وسام سعادة يكتب: اللحظة اللوزانية وتحميلها وزر الديكتاتورية المديدة

profile
  • clock 19 أغسطس 2023, 3:28:10 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

أنى لديمقراطية أن تقضي نحبَها حتى من قبل أن تُبرعِم؟
لماذا اختار المؤرخ السويسري هانس لوكاس كيسر، وهو مرجع أساسي في تاريخ المرحلة العثمانية المتأخرة وطلائع ما بعدها، عنونة كتابه الذي ضارع به مئوية مؤتمر ومعاهدة لوزان هذا العام «عندما زَهِقت الديمقراطية» فيما من غير المعروف عن الشرق الأوسط قبل 1923 أنّه كان لها فتوح جمّة ووطيدة على طريق الديمقراطية؟ وعلام الحديث في تكملة العنوان عن «سلام لوزان المستدام في الشرق الأوسط» هذا في منطقة لم يُعرَف عنها كثرة السلام بعد لوزان؟
يسارع كيسر إلى الإيضاح بادئاً أن حديثه عن ديمقراطية قضت حتفها في دهاليز مؤتمر لوزان وبنود معاهدته، أو في «اللحظة اللوزانية» بشكل عام هو حديث عّما تسبب به هذا المسار المفضي إلى تثبيت قيام دولة ـ أمة تركية على كامل الأناضول وتراقيا الشرقية بدلاً من المحافظة على إمبراطورية عثمانية ضعيفة ومقطعة الأوصال لا تتحكم بالمضائق وتتقطع منها أجزاء واسعة من الأناضول، في قطع الطريق «لاحقاً» أمام الديمقراطية ليس فقط في تركيا ومنطقة الشرق الأوسط مطلع العشرينيات من القرن الماضي، ولعقود طويلة. أكثر من ذلك، يذهب هانس ـ لوكاس كيسر إلى أن «اللحظة اللوزانية» التي أنهت آخر الحروب المتممة للحرب العالمية الأولى، وهي الحرب التركية ـ اليونانية، تسببت بضرب صيغة «عصبة الأمم» نفسها، بأن جعلتها طيّعة لسياسة القوة، وعاجزة عن الدفع في اتجاه تحول دولي في اتجاه معزز للعقود الاجتماعية والدساتير والتعددية الإثنية والدينية والسياسية، بل يربط المؤرخ السويسري بين التقاطع بين روسيا البلشفية وبين مصطفى كمال، هذا من جهة، وبين التشابه بين مصطفى كمال وبنيتو موسوليني، من جهة ثانية، لصياغة مثلث «بلشفي ـ كمالي ـ فاشيستي» مدرجاً في هذا السياق وصف السفير الأمريكي في أنقره في نهاية العشرينيات من القرن الماضي جوزيف غرو لتجربة الغازي مصطفى كمال (الذي خلع عليه لقب «أتاتورك» عام 1934 فحسب) بأنها «الفاشية إنما مترجمة إلى التركية».
استحضار كيسر لموضوعة الديمقراطية عند مقاربة لحظة الانتقال من العصر العثماني المتأخر لما بعده يذكرنا بعض الشيء بأثر اليزابيت تومبسون «كيف سلب الغرب الديمقراطية من العرب؟» (2020). لكن تومبسون أوضح وأبسط. فقد سلطت الضوء على تجربة قومية إسلامية ليبرالية متداخلة كانت تشي بتطور في الاتجاه الدستوري التعددي إبان الحكم الفيصلي بدمشق، وأن المستعمر هو الذي أطاح بهذا التطور.
يبقى أن مشكلة تومبسون أن نموذجها التعليلي يتداعى بسرعة أمام سهولة انفراط عقد التجربة «الديمقراطية الفيصلية» للمؤتمر السوري العام لسنة 1920، بخاصة اذا ما قارناها بالمسار الكفاحي التركي. كيف يمكن أن نتجنب المقارنة بين معركة مرعش شتاء العام 1920 بين المقاومة التركية من جهة والجيش الفرنسي والفيلق الأرمني الموالي به (أضعف لمعاونين أتراك وشركس وأكراد) من جهة ثانية وبين معركة ميسلون صيف 1920. في مرعش. هو نفسه الجيش الفرنسي المحاصر في مرعش أمام المقاومة التركية الذي تمكن من احتلال دمشق صيف 1920 بعد معركة حسمت بسرعة شديدة.

