- ℃ 11 تركيا
- 4 نوفمبر 2024
مدى الفاتح يكتب: على هامش الحدث السوداني
مدى الفاتح يكتب: على هامش الحدث السوداني
- 25 أبريل 2023, 2:44:47 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
حينما أعلنت القيادة السودانية بدء معركة «ربما تأخذ بعض الوقت» لصد محاولة ما كان يسمى «قوات الدعم السريع» السيطرة على الخرطوم، حبس الجميع أنفاسهم خشية أن يكون في ذلك تكرار لتجربة الحربين المتطاولتين في اليمن وأوكرانيا، اللتين تحققت فيهما المقولة التي تقول، من السهلعليك أن تحدد بداية الحرب، ولكن من الصعب أن تتحكم في نهايتها، مع وجود تشابه يعود لطموح قائد ميليشيا في الوصول لسدة الحكم، إلا أن الوضع في السودان يظل مختلفاً بشكل كبير عن الحالة اليمنية، فـ»الدعم السريع»، الذي كان جزءاً من المؤسسة العسكرية، لا يمكن مقارنته بـ»جماعة الحوثي»، التي نشأت منذ البداية كجماعة معارضة للسلطة المركزية، التي يعود تاريخ أعمالها المتحدية للنظام السياسي لعام 2004، إبان أحداث مواجهاتها الأولى ضد السلطة.
من جهة أخرى تبدو المقارنة مع الحرب الأوكرانية بعيدة، بسبب أنها لم تكن حرب تمرد داخلي، وإنما كانت حرباً «دولية»، فبغض النظر عن رجاحة وموضوعية المبررات التي وضعتها روسيا لتشرح أنها كانت مجبرة على تلك العملية، لأسباب تتعلق بأمنها القومي، إلا أن الوصف المجرد لتلك العملية كان التدخل العسكري في مساحة دولة أخرى. هذا التوصيف كان يشرح استماتة الجيش الأوكراني، الذي كان يرى أنه في حالة دفاع، وكان يستند إلى دعم سياسي وتعاطف دولي غير مسبوق. مقارنة مع هذين المثالين المعاصرين، وأي مثال آخر مشابه تبدو حرب المتمردين السودانيين الأخيرة مختلفة وفريدة، بل تبدو الحرب الحالية مختلفة حتى عن الصراعات والتمردات التي ظل السودان يشهدها منذ خمسينيات القرن الماضي. أوجه الاختلاف عن حروب التمردات الكلاسيكية كثيرة، فبجانب الافتقار إلى العقيدة، التي لا تتجاوز هذه المرة الرغبة في الانفراد بالحكم، فإن هذه الحرب لم تكن حرباً نحو الخرطوم، أي حرباً هدفها الوصول للعاصمة، وإنما هي حرب على الخرطوم وفيها، بهدف إحكام السيطرة عليها وتطويق الجيش السوداني بين جنباتها، بسبب أن صاحبها، وعلى خلاف مع حركات دارفور أو متمردي جنوب السودان السابقين، كان على هرم السلطة بالفعل.
الميليشيا، التي أسسها حمدان دقلو (حميدتي) التي أخذت لاحقاً اسم «قوات الدعم السريع»، اكتسبت صفة دستورية، جعلتها تمثل أحد أضلاع المؤسسة العسكرية الرسمية
هذا يجعل تشبيه الحدث السوداني بالحرب الإثيوبية ضد «جبهة تغراي» أيضاً في غير محله، فصحيح أن الجبهة كانت في الحكم لسنوات طويلة، وأنها ما تزال تتمتع بنفوذ سياسي وقوة عسكرية، إلا أنها تحولت إبان اندلاع الأزمة لمجرد قوة إقليمية داخلية، حتى إن طموحها لم يكن يتجاوز، قبل أن تبدأ مغامرة تمرد واسعة ومكلفة، المطالبة بالاعتراف بنتيجة الانتخابات التي فازت بها في مناطقها. في المقابل فإن الميليشيا، التي أسسها حمدان دقلو (حميدتي) التي أخذت لاحقاً اسم «قوات الدعم السريع»، لم تلبث أن اكتسبت صفة دستورية، جعلتها تمثل أحد أضلاع المؤسسة العسكرية الرسمية. هذه الصفة الجديدة ساهمت في إخراج هذه القوات من مناطقها النائية السابقة وإعادة توزيعها بشكل استراتيجي في مرافق ومنافذ الدولة الحساسة كافة. ربما أوحى ذلك لقائد القوات بأن عملية تطويق الجيش وإبعاد قياداته الحالية هي عمل لا يحتاج من أجل تحقيقه سوى لترتيبات لوجستية بسيطة، من قبيل التأكد من تحييد قطاع الطيران، ومن حسن توزيع الطواقم العسكرية والأمنية التابعة للدعم السريع، وهو الأمر الذي ثبت من الناحية الواقعية أنه ليس بتلك السهولة. كثيراً ما يلام الرئيس المعزول عمر البشير على تأسيس هذه القوات الموازية، وهو لوم في محله، وإن كان أريد به القفز على سؤال مهم وأساسي وهو: لماذا استمر دقلو في التوسع وكسب النفوذ بعد تغيير 2019، الذي كان أحد أهم شعاراته هو تفكيك مؤسسات البشير؟ لماذا تضاعف عدد قواته، ومنح حصانة من المحاسبة ومن التساؤل حول مصادر تمويله، وعن علاقاته الخارجية المريبة في وقت كانت تسلط فيه الأضواء على من هم أقل منه قوة ومنعة في السياسة والاقتصاد؟ إجابة هذا السؤال تفك كثيراً من طلاسم السياسة السودانية، فهي لا تفسر فقط سر النفوذ الكبير الذي تمتع به الرجل خلال الفترة الانتقالية، ولكنها تفسر أيضاً سبب رهان كثير من الأحزاب الليبرالية عليه، لدرجة جعلتها توصف بالذراع السياسي للميليشيا، وهو ما اتضح أكثر في الأزمة الحالية وفي المواقف الرمادية لبعض السياسيين منها. في زمن البشير كان دور قوات الدعم السريع محصوراً، كما يظهر من اسمه، في كونه قوة للتدخل السريع لحسم التمردات الحركية والقبلية، وللقيام بأعمال أخرى قد لا يكون الجيش النظامي مؤهلاً لها، إما لطبيعته التراتبية وقرارات تحركه البطيئة نسبياً، بحكم طريقة عمله، أو لأنها أعمال قد تتردد قيادات الجيش حول المضي فيها. كانت تلك القوة آنذاك مضغوطة الزمان والمكان ولم يكن مطلوباً من قائدها سوى تجنيد أفراد مستعدين للتدخل حين الحاجة بأسرع وقت ممكن. ما حدث بعد «الثورة» كان غريباً حقاً، ليس فقط لأن قوات الدعم السريع لم تفكَّك، على الرغم من علاقة قائدها الوثيقة بالرئيس المعزول، لدرجة دعمه للترشح من جديد في وقت كان مقربون إليه ينصحونه بالتنحي، وإنما لأن قائدها، الذي لم يتخرج من أي مدرسة عسكرية، أصبح فجأة ضمن طاقم كبار القادة العسكريين، بل أصبح نائب المجلس السيادي والرجل الثاني بعد قائد الجيش على صعيدي المكون العسكري والنظام السياسي المتشكل. الحقيقة هي أن دقلو لم يفرض نفسه وأن قبوله كنائب للرئيس في مرتبة أعلى من رئيس الوزراء المدني، إضافة إلى مناصب أخرى رفيعه حازها كرئاسة الآلية الاقتصادية في بلد لا يفتقر إلى الخبراء، كل ذلك كان يتم بتوافق ورضا النخبة التي سيطرت على المجال السياسي منذ بداية الانتقال، وفق نظرية حاول أصحابها إقناع الناشطين والفاعلين السياسيين بها وهي أن الرجل أقرب للمدنيين، الذين كانت تمثلهم «قوى الحرية والتغيير»، وأنه يمكن أن يكون نصيراً يعتمد عليه في معركة مواجهة أنصار البشير والإسلاميين عموماً في داخل الجيش وخارجه، وهو الخطاب الذي أعاد دقلو التركيز عليه بعد تحركه الأخير.
مضى المتحمسون لفكرة الجيش الموازي إلى أبعد من ذلك، وهو أن هذه القوات، ذات الطبيعة القبلية والميليشياوية، يمكن أن تكون بديلًا صالحاً للجيش السوداني في إطار عملية التفكيك وإعادة الهيكلة المرجوة، بمعنى أن العقيدة القبلية واحتراف الارتزاق ليس شيئاً سالباً، بل على العكس، هو شيء يعني أن هناك قوالب فارغة وصالحة للتعبئة بعقائد جديدة معاكسة لعقيدة جيش البشير الإسلامي. وفق هذا التصور يمكن أن نفهم التضييق والضغوطات، التي كان يعاني منها الجيش السوداني، والتي كانت على رأسها محاولة الاستيلاء على الشركات التابعة له وإفقار صناعاته الدفاعية، في الوقت الذي يأخذ فيه «الجيش الموازي» حصانة من المساءلة فيتضخم بشكل سريع ومريب، حتى يصل المرحلة السريالية الحالية، وهي التحدث ككيان ندٍ للقوات المسلحة وكأنه يقول إنه يجب عليها هي أن تندمج فيه. في الأيام الأخيرة زادت فوضى الأحداث والمواقف من قبيل بدء «إسلامويين»، كان من المتوقع دعمهم للجيش، إعلان مساندتهم لقائد الدعم السريع بشكل أكثر صراحة وجرأة من غيرهم من اليساريين المتهمين بموالاته، والذين كانوا يكتفون بإعلان الحياد أو بدعوة «طرفي الصراع» لإيقاف الحرب.