- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
هيفاء زنكنة تكتب: ما الذي حل بإبداع انتفاضة تشرين العراقية؟
هيفاء زنكنة تكتب: ما الذي حل بإبداع انتفاضة تشرين العراقية؟
- 4 أكتوبر 2022, 4:34:10 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
من الصعب تصور انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 2019، التي تمر ذكراها الثالثة هذه الأيام، بدون الجوانب الإيجابية لتي نبعت من صميمها، على الرغم من إجهاضها من قبل ذات القوى التي أراد المساهمون فيها التحرر منها. وكانت تكلفتها البشرية باهظة، بكل المقاييس، إذ قُتل خلالها 600 شخص وجُرح 30 ألفا آخرين، ولا توجد إحصائيات دقيقة حول أعداد المختطفين والمعتقلين.
لعل الجانب الإيجابي الأول هو أنها فتحت المجال خصبا حول قدرة فعل المقاومة على التغيير وإلغاء ما تم تصنيعه وتسويقه، بنجاح أحيانا، من الطائفية والفروق العرقية والجنسية. فتجسدت في ساحة التحرير، قلب بغداد النابض، ومنها الى بقية المحافظات، خلال شهور الانتفاضة، رغبة الجميع في هدم جدران التمييز الكونكريتية وامتلاك وطن مستقل، يتمتع فيه المواطنون، جميعا، بلا استثناء، بالحرية والكرامة والعدالة. أما الجانب الثاني الذي أثمرته الانتفاضة وسيبقى على مر السنين، وثيقة للحرية والكرامة الإنسانية الرافضة للقمع والتمييز، فهو الجانب الفني الإبداعي المتمثل بالرسم والموسيقى والشعارات والنكات والمسرحيات والقصائد والتصوير والجداريات والفيديوهات واستخدام التقنية الرقمية وحتى الشعارات الجامعة بين المطالبة بالحقوق والسخرية من الساسة.
كل هذا تم في ظل جدارية الحرية للفنان الراحل جواد سليم والتي تُشكل جزءا لا يتجزأ من الذاكرة الجماعية العراقية الرافضة لعبودية الاستعمار والسلطة بالنيابة، والايمان بأن الفنون الحاملة للأصالة المحلية، هي في ذات الوقت لغة عالمية مشتركة، تُبعد مُبدعيها ومُتلقيها في آن واحد، عن الاحساس بأن ما يتعرضون له فريد من نوعه ولا مثيل له في العالم وهو منبع الشر الراسخ في أهل هذه البقعة المحددة من العالم.
وإذا كان بالإمكان، من هذا المنطلق، النظر إلى ما أفرزته ساحات انتفاضة تشرين 2019 من فنون باعتبارها، على المدى البعيد، عاملا رئيسيا لإعادة بناء الإنسان والشفاء من جروح الماضي وما يحمله من خوف من «الآخر»، فإن معظم ما قدمته الفنون، على اختلاف مستوياتها وأنماطها، ارتبط ارتباطا وثيقا بحس الشارع ومطالب المتظاهرين الممثلة لعموم الشعب.
ولئلا تضيع هذه الثروة المعنوية في خضم تسارع الأحداث السياسية ومحاولات كتابة التاريخ كل على هواه على حساب تغييب « الآخر»، ومع غياب المؤسسات الوطنية المعنية بالتوثيق، وقع عبء الحفاظ على مُنتج الانتفاضة على عاتق قلة من الأفراد والمبادرات الذاتية والمواقع الإلكترونية. من بينها الأكاديمي د. هيثم هادي نعمان الهيتي الذي قام بتوثيق أحد مستويات الأبداع في ساحة التحرير ببغداد، بالتحديد، والذي شكّل الواجهة الأمامية الغنية للانتفاضة. فأنكّب على تجميع 2113 من صور اللافتات المتضمنة شعارات وتخطيطات وصور، بالإضافة إلى الرموز ونصوص استخدمها المتظاهرون خلال الانتفاضة، وتم نشرها لاحقا على وسائل التواصل الاجتماعي من فيسبوك وتويتر وإنستغرام باعتبارها بيانات مادّية لإكمال دراسة أكاديمية قام بتقديمها، أخيرا، في منتدى « إنسانيات» الدولي الذي أقيم بتونس (20 ـ 24 أيلول/ سبتمبر) وساهمت فيه الهيئة الدولية لدراسات لشرق الأوسط، كما سيتم نشر الدراسة في دورية أكاديمية.