«اللحظة اللوزانية» التي أنهت آخر الحروب المتممة للحرب العالمية الأولى، وهي الحرب التركية – اليونانية، تسببت بضرب صيغة «عصبة الأمم» نفسها، بأن جعلتها طيّعة لسياسة القوة، وعاجزة عن الدفع في اتجاه تحول دولي في اتجاه معزز للعقود الاجتماعية

في المقابل، لئن قطعنا ـ لنقل نصف الطريق ـ مع كيسر لجهة الإقرار بأن معاهدة لوزان ستتحول الى صك لاستتباب ديكتاتورية كمال في تركيا، فإنه من الصعب للغاية على كيسر أن يبين في المقابل أن القبول بمعاهدة سيفر 1920 التقطيعية لأوصال الأناضول كان من شأنها أن تفتح الطريق للديمقراطية في المدى العثماني، وأن تكسب عصبة الأمم مناعة وهالة بشكل فيه اجتناب لتغالظ وشيوع سياسات القوة ليس إلا. صحيح أن كيسر يكرر أكثر من مرة سواء في كتابه لهذا العام، أو في كتابه السابق حول «طلعت باشا. أب تركيا الحديثة ومهندس الإبادة» 2018 أنه كان من الأفضل الارتضاء بقطع أرض أصغر لبناء عقد اجتماعي تعددي عليها من التفتيش عن قطعة أرض أكبر لبناء نظام تسلطي، لكنها مفاضلة «معيارية» تحاول التقليل من مسؤولية معاهدة سيفر نفسها 1920 في حمل الأتراك الذين كانت أسهم جماعة «الإتحاد والترقي» قد انخفضت لديهم بشدة بعد الهزيمة في الحرب الكبرى الى الذهاب مجدداً الى الخيار الكفاحي، واقتناع جزء كبير منهم بأنها مسألة وجودية، لا سيما بعد أن عمدت اليونان ومن بعد احتلالها لإزمير إلى التوغل في داخل الأناضول.
في كتابه السابق (2018) عن طلعت باشا، الرجل السياسي الأول في الإتحاد والترقي، شدّد كيسر على أن «الاتحاد والترقي» مهدوا لجيل من الحركات القومية الثورية اليمينية الأوروبية، وفي الوقت نفسه مزج طلعت ورفاقه القومية ـ الإثنية الطورانية بالخطاب الإسلاموي الموروث من السلطان الذين أطاحوا به، عبد الحميد الثاني. كذلك، غلّب كيسر عناصر الاستمرارية بين طلعت باشا ومصطفى كمال، لا الانقطاع. فقد تكامل مفهوم طلعت باشا عن حق الأتراك في «الحياة» مع إبادة الأرمن وروم البحر الأسود، وهذه المجانسة الديموغرافية الإثنية، والخوف من ارتدادها على أعقابها بعد الهزيمة، والطموح في الوقت نفسه الى استكمالها، في ظروف ما بعد الهزيمة، هي التي فتحت الطريق لتجربة مصطفى كمال.
الكتاب الحالي يشدّد أيضاً على عنصر الاستمرارية بين نهج الاتحاديين ونهج أتاتورك. لكن كيسر يذكرنا بالخلاف الذي نشب بين كمال والحلقة القريبة منه وبين رضا نور، أحد أبرز الذين تولوا المفاوضة في لوزان، الى جانب عصمت اينونو. لم يكن رضا نور قريبا من كمال بشكل يقارن بقرب عصمت. لكنه كان يتمتع بحيثية ملفتة. فهو من جهة افترق عن «الاتحاد والترقي» باكراً، وأمضى فترة الحرب الكبرى في القاهرة. بالتالي كان يعبر عن المناخ غير المحب للاتحاديين ضمن الجمعية الوطنية بأنقرة إبان حرب الاستقلال. هذا في حين أن كمال