- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
محمود الرنتيسي يكتب: تطور المقاومة في الضفة الغربية
محمود الرنتيسي يكتب: تطور المقاومة في الضفة الغربية
- 23 أغسطس 2023, 7:00:28 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
في السنوات الأخيرة، شهدت المقاومة المسلحة الفلسطينية في الضفة الغربية تطورا كبيرا من حيث الكم والنوع. وظهرت أنماط متعددة من المقاومة، متجاوزة تدريجيا الإجراءات الإسرائيلية المتواصلة التي تم اتخاذها لكبح المقاومة في الضفة منذ عام 2002، والتي شهدت فيها دمارا كاملا للبنية التحتية للمقاومة في الضفة الغربية.
ومن المعروف أن حكومة الاحتلال بقيادة أرييل شارون كانت تهدف إلى القضاء على انتفاضة الأقصى من خلال عملية "السور الواقي"، التي طالت مدن الضفة الغربية جمعاء واستمرت من 29 مارس/آذار 2002 حتى 10 مايو/أيار 2002. ومن النتائج المباشرة لتلك العملية بدأت حكومة الاحتلال الإسرائيلي في بناء جدار الفصل العنصري، مما أسفر عن تدمير كبير للبنية التحتية للمقاومة، وأدى إلى تراجع ملحوظ في أعمال المقاومة منذ ذلك التاريخ.
واقع المقاومة المسلحة في الضفة
رغم التحديات والعقبات التي واجهتها، استمرت المقاومة الفلسطينية في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية. رغم أن العديد من محاولاتها قوبلت بالفشل، فقد بدأت تظهر بوادر ارتفاع في وتيرة الأعمال المقاومة بحلول عام 2021.
وعندما نقارن الوضع عام 2023 بالعامين السابقين، نجد أن هذا العام شهد ارتفاعا ملحوظا في أعمال المقاومة والاشتباكات المسلحة في مدن الضفة. وحتى تاريخ كتابة هذه السطور، بلغ عدد الإسرائيليين الذين قُتلوا 34 شخصا، وكان معظمهم من الجنود والمستوطنين. وآخر حادثة قتل وقعت في محيط مستوطنة كريات أربع على أراضي مدينة الخليل في 21 أغسطس/آب، بينما وقعت حادثة قتل أخرى في بلدة حوارة مساء 19 أغسطس/آب.
ومن الجدير بالذكر أن عدد الإسرائيليين الذين قُتلوا عام 2021 بلغ 4 فقط، في حين قتل 31 إسرائيليا خلال عام 2022.
يُمكننا النظر إلى تلك الأماكن التي تجمع المقاومين وتزودهم بالروح القتالية في الضفة الغربية بأنها "واحات المقاومة" أو "منارات المقاومة". هذه الواحات تعمل كمراكز لتجميع القوى وإلهام المزيد من المقاومين في المناطق الأخرى
نشر مركز "معطى" للمعلومات الفلسطينية إحصائيات حول أعمال المقاومة في النصف الأول من عام 2023. ووفق هذه المعلومات، تم تنفيذ 6704 عمليات مقاومة في مدن الضفة الغربية، توزعت كالتالي:
- 841 عملية إطلاق نار.
- 19 عملية طعن.
- 11 عملية دهس.
- عمليتا إطلاق صواريخ.
- 9 عمليات إسقاط طائرات استطلاع.
وعند النظر في التوزيع الجغرافي لهذه العمليات، تأتي مدن نابلس، جنين، والخليل في المقدمة بأعلى وتيرة لعمليات المقاومة، وخصوصا عمليات إطلاق النار. حيث بلغت الأعداد في كل منها على التوالي: 1385 في نابلس، 1034 في جنين، و944 في الخليل، حتى نهاية يونيو/حزيران 2023.
2023 هي الأصعب على المستوطنين من حيث عمليات المقاومة (الجزيرة)
وليس من المستغرب أن نشهد تصاعدا في وتيرة أعمال المقاومة العسكرية في الضفة، خصوصا في ظل مشروع صهيوني يقوده شخصيات متطرفة مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير. ويستهدف هذا المشروع عدة جوانب: المسجد الأقصى من خلال الاقتحامات المستمرة، والأسرى باتخاذ إجراءات قمعية ضدهم، والضفة الغربية عبر توسيع المستوطنات والتحركات المتزايدة للمستوطنين. ويتميز هذا السياق بحدة أكبر من السابق، حيث يرتكز على رؤية تطمح في النهاية إلى تهجير الفلسطينيين من الضفة.
