- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
مدى الفاتح يكتب: النيجر: حرب جديدة في الأفق
مدى الفاتح يكتب: النيجر: حرب جديدة في الأفق
- 15 أغسطس 2023, 6:35:40 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
تنفس المراقبون الصعداء بداية الأسبوع الماضي، بعد أن انتهت المهلة، التي منحتها المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا «إيكواس»، للمجلس العسكري في النيجر ورئيسه عبد الرحمن تشياني من أجل إعادة السلطة للرئيس المعزول محمد بازوم. لم يعلن وقتها عن حرب بسبب الاختلاف بين الأعضاء والرفض الداخلي، الذي واجهه مقترح التدخل العسكري في عدد من دول الجوار، وعلى رأسها نيجيريا. بعد رفض آخر لبرلمانات المنطقة بدت مسألة التدخل العسكري صعبة ومعقدة، وكأنه لم يعد بالإمكان إلا اللجوء للعقوبات الاقتصادية، وخلق نوع من الخنق والحصار المتزامن مع إجراءات مثل قطع الكهرباء الواردة من نيجيريا.
لا شك في أن محاولات الخنق الاقتصادي مؤلمة، خاصة بالنسبة لبلد حبيس كالنيجر، فإذا كان بإمكان السكان أن يصبروا على انعدام الكهرباء واختفاء السيولة النقدية، فإنه سيكون من الصعب عليهم احتمال الزيادة في أسعار السلع، التي كانت بالأساس غالية قياساً إلى مداخيلهم. هذا الواقع، على ما فيه من معاناة، يظل أقل ضرراً من المواجهة الشاملة، التي كان يمكن لآثارها أن تمتد إلى ما بعد الجغرافيا النيجرية. إذا أخذنا في الاعتبار وجود اشتعالات سياسية في أكثر من بلد في حزام الساحل، الذي يمتد من البحر الأحمر إلى أقصى الغرب الافريقي، فإن حرباً جديدة تعني أن تغرق نواحي كثيرة من القارة في ظلام الصراعات القبلية والمواجهات وفوضى التسلح.
فرنسا تمارس ضغوطا على دول المجموعة الافريقية للقيام بما يلزم «لإعادة الأمور إلى نصابها» في البلد، الذي كان يمنحها الكثير من الثروات بامتيازات خاصة
لتقليل العداء مع «المجتمع الدولي» بادرت السلطة الجديدة لتعيين رئيس وزراء مدني وحكومة، كما تواصلت محاولاتها لإقناع الرئيس بازوم، الذي ما تزال القوى الدولية متمسكة به، بالاستقالة، في الوقت ذاته نقل عن المجلس الحاكم انفتاحه على جميع مبادرات الحوار والحل الدبلوماسي. فرنسا أيضاً بدت وكأنها استسلمت للهزيمة، فبدأ الحديث عن سحب جنودها وإجلاء مواطنيها وتجفيف قواعدها العسكرية من أجل نقلها لتشاد المجاورة، التي توجد فيها بالفعل تسعة معسكرات فرنسية. في الخميس الماضي، الموافق العاشر من أغسطس/آب، حدث تطور مهم، حيث أمر زعماء تكتل «إيكواس» لجنة رؤساء الأركان في دول المجموعة، بتفعيل «القوة الاحتياطية» بهدف استعادة النظام الدستوري في النيجر، كان يفترض أن يتلو ذلك الاجتماع اجتماع آخر لقادة الجيوش، وهو الاجتماع، الذي تأجل إلى أجل غير مسمى لـ»أسباب فنية». مع حديث البعض عن ضرورة إعطاء فرصة للعمل الدبلوماسي، إلا أن الأكيد أنه لم يتم استبعاد الخيار العسكري بشكل كامل. قد يكون على رأس الجهات الضاغطة في اتجاه العسكرة فرنسا، التي تمارس ضغوطا على دول المجموعة من أجل القيام بما يلزم «لإعادة الأمور إلى نصابها» في البلد، الذي كان يمنحها الكثير من الثروات بامتيازات خاصة. الدور الفرنسي مهم لفهم مسار الأحداث، بالنظر إلى العلاقة القوية، التي تربط المستعمر القديم مع أكثر من بلد في المنطقة، أو بالأحرى بأكثر من زعيم. في الواقع، فإن هذا التحول النيجري المفعم بالعداء للمستعمر السابق، جاء في وقت صعب بالنسبة لفرنسا، ليس فقط بسبب تزامن ذلك مع فقدانها لمكتسباتها في دول افريقية كثيرة على رأسها مالي وبوركينافاسو المجاورتين، ولكن بسبب ما تعانيه فرنسا من ضائقة اقتصادية ومن تعقيدات بسبب الأزمة الأوكرانية، وما جرته على البلاد من تحديات في موارد الطاقة، وصلت حد انقطاع الكهرباء والإجبار على ترشيدها بشكل غير مسبوق. فرنسا، التي كانت تتحكم في إنتاج وتعدين اليورانيوم في النيجر (يُمثّل 7% من الإنتاج العالمي)، لم تكن تكتفي بدفع الفتات مقابل ذلك، وإنما كانت تظهر لامبالاة واضحة تجاه السكان والأهالي المتضررين من عمليات التنقيب. كانت المفارقة هي أن المعدن النيجري النادر يضيء ما معدله واحدة من كُل ثلاثة مصابيح كهرباء في فرنسا، في الوقت الذي تعيش فيه أنحاء واسعة من مدن وقرى النيجر في الظلام. هذا الافتقار للعدالة والتعامل، الذي لا يخلو من تحقير، مع كل شعوب المستعمرات السابقة، تسبب في موجة العداء الشعبي الافريقي الحالية لكل ما هو فرنسي، ليس في النيجر وحدها، ولكن في مساحات واسعة من الفضاء «الفرانكفوني». يظهر ذلك، على سبيل المثال، في الترحيب، الذي قابل به شعب بوركينافاسو قرارات إبراهيم تراوري الثورية الخاصة بإخراج القوات الفرنسية، وبوقف اتفاقية التعاون الأمني التاريخية وبطرد السفير الفرنسي، إضافة إلى عشرات القرارات الأخرى، التي كان الغرض منها استعادة السيادة الوطنية، والتي وصلت حد إلغاء الازدواج الضريبي وتأميم الشركات الكبرى، التي كانت مسؤولة عن التعدين والتنقيب عن المعادن وبيعها.
