- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
محمد كريشان يكتب: جوزيب بوريل: «الانقلاب المؤسساتي» في الغابون أم تونس؟!
محمد كريشان يكتب: جوزيب بوريل: «الانقلاب المؤسساتي» في الغابون أم تونس؟!
- 6 سبتمبر 2023, 3:35:32 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
تعبير سياسي نادر استعمله جوزيب بوريل الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي يستحق فعلا التوقف عنده: «الانقلاب المؤسساتي».
الخميس الماضي وفي سياق حديثه عن الانقلاب العسكري في الغابون، قال بوريل إن الانتخابات التي جرت في هذا البلد الافريقي قبل هذا الانقلاب، وفاز بها علي بونغو «شابتها مخالفات عدة» وأن تصويتا مزورا كالذي حدث يمكن اعتباره «انقلابا مؤسساتيا مدنيا».
كان لافتا اللجوء إلى مثل هذا التعبير عندما يتعلق الحدث بانقلاب عسكري واضح المعالم لأنه يوحي بنوع من التفهم للسياق الذي جاء فيه عبر القول إن بانغو كان سبقه بـ«انقلاب مؤسساتي مدني». صحيح أن تزييف نتائج أي انتخابات خطيئة كبرى، إلا أن استعمال «انقلاب مؤسساتي مدني» بدا أوسع بكثير مما جرى هناك، في حين أنها تنطبق تماما على بلد مثل تونس، لكن بوريل لم يقل ذلك قط.
ما قام به الرئيس قيس سعيد بعد 25 يوليو/تموز 2021 متعسفا على الدستور، قبل أن يلغيه لاحقا، وحله كل المؤسسات الدستورية المنتخبة، وتنصيب أخرى هو من قرر منفردا تركيبتها وأعضاءها، ثم كتابة دستور جديد يمنحه صلاحيات فرعونية، هو من صاغه وحده في سابقة لم يعرفها العالم، ثم المضي لاعتماده بعيدا عن إجماع وطني أو تأييد شعبي مقنع، ثم الذهاب إلى انتخابات برلمان جديد بصلاحيات هزيلة شارك فيها فقط عشر الناخبين، والدخول في مواجهة مفتوحة مع القضاة لترهيبهم وإخضاعهم، ثم الزج بعشرات المعارضين في السجون بتهم واهية من بينهم رئيس البرلمان الشرعي، فضلا عن سن قوانين تنسف الحق في التعبير وتسمح بملاحقات قانونية للمعبرين عن آراء معارضة ومنع المئات من السفر دون أدنى وجاهة…وغير ذلك كثير…
إذا لم يكن هذا «انقلابا دستوريا مدنيا» فماذا عساه يكون؟!
الأوروبيون متسامحون مع أي استبداد طالما لا يهدد مصالحهم ويضمن ديمومة التبعية
بوريل، الذي سارع لوصف ما جرى في الغابون قبل الانقلاب من تجاوزات بأنه «انقلاب مؤسساتي مدني» لم يلجأ إلى ذات التوصيف عن تونس حتى بعد مرور عامين، لا هو ولا غيره من الدول الغربية للأمانة، مع أنه صرح الكثير والكثير عن تونس، وبلهجة نقدية أثارت في بعض المرات حفيظة السلطات، نفسها، لكنه لم يقل أبدا ما قاله عن الغابون مع أن سياقه أكثر وجاهة ألف مرة. هناك فرق كبير بين مخالفات، حتى وإن كانت جسيمة في الغابون، وبين ما جاء ليفكك بالكامل أوصال المنظومة الدستورية التي جاءت به أصلا إلى دفة الرئاسة ليفرض أخرى على مزاجه.
ماذا قال بوريل عن تونس طوال أكثر من عامين؟
بعد يومين فقط من 25 يوليو/ تموز 2021، خرج الممثل الأعلى للشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي ليتحدث عن «ضرورة أن يتم احترام الدستور وسيادة القانون والمؤسسات في تونس» وأن «بروكسل وعواصم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تتابع عن كثب التطورات في تونس، وتطالب بإعادة عمل البرلمان وضمان استقرار المؤسسات بشكل عاجل وبدون إبطاء» كما جاء في بيانه وقتها.
فهل حصل أي شيء من هذا؟! طبعا لا.
أكثر من ذلك، بوريل وفي زيارته إلى تونس في سبتمبر /أيلول من نفس العام، أي بعد أقل من شهرين من انقلاب سعيد، اكتفى بالتأكيد على «احترام سيادة تونس» وأهمية «قيادتها نحو الاستقرار المؤسساتي». وأضاف بعد لقائه سعيد أنه نقل إليه «المخاوف الأوروبية بشأن الحفاظ على المكتسبات الديمقراطية في تونس الكفيلة دون غيرها بضمان استقرار وازدهار البلاد ولا شك في أن الممارسة الحرة للسلطة التشريعية واستئناف النشاط البرلماني يدخلان في إطار تلك المكتسبات وينبغي احترامها» وأنه ”لا بد أن تسير البلاد نحو استعادة استقرار المؤسسات مع الحفاظ على هذه الركائز الديمقراطية».
ليس فقط لم يتحقق «استقرار المؤسسات» الذي طالب به بوريل بل ما حدث هو تفجير كامل لهذه المؤسسات التي بنيت بعد 2011 فتناثرت أشلاء مبعثرة. بعد ذلك، انصرف الاهتمام الأوروبي بالدرجة الأولى إلى الوضع الاقتصادي في تونس، والإعراب عن الخوف من «انهيارها» وقضايا الهجرة واللجوء، خاصة بعد ما تعرض له اللاجئون الأفارقة في تونس والزيارات المكوكية لرئيسة الحكومة الإيطالية إليها.
تراجع الحديث الأوروبي عن الديمقراطية في تونس، وأصبح أكثر خجلا، بعد أن نجح سعيد في فرض أمر واقع جديد لم ير الأوروبيون أن التونسيين غاضبون منه، أو خرجوا بكثافة للاحتجاج ضده، فلم يريدوا على ما يبدو أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك وقد يكونون محقين في ذلك. والخلاصة أن الأوروبيين متسامحون مع أي استبداد طالما لا يهدد مصالحهم ويضمن ديمومة التبعية، لكنهم يصرخون إذا حدث أي انقلاب يربك ذلك، لكنهم قادرون في المقابل على تفهم أي انقلاب، أو حتى تدبيره، إذا جاء لينقض على حكم مناهض لهم، والأمثلة كثيرة.
هل نلومهم على ذلك؟ طبعا لا، فاللوم كله على من يقبل بالاستبداد، أو يرى الخلاص في انقلاب عسكري، مع أن كليهما ألعن من الآخر.