د. محمد كامل خضري : هزيمة يونيو

profile
  • clock 4 يونيو 2021, 10:29:13 ص
  • eye 1040
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

 كان أبى موظفا صغيرا فى أحد الشركات فى أقصى الجنوب...كانت هناك دورات إجبارية تعقد للموظفين مدتها شهر فى المعهد الإشتراكى فى المدينة...إقامة كاملة لايذهب الموظف فيها إلى عمله أو بيته وأولاده ...كانت الندوات والمحاضرات كل يوم بما فيها الجمعة ...لم أكن فى عمرى الصغير أسأل  لماذا كانت المحاضرات تعقد أثناء صلاة الجمعة !

كان أبى يزوغ من المحاضرات ويصلى الجمعة فهمت بعدها لماذا تأخر أبى فى الترقية ! عندما عاد أبى من الدورة كان ذابلا نحل جسمه قليلا يبدو عليه الإرهاق...كان خط أبى جميلا ...قرأت أوراقه ...سجل محاضراته ...كانت تتحدث عن حتمية الحل الإشتراكى...والإشتراكية العربية ...والمد الثورى ...و ديكتاتورية البرولتاريا  ...ودور العمال والفلاحين فى النظام الإشتراكى...والرأسمالية  المستغلة...والبرجوازية المتعفنة...لم أكن أعرف الكثير عما أقرأ أو قل لم أكن أفهم ولكنه حب القراءة...

كنت أذكر أن أبى لم يكن يهتم بالإتحاد الإشتراكى على الرغم أنه كان يحمل كارنيه الإتحاد...لكنه كان إجبارى أن تكون عضوا فى اللجان الأساسية ...كان أبى من المصلين حفظة القرآن .وكان يحضر مواظبا  دروس علماء الأزهر الذين يأتون لمدينتنا فى رمضان لإحياء لياليه...الشيخ محمود شلتوت ...الشيخ محمد بن فتح الله بدران ...والشيخ محمد أبوزهرة ...الذى صعب على نفسه وعلى نفسى أنه بعد صلاة جمعة فى مسجد شركة كيما للأسمدة تأهب لإلقاء الدرس ...فبدأ الدرس بأن قال متألما أتى اليوم الذى يحضر فيه لأبوزهرة فى درسه بضع من الناس .. وكنت وأبى من ضمن العدد! 

أبو زهرة كما عرفت بعدها كان أستاذ حضارة إسلامية فى جامعة القاهرة على ماأذكر...كان الطلبة يتركون كلياتهم ومحاضراتهم ويذهبون لسماع محاضرة أبو زهرة...كان المدرج دائما مكتظ ...  

مرت أيام قليلة وإمتحنت إمتحان القبول الإعدادى....هكذا كان يسمى ...ربما النجاح فيه يتيح لصاحبه الإنتقال لمرحلة الإعدادى....وقبل ظهور النتيجة رحلنا إلى الشمال حيث الريف فى (قفط) بلدتنا ...بعيدا عن جبال أسوان .....

أرسل أبى لى النتيجة فى خطاب فرحت بها وبعدها بأيام ...قامت الحرب...إفتقدت..أسوان والأخبار من المطبوعات...الجرائد والمجلات والقراءة المجانية لهما عند محسب بائع الجرائد الشهير  نظير أن (أخلى بالى من الفرش) لدقائق قد تطول...المصدر الوحيد للأخبار فى قريتى  هو راديو جدتى...كنت مهتما  بالسياسة من باب الوطنية ...

أسقطنا 24...36....48 طائرة...أخرج فرحا ....أهيص مع نفسى فلا أحد من الفلاحين المنتشرين فى الحقول يلقى بالا لبشراى لهم بسقوط الطائرات...عدت إلى الراديو فوجدت أن العدد زاد إلى 73 ...فرحت كما لم أفرح بنجاحى...هانت سنلقى إسرائيل فى البحر ...سيقود الزعيم لودر كبير ويغرقها ويلقيها فى البحر!

فى المساء سمعت العم حمدان فى إذاعة إسرائيل الموجهة بالعربية...إنه يقول كلاما مختلف عما نسمعه فى إذاعتنا...تانى يوم وجدته يذيع رسائل الأسرى المصريين بأصواتهم...فلان الفلاني ...رتبتى كذا. ..من محافظة كذا....مركز كذا.....الكفر الفلاني...معلومات موثقة ... ولكن كنت أكذب أذنى....وإنقطعت الأخبار عن عمال شركة المنجنيز التى تعمل فى سيناء وجلهم من بلدتنا ...أهلى ...أرحامى ...

وجاء يوم الجمعة ....الراديو يقول أن هناك بيان هام ...اليوم كله ...مارشات عسكرية ...لم أفارق الراديو ....كان عمرى وقتها 12 عاما بالتمام ...دون كمال ....  كنت فى إنتظار البيان الهام للزعيم...وجاء البيان وأعترف الزعيم بالهزيمة..بالنكسة..متعللا بأنه توقع العدو من الشرق فجاءه من الغرب!...فى 48 نكبة...وفى 67 نكسة ....!!! وغنت إسرائيل بصوت أم كلثوم (الليلة عيد )  كم كرهت هذه الأغنية بسبب ذكراها السيئة ...أسمعها لأول مرة من صوت إسرائيل من أورشليم والقدس وفى يوم إعتراف الزعيم بالهزيمة ! 