وهذه السياسات تضعف من أمل تحقيق التسوية، خاصة في ظل السياسات التي تبنتها الحكومات الصهيونية السابقة والتي أثرت بالتالي على قوة السلطة الفلسطينية وأجهضت جهودها السابقة التي كانت تهدف إلى الحد من أعمال المقاومة.
وشهدت المقاومة الفلسطينية تنوعا واضحا في أشكالها وطرقها. فقد ظهرت أشكال من العمل المقاوم تتراوح بين العمل الفردي الذاتي، والعمل الفردي الذي يرتبط ببعض الفصائل، إلى الأشكال الجماعية التي تظهر في العلن في عدد من مدن فلسطين.
وفي سياق العمل الفردي، رأينا حالات استمرارية تعتمد على عمليات الطعن أو الدهس لجنود الاحتلال والمستوطنين. وفي بعض الأحيان، يكون إطلاق النار جزءا من هذه العمليات، بعضها يتبناها بعض الفصائل الفلسطينية والبعض الآخر يأتي من منطلق ذاتي بسبب الاستنفار الناجم عن جرائم الاحتلال في الضفة والقدس.
وعلى جانب آخر، استجابت الفصائل الفلسطينية لهذه الوضعية بإنشاء مجموعات مقاومة في مناطق معينة تعتبر ملائمة من الناحية الأمنية لتطوير وتنظيم هذه الأنشطة. ومن أبرز تلك المجموعات نجد كتيبة جنين في مخيم جنين، وعرين الأسود وكتيبة بلاطة في نابلس، بالإضافة إلى كتائب أخرى في مخيمي طولكرم ونور شمس، ومجموعة عقبة جبر في أريحا".
ويُمكننا النظر إلى تلك الأماكن التي تجمع المقاومين وتزودهم بالروح القتالية في الضفة الغربية بأنها "واحات المقاومة" أو "منارات المقاومة". وهذه الواحات تعمل كمراكز لتجميع القوى وإلهام المزيد من المقاومين في المناطق الأخرى.
وإذا استطاعت هذه المراكز أن تظل صامدة وتعمل بفعالية متنسقة بينها، فإنها ستتطور إلى ما يمكن وصفه بـ"إستراتيجية عقد اللؤلؤ". وفي هذه الإستراتيجية، كل وحدة مقاومة (أو "حبة لؤلؤ") تعمل مع الأخرى لتكوين خط صلب ضد الاحتلال، والتوجه نحو انتفاضة أكبر يصعب إيقافها. هذا هو السيناريو الذي يجب أن تستهدفه الفصائل المقاومة في تخطيطها المستقبلي.
المقاومة في تشكيلاتها المختلفة والظروف التي تحيط بها تعتبر موضوعا معقدا وحساسا. لكن في الواقع، وجود هذه المجموعات ذات الطابع الشبه علني يمكن أن يُفسر من خلال الأبعاد التالية:
- الرسالة السياسية: تُظهر هذه المجموعات العسكرية الشبه العلنية وجودا قويا للمقاومة وتقوم بترسيخ الفكرة في عقول الجمهور بأن المقاومة قادرة على التنظيم والتحدي، وتحويل هذه المفاهيم من مجرد كلمات إلى أفعال ملموسة.
- تدريب وتأهيل الشبان: كما ذكرت، فإن وجود هذه المجموعات يوفر فرصا للشبان الراغبين في الانضمام للمقاومة، ليحصلوا على التدريب العسكري والوصول إلى الأسلحة.
- زيادة وتوسيع مساحة الاشتباك: وجود تشكيلات عسكرية منظمة يضيق الخناق على قوات الاحتلال ويحد من حركتهم، مما يجعل المناطق التي توجد فيها هذه المجموعات أماكن ذات خطورة مرتفعة لقوات الاحتلال.
- تعزيز الهوية والوعي الوطني: العروض العسكرية التي تقوم بها هذه المجموعات تكون غالبا وسيلة لتعزيز الهوية والوعي الوطني، وتحفيز المشاعر الوطنية بين الجماهير.
- حماية المجتمعات المحلية: تعمل هذه المجموعات كدروع دفاعية لحماية المخيمات والمدن من أي اعتداءات محتملة.
لكن في الوقت نفسه، قد يستخدم الجانب الآخر هذا الطابع الشبه العلني كذريعة لشن هجمات مكثفة ضد هذه المجموعات. لذا يجب دوما تقييم الفوائد والتكاليف المحتملة لهذا النوع من التنظيم.