خلال شهور الانتفاضة، رغبة الجميع في هدم جدران التمييز الكونكريتية وامتلاك وطن مستقل، يتمتع فيه المواطنون، جميعا، بلا استثناء، بالحرية والكرامة والعدالة
تتناول الدراسة الموضوعات التي تطرق إليها أو طالب بها المحتجون عبر اللافتات ونصوصها، حيث تبين من التحليل أن هناك أربعة موضوعات ورسائل رئيسية قصدها المحتجون وهي: الاستعداد للتضحية في سبيل الأمة، والوحدة الوطنية، ودور المرأة، والمطالب، بالإضافة إلى 14 رسالة فرعية منها على سبيل المثال، إنهاء الميليشيات والفصل بين الدين والدولة ورفض الطائفية.
وبيّن التحليل العلمي للمعطيات أن كان الطلب الأساسي الذي تم رفعه ونشره على وسائل التواصل الاجتماعي هو تغيير النظام، بنسبة 20.39 بالمئة من إجمالي الطلبات. أما المطلب الثاني فهو الحرية بمعدل 14.29بالمئة ثم المطالبة بإنهاء الفساد، بمعدل12.91 بالمئة، والقضاء على الميليشيات، بمعدل 12.11بالمئة. ومن بين المطالب الأولية جاء المطلب الخامس، وهو فصل الدولة عن التأثيرات الدينية بمعدل 12.02 بالمئة. وبالنسبة إلى المطالب التسعة الأخرى، كان المطلب الرئيسي هو القضاء على التأثيرات الإيرانية بمعدل 49 بالمئة.
هناك، أيضا، مقالات متناثرة في الصحافة والمواقع العربية والأجنبية غطت جوانب أخرى. من بينها موقع « ألترا عراق»، في سلسلة مقالات، رافقتها صور رائعة، أبرزها مساهمة أحمد هادي عن الغرافيتي والجداريات التي حولّت نفق ساحة التحرير الكونكريتي إلى سلسلة لوحات مضاءة بالأمل، « و حتى لو تم تدميرها أو حذفها، ستكون عالقة بأذهان الناس، وأنا متأكد أنها ستطبع وتُعّلق في بيوت العراقيين، لأنها رمز من رموز الثورة».
واحتل الشعر مساحة متميزة، إذ جمع الثوار بين كتابة الشعر ومواصلة الاحتجاج وهم يتعرضون للرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع ويقومون بنقل الجرحى والمصابين وتجنب الاختطاف. كانت الانتفاضة، كما كتب علي فائز، ولا تزال واحدة من « أكثر الانتفاضات العراقية التي ألهمت هذا العدد الكبير من الشعراء لكتابة قصائدهم، مؤسسةً لجيل جديد يشبه وطنه ويعيش همومه.» وفي مجال الغناء « أبدع شباب الانتفاضة في مدينة الموصل، مثلا، في تحويل الأغنية الثورية الإيطالية «بيلا تشاو» إلى اللهجة المحلية فباتت «بلا جارة»، أي لا حل يرجى، مع مشاهد مستوحاة من مسلسل إسباني يروي قصة «انتقام من السلطة»، حملت طابعًا عراقيًا سلط الضوء على معاناة الشباب في ظل البطالة والإهمال الحكومي»، كما كتب عثمان الشلش مضيفا مساهمات عدد من المغنين الكبار والشباب، معتبرا أغنية رحمة رياض أحمد «نازل أخذ حقي» من بين أشهر الأغاني التي جسدت الاحتجاجات. ولئلا تصبح حياة شهداء الانتفاضة بضاعة لمقايضات السياسيين المبتذلة، أعد الصحافي الاستقصائي حسن نديم كتابا يوثق بالتفصيل أسماء وحياة ورحيل الشهداء وجعله متوفرا للجميع على الإنترنت.
باللغة الإنكليزية، صدر « طوباويو ساحة التحرير»، متضمنا قصائد 28 شاعرًا شابا (لا تتجاوز أعمار عدد منهم 19عاما) ممن شاركوا « في احتجاج ساحة التحرير أو شهدوه»، جمعتها الشاعرة الشابة سما حسين عام 2021 وترجمتها وحررتها د. أنباء جاوي وكاثرين ديفيدسون.
أثبت الخزين الفني الهائل الذي أبدعته ساحات انتفاضة تشرين أن الفنون لا تقتصر على النخبة فحسب بل أنها أرضية خصبة يملكها الجميع لبذر الأحلام والتطلعات وإمكانية تحقيق البدائل. وللحفاظ على هذا الإرث الثمين، كذاكرة شعب، تقع علينا مسؤولية تجميعه وصيانته، ربما كمتحف وطني حي يليق بحياة وإبداع المشاركين بالانتفاضة وشهدائها، تُجمع فيه حتى القنابل الحارقة التي استخدمت لقمع الأصوات الحرة. وقد يكون تجسيدا لغرافيتي « يا بلد… في الحلم رأيت الموتى ينظفون أسلحة الجنود من دمائهم» الذي خلّده زياد متي، مصور يوميات الانتفاضة.
كاتبة من العراق