- ℃ 11 تركيا
- 22 ديسمبر 2024
ياسر ابراهيم يكتب: السودان.. مستقبل مجهول ونفق مظلم
ياسر ابراهيم يكتب: السودان.. مستقبل مجهول ونفق مظلم
- 20 يونيو 2023, 8:18:22 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
شكّلت الفترة الانتقالية الممتدة منذ سقوط نظام الإنقاذ في عام 2019 إلى نشوب الحرب الحالية أكبر منفذ للتدخل الخارجي في الشأن السوداني والذي بلغ أوجه باستقدام البعثة الأممية لتقوم بعملية إعادة الهندسة الجغرافية للبلاد مدعومة بالقوى الغربية.
يصعب على كل ذي بصيرة واعية أن يواصل الظن الحسن بأن الوضع في السودان سيظل على ما ألفه الناس واعتادوه، فمما لا شك فيه أن الحرب الجارية حاليا ستؤسس نتائجها لمرحلة جديدة في مسيرة السودان الحديث، والذي بدأت ملامح تشكله الاجتماعي والسياسي مع حكم التركية السابقة 1821-1885.
كما أن نتائج هذه الحرب ستؤكد مرة أخرى فشل النخبة السودانية في صياغة عقد اجتماعي يؤسس للعيش المشترك تحت ظل هذه الدولة التي ورثوها مليون ميل مربع ثم بدأت بالتناقص بانفصال جنوب السودان، وما لم تتدارك هذه النخبة واقعها الأليم بالتنازلات الكبرى والاعترافات الجريئة والتسامي فوق (الشجون الصغرى) فإن سيناريو انفصال الجنوب لن يكون بعيدا مرة أخرى في السودان.
هناك 4 عوامل تجعل هذه الحقيقة المؤلمة أمرًا واردًا:
أولها: أن الحرب الحالية تختلف عن كل حروب السودان السابقة
إذ إنها تفجرت في أكثر لحظة تاريخية حرجة للدولة السودانية التي تشهد هشاشة في البنى الاجتماعية بصورة غير مسبوقة، وذلك بعدما أعيتها الأزمات والحروب، فقد ظل الجيش السوداني يخوض حروبا داخلية منذ ما قبل استقلال البلاد وإلى الآن، وصحيح أن هذه المسيرة من الحروب قد أكسبت الجيش السوداني خبرة وتجربة واسعة في إدارة المعارك، لكنها ولا شك قد أثرت عليه، إذ إن أي جيش يظل تحت المعارك لأكثر من 50 عاما متواصلة قد يكون معرضا للانهيار، ومن المؤكد أنه قد وصل لمرحلة الإنهاك، خاصة أن الجيش تعرض لحملة قاسية في الفترة الماضية من قبل قوى الحرية والتغيير تنعته بالضعف وعدم المهنية وتقلل من أدواره التاريخية العظيمة.
ثانيا: طبيعة الحرب الحالية
تجري الحرب الحالية بين الجيش وفصيل متمرد عليه نشأ تحت ظل الجيش ونما وترعرع وقوي عوده تحت رعايتها، وظل يتمدد يوما بعد يوم حتى كاد يبتلع مؤسسات الدولة، وأنشأ إمبراطورية اقتصادية ضخمة، وأقام علاقات خارجية موازية، يدفعه في ذلك طموح سياسي غير محدود لقيادته التي تجد لها ظهيرا من ناشطي قوى الحرية والتغيير وبعض المحاور الإقليمية.
ثالثا: نقل الحرب هذه المرة إلى العاصمة الخرطوم
وهذا فيه تنفيذ لتهديد قديم ظلت تردده الحركات المتمردة في الأطراف بأن (الحرب المقبلة ستكون في الخرطوم) وينطوي هذا التهديد على رؤية عنصرية ظلت تتبناها الحركات المتمردة، مفادها أن المركز الذي تمثله الخرطوم وشمال السودان مستأثر بالسلطة والثروة على حساب أقاليم السودان الأخرى، وحميدتي نفسه وشقيقه عبد الرحيم قد رصدت لهما تصريحات تؤكد ذلك.