إن التفكير في حالة المقاومة، التي وصلت إلى الانعدام في بعض المراحل والأماكن قبل إنشاء هذه الكتائب والتشكيلات المقاومة، يجعل الأمل بانبعاثها من جديد قائما. وحتى لو تم تفكيك هذه الكتائب مؤقتا، فإن البيئة الحاضنة للمقاومة في الضفة الغربية والوضع السياسي لدى الاحتلال -سواء حكومة أو مجتمعا- بالإضافة إلى الواقع السياسي الفلسطيني، تختلف عن السابق. وهذا الوضع يترافق مع دعم وتشجيع للمقاومة، كمخرج طبيعي للمعطيات في معادلة القضية الفلسطينية برمتها. ويُضاف إلى ذلك وجود إرادة ثابتة لدعم العمل المقاوم في الضفة، باستخدام كل الإمكانيات التي تضمن تطوره من داخل الضفة وخارجها.
وما يميز الوضع في الأعوام الأخيرة، خصوصا مقارنة بما بعد عام 2002، هو تصاعد وتيرة المقاومة في الضفة الغربية. تلك المقاومة التي بدأت تستعرض آليات جديدة للعمل، وتستمر في الابتكار لتجاوز كل التحديات. وهذه الظروف تزامنت مع تحقيق المقاومة الفلسطينية لنوع جديد من التنسيق والترابط العضوي بين مختلف المناطق التي يوجد فيها الشعب الفلسطيني ويتمثل في مقاومته. وتأتي معركة "سيف القدس" في عام 2021 كمثال واضح على ذلك. فأي تصعيد من الاحتلال في الضفة الغربية الآن يأتي مع تداعيات وحسابات جديدة، مما يضفي زخما على استمرارية وتطور العمل المقاوم، بالإضافة إلى الحفاظ عليه.
ويُظهر التوحد الذي شهدته مختلف الساحات خلال عدة تصعيدات في الأعوام الأخيرة -سواء كان بين غزة والضفة، أو بين الضفة ولبنان وسوريا- شدة الرغبة في تحقيق توازن في مقاومة الضفة الغربية. ويتضح أن التنسيق والتعاون بين هذه الساحات أصبح أمرا حاسما، سواء كان ذلك عن طريق المشاركة المباشرة أو عن طريق الامتناع. فالوعي المقاوم الحالي يشير إلى أن الاحتلال قد يسعى في بعض الأوقات إلى دفع بعض المناطق، مثل غزة، نحو حروب في فترات زمنية قصيرة، بهدف كبح جماح الزخم المتنامي في الضفة الغربية.
الاغتيالات وعمليات الاقتحام
وفي هذا الإطار، وسعيا لضرب البنية التحتية للمقاومة وتجريدها من قواعدها، شرعت حكومة الاحتلال في تنفيذ سلسلة من الاقتحامات الموجهة وعمليات الاغتيال عبر استيفاء كمائن محكمة. ومن أبرز الأحداث التي تمثل هذه الإستراتيجية ما تعرضت له كوادر "عرين الأسود" في نابلس، وكتيبة جنين، مثل تفجير دراجة نارية كان يقودها الشهيد تامر الكيلاني في البلدة القديمة بنابلس، والذي سبقه اغتيال 3 من المقاومين في منطقة جبع بمحافظة جنين.
المقاومة الفلسطينية قد أعادت بنجاح إحياء روح النضال في الضفة الغربية؛ الأرض الرئيسية في تاريخ فلسطين ومستقبل الصراع.
وفي أبريل/نيسان 2022، حاول الاحتلال تنفيذ عملية "كاسر الأمواج" في نابلس، حيث استعان بأكثر من نصف قوات جيشه الموجودة في الضفة الغربية. ولكن، ما تفاجأ به أنه لم يتمكن من القضاء على الظاهرة المقاومة. بل على العكس، زادت العمليات المقاومة بشكل واضح بعد تلك العملية. وفي يوليو/تموز 2023، واصل الاحتلال هجمته بشن هجوم باستخدام لواء كامل على مخيم جنين. ومع ذلك، فقد فشل الاحتلال في تحقيق أهدافه. رغم حرصه على التقاط صور تُظهر أي إنجاز، مثل تلك التي التقطها عند بوابة مخيم جنين، إلا أنه تكبد خسائر حتى لحظة المغادرة. وبعد هذا الهجوم، استأنفت العمليات المقاومة من جنين نشاطها. وأكدت تصريحات جيش الاحتلال أن الهجوم على المقاومة في جنين قد يستمر لأشهر، مما يشير مجددا إلى فشل الاحتلال في تحقيق أهدافه.
