- ℃ 11 تركيا
- 4 نوفمبر 2024
أحمد خالد توفيق : أسطورة ملك الذباب
أحمد خالد توفيق : أسطورة ملك الذباب
- 10 أبريل 2021, 3:25:48 ص
- 951
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
كانا فلاحين بسيطين .. الأول هو ( شعبان التلاوي ) .. شاب في التاسعة عشرة من عمره من المنوفية .. ومن الواضح أنه قوي الجسد أو كان كذلك قبل أن يفتك الجوع بتكوينه العضلي ، ويبدو أن الفئران الصحراوية ليست مغذية جداً ..
الآخر هو (عيد أبو فراج ) من ( الدلنجات ) .. وصحته سيئة حقاً ، لأنه كان يعاني منذ فترة من لعنة الفلاح المصري التي تطارده منذ عهد الفراعنة .. البلهارسيا التي جعلت طحاله يتضخم وبطنة يتضخم ، وهو ما كان جسده قادراً على مقاومته في البداية ، إلى حد أن الطبيب لم ير ما يمنعه من الاشتراك في الحملة .. لكنه ما إن جاء إلى هذا البلد الكريه ، وجرب الجوع وأمراضاً غامضة شتی ، حتى فقد جسده السيطرة وأعلنت البلهارسيا أنها الرئيس هنا ..
کان (عيد ) متزوجاً .. وكان لديه طفلان لا يعرف شيئاً عنهما منذ عامين .. لكنه كان يعرف شيئاً واحداً على وجه اليقين : أنهما قد صارا يتيمين بالفعل .. ما بقي هو بعض الإضافات التي لن تغير شيئاً ولن تحدث تأثيراً يُذكر ..
واعتصر بندقيته في مرارة ..
كانت في حزامه بعض طلقات كما أن ( السونکی ) کان بحالة طيبة .. لكنه لم كن ينوي القتال أكثر .. کان متعباً ولا يريد إلا أن يترك ليموت ..
أما ( شعبان ) فكانت طلقاته قد نفدت منذ زمن ، لكنه كان يحتفظ بالبندقية لاستعمالها کرمح ، كما أن منظرها كان يثير ذعر الفلاحين ..
كانت الشمس تتوسط السماء ، والذباب يطن في كل موضع من هذه الخرائب ..
هذا هرم .. هرم عتيق تغطى الرمال أكثره، وهما لم يكونا يعرفان الهرم في مصر لأن أحدهما لم يغادر قريته قط ، ولم يكونا يعرفان القراءة .. لهذا بدا لهما المشهد غريباً .. لكن نماذج العمران في كل مكان من حولهما كانت تقول إن حضارة غريبة قامت هنا منذ زمن .. ( مساخيط ) .. لا بد أن المكان يعج بهم ..
وقال ( عید ) لصاحبه وهو ينظر حوله :
- « الناحية الأخرى من هذا .. يمكننا أن نجلس هناك .. ربما نجد بعض الظل كذلك .. »
نظر له ( شعبان ) بوجه كالح منهك .. حاول أن يتكلم فلم يستطع لأن لسانه كان قد جف تماماً ..
وهكذا مشى الرجلان عبر الرمال الحارقة بأقدام لم تعد فيها أحذية .. لقد سرقوا الأحذية منهما منذ أسبوع، ولو حاولا استردادها لمزقهما الفلاحون ..
هنا نتوقف کی نضع بعض النقاط على الحروف ..
نحن في المكسيك .. في العام 1867 .. لابد أنكم خمنتم هذا حين رأيتم شكل الهرم وشكل الخرائب القديمة .. الأهرام التي تبدو منحدرة من ناحية بينما هناك درجات سلم من الناحية الأخرى .. نعم .. هذه هي المكسيك ونحن في قلب حضارة المايا التي سادت البلاد من العام 900 م حتى القرن السادس عشر حين بدأ الأسبان يهلون حاملين الكثير من المرح لسكان هذه البلاد الأصليين ...