الذى يصنع الجمال فى الأشياء ذكراها ! 

ستارة سوداء أسدلت على مصر كلها...المهاجرين من مدن القناة ...ملأوا القرية وكل قرى مصر ومدنها....إحتلوا المدارس والشوارع والمساجد  وعرفنا من يومها مدارس الفترتين...ومضى إلى غير رجعة اليوم الدراسى الكامل فى مدارس الحكومة وحدثنا المهاجرين  عن حالة هلع ...أصابت الجند والقادة أصابت الناس كلهم...الخوف معدى كالضحك تماما...حدثونا عن الهلع والهرب للجند والناس فمن كان يعرف السباحة عاد ومن لم يعرف غرق فى القناة...أو مات عطشا فى تيه سيناء...أو حرقا بنيران عدو لايرحم...وسألت الجند الفارين لماذا الفرار ؟! قالوا لقد ذهبنا للجبهة بجلابيبنا...وأعطونا المخلة التى تحوى ملابسنا ...فلم نتدرب على سلاح أو نحمل سلاح حشدونا حشدا كما أنفار  نقاوة لطعة الدودة من أوراق القطن ...حتى الملابس الميرى كانت علينا مضحكة فقد لبسناها بدون تقييف...نحن لم نكن ذاهبين لحرب...كنا ذاهبين للتهويش والمنظرة !           

رجال المنجنيز فى محاجر ومناجم  سيناء   لم يعد منهم أحد...حتى يروى لنا ماحدث...قرأت بعدها كيف كان مصرعهم فى مذكرات أحد قادة اليهود...تجمعوا فى سيارات نقل وقوفا...محشورين. ..

يريدون النجاة من أهوال الحرب أطلق عليهم الصهاينة ....النار ...

مدنيين عزل....ولكن لابأس فى قليل من التسلى...لم يسقط أحد من العمال من العربات  ولامال...ولكن الدماء تدفقت من كل فتحات الصندوق...ومات الرجال وقوفا...نزفوا حتى آخر قطرة...ولكنهم لم يسقطوا...ماتوا كحزمة قصب نبتت فى واديهم...كالأشجار ماتوا واقفين !

 وتضاعف عدد سكان القرية وحكى لنا القادمون حرائق الزيتية وشركات البترول فى السويس وتكدس القطارات والسيارات والدواب بالبشر. ..تهجير العراقيون والسوريون هذه الأيام ....شبيه بتهجير مدن القناة أيامها ...

تخيل أنك تترك بيتك ومالك وشقى عمرك ...وتأخذ أولادك وتهرب...لأنك تهرب من الموت ....فلاوقت لديك ... 

مصر أصبحت حزينة من يومها ولم تعد مصر كما كانت ولن تكون !!!

السؤال الكبير الذى أحتاج إجابة عنه...لماذا تتحلل الجيوش العربية بسرعة ...تذوب كما تذوب قطع الشيكولاتة...عند أول عود كبريت يشتعل فى سماء الحرب....يخلعون الأفرولات ويلبسون الجلاليب...لماذا؟!

يذوبون كما تذوب قطعة السكر عندما تسقط فى الماء !

ومن يومها وأنا حزين ...

قد نختلف مع السادات...لكنه أعاد لمصر بعضا من ثقتها وكرامتها...

وظلت (قفط) مدة طويلة تلبس ملابس  الحداد...ترملت النساء ...لبسن السواد حتى خرق القماش التى تحمى النساء من دم الطمث كانت سوداء...ما أصعب أيام الحداد وحزن النساء فى بلادى وأكلنا بعدها العيش المسوس وخبزنا الدقيق المعطن وفصلنا الديدان عنه بالمناخل حتى نقدر على أكله مساكين أهل الصعيد أول من يقدم الدم وأول من يطفح الدم وأول من يأكل العدم ممزوجا بالدود والسوس والعطن ويستخسرون فينا الكفن ...         

ومرت الأيام وقال المؤرخون أن الجيش ترك مايزيد عن 100مليار جنيه بقيمة تلك الأيام حيث الجنيه ب3دولار ...سلاح...

وأزيدك أن المناجم والسكك الحديد الممتدة من الإسماعيلية للعريش قبل نكبة 48 وكانت ممتدة لفلسطين كلها ضاعت...وقضبانها إستعملها اليهود فى بناء خط بارليف...ناهيك عن المبانى التى خربت والبترول الذى نهب يضاعف المبلغ أضعافا ...5 يونية كانت مذبحة للأبرياء وإنتهاك لعرض الوطن...وضياع لثروة الأمة قلبت أحوالنا رأسا على عقب...

     

ياولدى هذه البلاد 

لايحكمها الجند فمكانهم فى الثغور والثكنات 

ولايحكمها الشيوخ....فمكانهم بين الناس وفوق المنابر....  

هذه البلاد يحكمها أهل علم وإختصاص وإخلاص وطهارة يد وقلب يحكموها مراعاة   لله فينا 

...هذا هو الدرس الذى لانريد أن نستوعبه !  *

نلقاكم *

محمد كامل

التعليقات (0)