هناك الولايات المتحدة الأميركية صاحبة الكيد الطويل للسودان عبر جماعاتها الأيديولوجية وشركاتها العابرة للقارات، وتتحفز اليوم لمحاصرة الوجود الروسي المتنامي في المنطقة، وهناك فرنسا الجريحة في كبريائها الإمبراطوري في منطقة الساحل الأفريقي وهي تحاول استعادة مجدها هناك
تتضافر تلك العوامل لتعمل على هدم الدولة التي اكتملت الشروط الجغرافية والاجتماعية لتشكلها حين قام محمد علي باشا بغزو السودان انطلاقا من مصر في عام 1821 وبتوغله جنوبا حتى أعالي النيل، وإخضاع دارفور فيما بعد وبسط السيطرة على شرق السودان، إذ ظهرت جغرافيا الدولة بشكلها الجديد.
على الرغم من تباين الأعراق والسحنات في هذا الكيان فإن قوة الدولة حافظت على تماسكه واستواء بنيانه، ولأن بناء الأوطان لا يكتمل إلا بتوحيد الوجدان المشترك بين المكونات المختلفة برزت باكرا قضية الهوية وتأثيراتها العميقة على الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي، وكان التساؤل الأبرز حينذاك والذي ظل قائما حتى اليوم هو أي طريق ستسير عليه القومية السودانية؛ هل ستتوجه شمالا متأثرة بالإرث الحضاري العربي، أم ستستجيب لعامل الجغرافيا بمكونه الأفريقي فتطور هويتها بناء على ذلك.
وعلى الرغم من المحاولات المتكررة للإجابة عن هذا السؤال فإن التجاذب ظل حاضرا وبقوة خاصة حين يتحول إلى المجال السياسي الذي توظف فيه الانتماءات الجهوية والقبلية من أجل الكسب والتعبئة الاجتماعية، ولعل عدم الرضا بالإجابات المقدمة في هذا الباب كان من أقوى أسباب انفصال جنوب السودان الذي آثر أن يؤسس هويته على الانتماء الأفريقي، لأن الاتهامات ظلت تطارد المركز بتهميش الأطراف بل وبمحاولة فرض ثقافة معينة على بقية الأقاليم.
مناسبة هذا التذكير التاريخي هي أن حروب السودان المستمرة منذ استقلاله في عام 1956 وحتى الآن لا بد وأن تكون قد أثرت على عناصر التماسك القومي والوجداني للأمة السودانية، خاصة أن الحركات المتمردة لم تخف نيتها تفكيك الدولة وهدمها، فقد كان مشروع الدكتور جون قرنق قائما على (تحطيم الجيش السوداني).
أما حركات دارفور المتناسلة فقد اتخذت اسم (تحرير السودان) مسمى ثابتا لها، وهو اختيار ينبئ عن حجم الغبن من هذه الدولة المركزية، وبينما تجري الحروب العسكرية ظلت التعبئة الإعلامية التي تستند على الكراهية وتعميق الانقسام الاجتماعي خاصة بين دارفور كإقليم وبقية أجزاء البلاد تتمدد في الأفق الوطني وتزيد من الأحاسيس السالبة بالظلم والتهميش.
رابعا: المشروع الأجنبي
هذا العامل هو الأشد خطورة على استمرار الدولة متماسكة وهو وجود مشروع أجنبي ظل يسعى وبصورة معلنة لتقسيم السودان، أو إبقائه دولة متخلفة فاشلة لا تقوى على استثمار مواردها والعمل على نهضة إنسانها، فبعد انفصال جنوب السودان في عام 2011 تكشفت المؤامرة الغربية والجهود الإسرائيلية التي وقفت خلف ذلك الانفصال، واستبان حجم الدعم العسكري واللوجيستي الذي تم تقديمه للانفصاليين الجنوبيين طوال فترة تمردهم حتى تمكنوا من الانفصال عن الشمال.
وهي التجربة نفسها التي تحاول ذات القوى استنساخها في دارفور كما ورد في محاضرة "آفي ديختر" وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي في عام 2008 والتي ورد فيها (سودان ضعيف ومجزأ وهش خير من سودان موحد وفاعل)، ولا شك أن الرؤية الإسرائيلية هذه تمثل المشترك بين كل القوى الغربية وإن اختلفت مصالحها وتقاطعت أجنداتها.
شكّلت الفترة الانتقالية الممتدة منذ سقوط نظام الإنقاذ في عام 2019 وإلى نشوب الحرب الحالية أكبر منفذ للتدخل الخارجي في الشأن السوداني والذي بلغ أوجه باستقدام البعثة الأممية (العضو المنتدب للمشروع الغربي في السودان) لتقوم بعملية إعادة الهندسة الجغرافية للبلاد مدعومة بالقوى الغربية وبعض المحاور الإقليمية.