وكما نعرف لم يعد المايا في يومنا هذا إلا مجرد فلاحين بسطاء لم يتخلوا عن كثير من عاداتهم ..
المنطقة التي نحن فيها تدعي شبه جزيرة ( نيوكاتين ) وهي من المواضع التي ترك فيها المايا آثارهم بقوة .. ومن هذه الأماكن ( بالينك ) و ( أوكسمال ) و ( تيكان ) ..
ولكي نفهم - تفاصيل ما يحدث أمامنا، لا بد من أن نستعين بشيء من التاريخ ..
التاريخ المكسيكي معقد جداً، وبالطبع لا يمكن أن نقضي الوقت في دراسته .. كل رقعة في الأرض لها كتب تاريخ وأبطال ومعاهدات ، بحيث يصير من المستحيل أن تلم بهذا كله .. إن ما يلزمنا من التاريخ المكسيكي هو بالضبط ما تريده لفهم ما يحدث هنا ..
على كل حال يمكن تلخيص التاريخ المكسيكي كله على أنه انقلابات فثورات ، فانقلابات على الثورات ..
ثم ثورات تطيح بالانقلابات .. مع صراع حدودی مزمن مع الولايات المتحدة تنجح فيه الولايات المتحدة - كالعادة - في انتزاع قطعة من شمال
المكسيك في كل مرة .. وهكذا ولدت ( أريزونا ) و ( تكساس ) و ( كولورادو ) و ( نيفادا ) و ( يوتاه )، بينما تحول جنوب المكسيك إلى شماله بمعجزة ما!
في تلك الأعوام برز ثائر مكسيكی مهم اسمه ( بابنو خواريز ) .. تذكر الاسم .. فهو من الأسماء التي قد تقابلها من حين لآخر في قراءاتك .. وقد تولى الحكم لفترة إلى أن دخلت الجيوش الفرنسية التي كان يحكمها ( نابليون الثالث ) ( مكسيكو سيتي ) عام 1862 .. ففر الرجل وأتباعه وقامت الحكومة التي تولت بتنصيب ( ماکسیمیلیان ) امبراطوراً للمكسيك ..
ما دخل هذا بقصتنا ؟ يا أخي اصبر قليلاً.. كيف أكمل قصتي وأكلمك في الوقت ذاته ؟
ظل الرجل يحكم مع زوجته قوية الشخصية ( کارلوتا ) لمدة عام ، ثم قررت فرنسا أن تخرج بقواتها من البلاد.. هكذا وجد ( ماکسيليان ) نفسه في ورطة.. كيف يظل محتفظاً بحكمه وهو الآن صار في وضع الحكومة العميلة بالنسبة للثوار ؟
كان عليه أن يجد جنوداً بأي شكل ومن أي مكان ..
هنا ينبری ( سعید ) خدیوی مصر بعرض خدماته ، على أساس أن الملوك يجب أن يتكاتفوا في كل مكان .. وهكذا يحكي لنا التاريخ قصة عجيبة عن الفلاحين المصريين الذين لا يقل عددهم عن عشرة آلاف ، والذين أرسلهم الخديوى ليحاربوا من أجل تثبيت حكم الإمبراطور النمساوی ( ماکسیمیلیان ) ضد أعدائه الثوار !!
كان الفلاح المصري متاحاً دائماً عبر التاريخ، ولا يكلف شيئاً ولا يسأل عن مصيره ، لأن الألوف هلكوا في حفر القناة في ذلك الزمن، وهم عاجزون عن الاحتجاج .. والآن يرغم الفلاح المصري على الذهاب إلى المكسيك للدفاع عن الحكومة المحافظة على سبيل المجاملة لا أكثر ! طبعاً بلا أجر ولا حمد ولا منة ...
وهنا يُمكن أن نفهم أن ( شعبان ) و ( عيد ) كانا من هؤلاء التعساء الذين وجدوا أنفسهم في حرب قاسية في بلد غريب ..