ومعظم المحيطين به من فلول الاتحاديين. انما في المقابل، كان رضا نور، على مواقفه ضد ديكتاتورية الاتحاديين، أكثر غلواً في الطورانية منهم. لم يكن ليكتفي بتصور ضياء غوكالب عن وطن طوراني ممتد من آسيا الوسطى الى الدانوب، بل كان يشدد على أن الترك هم القوم الأصلي في الأناضول، والكرد فرع منهم، أما الأرمن والروم فمن الجماعات الوافدة بعد الترك على الأناضول، هذا في معاكسة لكل البحث التاريخي الرصين.
في لوزان، لعب نور دورا تفنيدياً لفكرة أن هناك أقليات إثنية إسلامية في تركيا، وكان يجد وقتا خارج الاجتماعات لاستكمال كتابه الذي لم ينشر عن «تاريخ الأرمن» وفيه تعريف لهم على أنهم قوم يحركهم نزوع لاستئصال الأتراك من الأساس!!
إلا أنه، وبعد المعاهدة، ساءت الحال بين كمال ونور، وعاد الأخير الى المنفى في مصر وفرنسا. تحول رضا نور، المفاوض السابق في لوزان، إلى رمز لخطاب يعيب على أتاتورك واينونو موافقتهم التي ارتضت التخلي عن الموصل والإسكندرون وتراقيا الشرقية ولم تضمن تماماً السيادة على المضائق. مثل هذا الموقف سيتكامل عند نور مع استيائه من إلغاء كمال للخلافة بعد أشهر على توقيع المعاهدة. لاحقاً ستزدهر في تركيا وعند العرب تفسيرات تآمرية لمعاهدة لوزان تتحدث عن بنود سرية خرافية فيها، أو أقله عن التزام سري من جانب كمال للغربيين بإلغاء الخلافة!
ما يبينه كيسر بشكل أو بآخر أن نموذج رضا نور هذا سمح لكمال والسائرين في خطه أن يظهروا على أنهم واقعيون، وقادرون على فهم المتغيرات، ومحاكاة الغرب، واللعب على التقاطعات الدولية. فنور لم يكن قادرا على القطيعة مع الزمن العثماني، في حين أن عنصر الاستمرارية مع تركيا الفتاة سيؤمن لمصطفى كمال إحداث هذه القطيعة. لأن العثمنة باتت عنده مرادفة لمعاهدة سيفر الانهزامية. ولأن العثمنة على ما شدد عليه كمال في خطاباته إبان حرب الاستقلال لم تفتح للمسلمين سبل التجارة والصناعات بل سلمت ذلك للروم والأرمن، وبالتالي ومن موقع كان لا يزال يماهي بين التعريفين الديني والقومي للأمة ربط كمال بين ضرورة أن يحل المسلمون الأتراك في التجارة والصناعة بدل سواهم (ما ارتبط أيضا بتسويغ التطهير الإثني) وأن يحدّثوا أنفسهم لأجل إحراز ذلك (ما مهد للخطاب التحديثي القسري العلمانوي اللاحق). لم يكن رضا نور قادراً على هكذا قطيعة تامة مع الماضي العثماني، ولا كان قادرا على استيعاب ما فعله كمال (عدم الاكتراث مثلا لنموذج الديمقراطية الفدرالية السويسري، وفي المقابل استقاء القوانين المدنية، جلها، من سويسرا!!). بالتوازي، استعاد كمال فكرة نور، عن وجود تركي سحيق في الأناضول، باعتبار الحثيين من الأتراك، ومن ثم اعتبار الأتراك بمثابة الأصل في عائلة الشعوب الآرية وليس جنساً مختلفاً عن الآريين!


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)