- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
نزار بولحية يكتب: ماذا يخفي التهديد الجزائري لفرنسا؟
نزار بولحية يكتب: ماذا يخفي التهديد الجزائري لفرنسا؟
- 21 يونيو 2023, 4:49:56 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
وما وجه الغرابة فيه؟ أليس أضعف واجب تؤديه الجزائر لشهدائها؟ قد يردد البعض.. فمن ينسى ما ارتكبته الدولة الفرنسية من مظالم وجرائم مريعة في حق بلد المليون ونصف المليون شهيد؟ إن الظروف والسياقات حتما تغيرت، إلا أنها ما زالت تتقاطع وبلا أدنى شك مثلما قد يضيفون، فالإصرار الفرنسي القديم الجديد على فرض الشروط يقابله التمسك الجزائري الجديد القديم بالرمزيات، والكلمة الفصل هي لموازين القوى، فهل يقدر الإليزيه مثلا على التحرك بحزم لوقف التهديد والوعيد ضده في إحدى فقرات النشيد الوطني الجزائري، بعد أن فشل في وقت سابق في دفع القادة الجزائريين إلى إلغائه وحذفه؟ ليس مؤكدا ذلك.
لكن هل قام الرئيس الجزائري بعمل عدائي ضد فرنسا يستدعي كل تلك العاصفة التي ثارت في وسائل الإعلام الباريسية؟ قطعا لا قد يجيب الجزائريون، فما فعله تبون هو أنه ذكّر فقط بإجراء عادي معمول به في كل دول العالم وهو، تأدية النشيد الرسمي بشكل كامل وغير مجتزأ، لكن ما الذي قامت به في المقابل وزيرة الخارجية الفرنسية حتى تنقل تلك العاصفة إلى الاتجاه المعاكس؟ لقد علقت في حدود اللياقة على وعيد جزائري لبلادها لم يعد «مناسبا للظرف الحالي» مثلما اعتبرته كما قد يرد الفرنسيون. والنتيجة هي أن هناك غضبا متصاعدا من هذا الجانب ومن ذاك تقف وراءه عدة أسباب، قد لا يبرز من بينها سوى واحد فحسب وهو المقطع الرابع من نشيد طويل كتبه الشاعر مفدي زكريا عام 1956.
وبالنسبة لكثيرين فإن ذلك قد يعني العودة إلى نقطة الصفر، بعد أن بدا قبل شهور فقط أن البلدين قد تركا الأزمة خلفهما، لكن ذلك سيمثل منعرجا حاسما بالنسبة لهما؟ وهل يعني أن بعض الأضواء الحمر، بدأت بالاشتعال بين العاصمتين الجزائرية والفرنسية؟ إن الانطباع الذي قد تتركه المناوشات، التي جرت بينهما في المدة الأخيرة وسط حالة من اللغط والضجيج الإعلامي لدى بعض المتابعين على الأقل، هو أن حربا تحريرية ثانية ضد العدو الذي أعلن الجزائريون قبل ستين عاما عن تحررهم منه وانتصارهم عليه، توشك على الاندلاع بين لحظة وأخرى، وأن الفرق بين القديمة والحالية هو أن الرفاق الروس لن يتحركوا من وراء الستار، بل سينزلون بكل بثقلهم هذه المرة ليساعدوا حليفهم الجزائري في معركته المصيرية الكبرى من أجل كسر شوكة الإمبريالية الغربية ومحوها من الوجود، لكن مثل ذلك السيناريو يبدو ربما بعيدا بعض الشيء، كما أنه قد لا يكون مطروحا بالأساس في أذهان القادة الجزائريين أنفسهم، فحتى إن رأوا أن علامات الوهن قد ظهرت عليها بوضوح، وفي أكثر من مكان من القارة الافريقية بالذات، فإن ذلك قد لا يغريهم بالضرورة بالدخول في صدام مباشر وعنيف مع باريس. فما قد يعنيهم بدرجة أولى ليس البحث عن استنساخ الحرب التي خاضها أجدادهم، بل الحفاظ على بطولاتها، وحتى أساطيرها كركن ثابت وراسخ من أركان دولتهم. والسؤال بعدها هو هل أنهم سيتمكنون في الأخير من تحقيق أهدافهم، ومن إجبار شريكهم في صورة ما إذا أراد فعلا ان يفتح صفحة جديدة معهم على أن ينظف باقي الصفحات التي سبقتها من كل الشوائب التي ما زالت عالقة بها؟
الفرنسيون واعون أن التخلص من الآثار المريعة التي تركها أكثر من قرن من استعمارهم الاستيطاني للجزائر على علاقاتهم الحالية مع الجزائر هو أمر صعب ومعقد
