامة بمعناها المادي والمعنوي، وهي معركة كل الفلسطينيين في مواجهة الغطرسة الصهيونية والتخاذل العربي. وهنا أطلب المغفرة عن أفكاري التي لم أصرح بها لأحد، الأفكار التي راودتني قبل العملية العسكرية عن احتمالية الجنون الكامن في معركة جنين، لقد أثر بي العمر، لكني عدت من المخيم وبعودتي استعدت ثقتي بالشعب الفلسطيني، واستعدت ثقتي بالنصر المحتوم. واستعدت إدراكي بأن من قاد الثورة الفلسطينية في مراحلها الأكثر عنفواناً كانوا هم الشباب، وأن من يعيدها إلى طريقها القويم هم الشباب.

 


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
كلمات دليلية
التعليقات (0)