وللتدليل على هذا الزعم يتوجب النظر إلى موقف القوى الغربية من الدعم السريع الذي ظلت تصفه بالمليشيا وتتهمه بانتهاكات ترقى للجرائم ضد الإنسانية، ولكنه حين تمرد على القوات المسلحة صار جزءا من أدوات الإستراتيجية الغربية الساعية لتفكيك الجيش السوداني الذي يمثل رمزية السودان القديم ذي النزعة المحافظة والرافضة للقيم الأخلاقية الغربية.
هذا التحالف بين الدوائر الغربية التي ظلت تكيد للسودان وبين بعض ناشطي قوى الحرية والتغيير ومؤخرا الدعم السريع لن توفر جهدا في هدم السودان تحت أي مبرر، لأن الثابت هو التفكيك والهدم، أما المتغير فهو المبررات فمرة كان الحديث عن السودان الجديد، ومرة أخرى محاربة الإسلاميين، ومرة ثالثة تحت ستار الإصلاح الأمني والعسكري.
السؤال المخيف هنا هو إلى أي مدى زمني وجغرافي يمكن أن تستمر وتمتد هذه الحرب؟
مبعث الخوف هو أنه لو كانت هذه الحرب بالتجريد الذي يتصوره الإنسان العادي أنها بين الجيش وفصيل تمرد عليه لتم حسمها في أقرب فترة زمنية لا تؤثر كثيرا على البلاد والعباد، ولكن الحقيقة المؤلمة هي أن هذه الحرب في مستوى من مستوياتها تجري بين قوى دولية وإقليمية لها مصالح حقيقية وأجندة متقاطعة، وكل من هذه القوى يحسب ألف حساب لانتصار طرف على الآخر.
فهناك الولايات المتحدة الأميركية صاحبة الكيد الطويل للسودان عبر جماعاتها الأيديولوجية وشركاتها العابرة للقارات، وتتحفز اليوم لمحاصرة الوجود الروسي المتنامي في المنطقة، وهناك فرنسا الجريحة في كبريائها الإمبراطوري في منطقة الساحل الأفريقي وهي تحاول استعادة مجدها هناك، أما بريطانيا فلا يبدو أنها قد نسيت ثأرها القديم للجنرال غوردون الذي قتل على يد أنصار الدولة المهدية في عام 1885، ولا تزال تنظر للسودان كبقية من ميراثها الذي لا يجب أن تنازع فيه.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن القوى المتحالفة مع الدعم السريع ستوظف علاقاتها الخارجية المشبوهة لحرمان الجيش من تحقيق نصر حاسم في هذه المعركة بناء على مصالحها الحزبية الضيقة، وكلنا يتذكر التصريح الشهير لمبعوث الأمين العام فولكر بيرتس حين لاح تقدم للجيش في الأيام الأولى للحرب بأن الرابح في الحرب ستفرض عليه عقوبات دولية.
كلما طال أمد الحرب زادت مخاوف انتقالها إلى أقاليم أخرى خاصة في دارفور، وزادت كذلك الآثار المدمرة للتدخل الخارجي ببناء خطوط إمداد للمتمردين تمكنهم من إعادة بناء نظام القيادة والسيطرة بشكل فعال، كما أن الكلفة الإنسانية ستزيد وطأتها على المواطنين الذين يعيشون حاليا في ظروف بالغة السوء.
وبهذه الحسابات يطل السيناريو المخيف وهو أن تؤدي تدخلات الخارج وتداعيات الحرب والحملات السياسية ضد الجيش إلى زرع اليأس في نفوس السودانيين وإيصال الجيش لمرحلة لا يتحمل فيها كل هذه التحديات فيسقط السودان في فخ المجهول، بينما لا يزال الأمل قائما في استثمار الحشد الشعبي الكبير الداعم للجيش من تحقيق انتصار عسكري على المليشيا واستعادة قوة الدولة وفرض الأمن والنظام.
على أن القيمة الكبرى التي يجب أن يتذكرها السودانيون جميعا هي أن الاتفاق على قواعد للعيش المشترك وتقديم التنازلات الكبرى لصالح الوطن، والتخفف من الحمولات الأيديولوجية الثقيلة في الخطاب السياسي نحو برامج واقعية وعملية هي التي ستعصمهم من المجهول الذي سيتأذى منه الجميع.
ولذلك فإن الحوار وحده هو القادر على بناء تلك المشتركات الوطنية، وإذا سلمنا بضرورة تغيير السودان القديم فلا يجب علينا أن نفعل ذلك بالدماء والسلاح، بل بالحسنى والحوار إن كان هناك مجال للكلمة الحسنى في سودان اليوم.