وعلى غرار جنين، وفي حين تشير بعض التقارير عن تراجع حالة عرين الأسود؛ يمكن أن ننقل هنا ما شهد به تقرير لمركز هيروشالمي الإسرائيلي أن "الجيش الإسرائيلي والشاباك وجّها ضربة قوية لمجموعة عرين الأسود لكنهما لم يتمكنا من وقف الظاهرة؛ إذ لا يزال عمل المجموعة متواصلا ضد الجيش والمستوطنين".
وفي السياق الأوسع باتت المقاومة في الضفة الغربية قادرة على توجيه ضربات شبه يومية لجنود الاحتلال ومستوطنيه ترد فيها على الاعتداءات، وتجعل تكلفتها ماثلة أمامهم من جهة، وهذا رأيناه بعد الاعتداء على حوارة وبعد اقتحامات المسجد الأقصى، ومن جهة أخرى تضرب المقاومة أصل المشروع الصهيوني الاستيطاني في الضفة الغربية من خلال الاستهداف المكثف للمستوطنين في كافة أرجائها.
ويتضح أن إستراتيجية الضربات والكمائن التي تتبعها المقاومة في الضفة الغربية ستمثل خط دفاع رئيسي في المرحلة المقبلة، خاصة مع توسع نطاق الاستهداف بفضل التوسع الاستيطاني في جميع مدن الضفة الغربية. إضافة إلى ذلك، يظهر تكتيك الكمائن نجاحا وفعالية ملحوظة نظرا لصعوبة استهدافه من قبل العدو. وهذا يبرهن مرة أخرى على مرونة المقاومة وقدرتها على التكيف مع الظروف المختلفة، مع الحفاظ على تأسيس قواعد المقاومة داخل مراكز المخيمات والمدن.
إن المقاومة الفلسطينية قد أعادت بنجاح إحياء روح النضال في الضفة الغربية؛ الأرض الرئيسية في تاريخ فلسطين ومستقبل الصراع. وهذا الانبعاث يعكس الاتصال الحي بتراث المقاومة المسلحة، الذي يظل جزءا لا يتجزأ من دماء أي شعب تحت الاحتلال. حتى إذا نجح العدو في التصدي لحركة مقاومة معينة، فإن نشوء أخرى في مكان مختلف هو تتويج طبيعي لجهود المقاومة المستمرة.
وإن البذور التي زُرعت في أرض المقاومة لم تنمُ فقط، بل أصبحت أشجارا مثمرة. ويشير الواقع إلى مدى الاستعداد والرغبة بين شباب فلسطين في الضفة الغربية للانضمام، حيث يتجه الكثيرون نحو تكوين خلايا مقاومة في جميع أنحاء الضفة.
وعلى الجانب الآخر هناك معركة غير مرئية تجري في ظلال هذا الزخم المتصاعد، وقد باتت تتضح المؤشرات عليها رويدا رويدا، ومنها معركة التصنيع العسكري الذي باتت تتكشف منتجاته في العبوات الناسفة النوعية التي استخدمت في جنين وصواريخ العياش التي أطلقت مؤخرا تتحسن تدريجيا، وبعض مخارط التصنيع التي تم كشفها من قبل الاحتلال. وعلى الجانب الآخر من الأمر إسقاط المسيّرات؛ حيث أسقطت أكثر من 10 طائرات استطلاع منذ بداية 2023.
في حين تتواصل عمليات تهريب الأسلحة إلى الضفة في ازدياد، فقد أشارت مصادر الاحتلال إلى ضبط 800 قطعة سلاح في النصف الأول من عام 2023، مقارنةً بألف قطعة تم ضبطها خلال عام 2022. وبناءً على ذلك، إذا استمر دخول الأسلحة النوعية وتنوع أشكال المقاومة التي تتمتع بتأثير كبير ومرونة عالية، فإن هذا سيتجاوز إجراءات الاحتلال المضادة في منطقة إستراتيجية كالضفة الغربية، وسيضع الاحتلال في مأزق كبير.
وقد تظهر آفاق جديدة للقضية الفلسطينية في ظل ظروف دولية وإقليمية مواتية. وفي هذا السياق، فإن الاحتلال الإسرائيلي يدرك الخطر الإستراتيجي الذي يتهدده جراء هذا التطور، ولذلك من المتوقع أن يستمر في عملياته ومناوراته، وهذا بالضبط ما قد يؤدي إلى المزيد من الأفعال المقاومة، وهذه هي معضلة كل نظام احتلال عبر التاريخ.