من المتوقع أن تقوم النيجر، التي تسير على خطى بوركينافاسو، بإجراءات مماثلة، من هنا نفهم التصريحات الفرنسية، التي تعتبر أن استقرار السلطة في يد الحكام الحاليين يعني خروجهم النهائي من البلاد. الخيارات لمنع ذلك تبدو ضعيفة، فعلى ما يبدو لا تكترث القيادة الحالية كثيراً للتهديد، بل على العكس تقدم العقوبات الفرنسية والغربية دوافع أخلاقية جديدة لها، كما تزيد من التفاف الناس، الذين يعتبر كثير منهم أن المعركة تتجاوز إطار السؤال عن الشرعية لتصبح أقرب لمعركة كرامة. في مقابل الدعاية الغربية، التي تحاول التبرير والتمهيد للتدخل العسكري بدعوى الحفاظ على «المسار الديمقراطي»، تظهر وجهة نظر أخرى مقابلة تصف الغربيين بأنهم أصل الشرور وسبب المآسي الافريقية. يرى أصحاب هذا الرأي أنه، وبخلاف مخطط الحرب، الذي لا يستطيع أحد ضمان نجاحه إن حدث، فإنه لا يستبعد أن تقوم القوى الغربية بمحاولات لخلق الفوضى الداخلية عبر عمليات اغتيال، أو عبر الوقيعة بين قادة المجلس، أو حتى عبر تشجيع حرب أهلية أو انفصالية، بل إن نستورين سنغاري السياسية والوزيرة البوركينية السابقة، مضت للتحذير من احتمال أن تغتال فرنسا محمد بازوم لضمان أن لا يسرب الرجل معلومات أمنية خاصة بتورط فرنسا أو تواطئها إزاء عمليات إرهابية. لسوء حظ «المعسكر الفرنسي»، فإن وجهة النظر الرافضة للحرب على النيجر باتت تكتسب ملايين المناصرين من أبناء المنطقة، الذين لا يرون في الأمر إلا حرباً على شعب شقيق بغرض حماية المصالح الاستعمارية. يتساءل أولئك الرافضون عن سر ذلك الاهتمام المكثف والغريب بالديمقراطية النيجرية، لدرجة التنادي لتدخل عسكري مكلف من أجل إنقاذها، فالجميع يعلم أن «انقلاب النيجر» ليس الانقلاب الأول في منطقة شهدت عشرات الانقلابات، التي مرّ أغلبها بلا ضجيج. مع اختلاف في تفاصيل السيناريو، إلا أن التدخل الأممي الذي يخطط له في النيجر، يشبه إلى حد كبير التدخل العسكري الفوضوي في ليبيا.. الفارق هنا هو أن الدول الكبرى تحاول هذه المرة ألا تكون في الواجهة، كما كانت إبان تدخل حلف «الناتو»، وأن تكتفي بتحريك خيوط اللعبة والتحكم فيها عن بعد عبر شركائها المحليين، وعبر إظهار المعركة وكأنها مجرد معركة افريقية. المشكلة هي أن هذه الحيلة، التي يفترض أن تعفي المحركين الأساسيين من المسؤولية الأخلاقية عن أي إخفاقات أو مآسٍ متوقعة، باتت مكشوفة، فحرب معقدة مثل هذه ستحتاج بالتأكيد لدعم لوجستي ومالي يصعب على دول المجموعة توفيره من دون التعاون مع دول مثل فرنسا أو الولايات المتحدة. نتذكر هنا أن الافتقار للتمويل ظل على الدوام عائقاً في سبيل تفعيل «القوة الاحتياطية» لـ»إيكواس».