لن يختلف اثنان في أن الشراكة التي أعلن الرئيسان تبون وماكرون الصيف الماضي في الجزائر عن الأمل بأن تكون متجددة بين البلدين، باتت اليوم في وضع حرج ودقيق للغاية، وفي أنها تبدو منذ عدة أسابيع شبه متوقفة ومجمدة، ومع أنهم كانوا يعرفون أنه لم يحذف بعد، إلا ان الفرنسيين نظروا إلى إعادته إلى الواجهة بعد حجبه لعدة سنوات على أنه عمل غير معزول عن السياق العام، وعما يحصل من تطورات في العالم، خصوصا في ظل التداعيات التي خلفتها الحرب الروسية في أوكرانيا، وكان واضحا جدا بالنسبة لهم أن المرسوم الذي وقعه الرئيس الجزائري في الحادي والعشرين من الشهر الماضي والقاضي بأداء النشيد الوطني كاملا بمقاطعه الخمسة، بما فيها المقطع الذي يقول: «يا فرنسا قد مضى وقت العتاب وطويناه كما يطوى الكتاب. يا فرنسا إن ذا يوم الحساب فاستعدي وخذي مني الجواب. إن في ثورتنا فصل الخطاب وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر. فاشهدوا فاشهدوا فاشهدوا»، كان وفي الوقت الذي تمر به العلاقات الجزائرية الفرنسية بفترة من الشك والجمود، من أبرز ملامحها التأجيل المتلاحق لزيارة كان من المفترض أن يقوم بها الرئيس تبون إلى باريس الشهر الماضي والحملة التي تقودها بعض الجهات الفرنسية للمطالبة بإلغاء اتفاقية وقعت بين الجانبين أواخر الستينيات وتمنح بمقتضاها باريس بعض الامتيازات للمهاجرين الجزائريين، رسالة رمزية ليس من العسير عليهم فهمها وإدراك أبعادها، إنهم واعون بلا شك من أن التخلص من الآثار المريعة التي تركها أكثر من قرن من استعمارهم الاستيطاني للجزائر على علاقاتهم الحالية معها هو أمر صعب ومعقد، بل ربما حتى شبه مستحيل، رغم كل ما سعوا إلى ترويجه من أوهام من قبيل المشروع الذي أطلقه ماكرون منذ مدة حول معالجة ملف الذاكرة الاستعمارية، لكنهم يتصورون أن البراغماتية ستعلو عاجلا أم آجلا، وأن الماضي سيظل محصورا داخل حلقات الباحثين والمؤرخين وحدهم، فيما مدار السياسيين ونطاق تحركاتهم سيبقى رحبا وواسعا وزاخرا بالفرص والمنافع والمصالح التي سيفتحها الحاضر والمستقبل، من دون أي اشتراطات أو ارتباطات بوقائع أو أحداث دخلت في ذمة التاريخ. ولعل ذلك ما ألمحت اليه وزيرة الخارجية الفرنسية في أول تعليق رسمي لها على ما اعتبرته بعض الصحف الفرنسية مثل، «لوفيغارو» إعادة لمقطع معاد لفرنسا في النشيد الرسمي الجزائري، وذلك حين قالت الجمعة الماضية في حديث مع قناة «أل أس أي» التلفزيونية عن ذلك المقطع إنه «لا يناسب الظرف الحالي»، وإنها «تتفهم السياق التاريخي العام الذي كتب فيه والمتصل بفترة الحرب بين الجزائر وفرنسا خلال مرحلة الاستعمار». وهذا ما يدل بوضوح على أنها تعتقد أنه لم يعد هناك من مبرر الآن للإبقاء عليه، خصوصا بعد أن اتفق الرئيسان ماكرون وتبون الصيف الماضي على إعطاء دفع جديد لعلاقات البلدين، لكن إقناع الجزائريين بذلك قد لا يبدو سهلا بالمرة، وقد ينظر له داخل الجزائر نفسها على أنه نوع من التفريط أو التنازل غير المقبول، حتى عما أكده الرئيس الجزائري نفسه في أحد حواراته في نوفمبر/تشرين الثاني 2021 من أن «الجزائر أكبر من أن تكون تحت حماية أو جناح فرنسا»، لكن إن كان البلدان قادرين دائما على أن يبقيا خلافاتهما تحت السيطرة، فهل أن ما يحدث بينهما الآن ليس سوى فصل قصير ومحدود من فصول صراع أكبر وأوسع على إعادة التموقع في منطقة ترقد تحت برميل بارود قابل للانفجار في أي لحظة؟ التطورات المقبلة قد تؤكد ذلك أو تنفيه.