- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
يحيى الكبيسي يكتب: العراق قانون العفو العام وتقويض فكرة الدولة!
يحيى الكبيسي يكتب: العراق قانون العفو العام وتقويض فكرة الدولة!
- 28 أبريل 2023, 3:06:09 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
يحتدم صراع الخطابات مجددا، سواء كان حقيقيا أم مسخَّرا لأغراض ما، بين دعاة إصدار قانون جديد للعفو العام في العراق، والرافضين له، وكعادة القوانين في العراق، يُستخدم هذا القانون كأداة سياسية للصراع من أجل مصالح شخصية لا علاقة لها بفكرة المصلحة العامة وتحقيق العدالة وتثبيت الاستقرار المجتمعي!
صدر قانون العفو العام سنة 2008 في إطار صفقة سياسية صوَّت، بموجبها البرلمان، على ثلاثة قوانين في سلة واحدة؛ قانون الموازنة العامة، وقانون العفو العام، وقانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم، في جلسة وصفها رئيس مجلس النواب يومها بأنها «عرس للبرلمان العراقي»!
وقد نجح هذا «العرس» المفترض في تحويل فكرة القانون من مفهوم القاعدة العامة المجردة إلى وثيقة سياسية خاضعة للمفاوضات والمساومات وحتى الابتزاز؛ فقد كان تمرير قانون العفو، حينها، مطلبا سنيا، وكان تمرير قانون الموازنة (الذي تضمن نسبة 17٪ لإقليم كردستان) مطلبا كرديا، فيما بدا قانون المحافظات مطلبا شيعيا!
وقد شرع مجلس النواب قانونا ثانيا للعفو العام سنة 2016، ومراجعة السياق السياسي الذي صدر فيه هذا القانون تكشف أن القانون كان أيضا مطلبا سنيا هذه المرة، ويدخل ضمن اتفاق تشكيل الحكومة عام 2014، وقد تم تضمّنه البرنامج الحكومي الذي تقدم به الدكتور حيدر العبادي للحصول على الثقة. ورغم مصادقة مجلس الوزراء على مشروع القانون بتاريخ حزيران/ يونيو 2015، تأخر تشريعه ما يزيد على 14 شهرا بسبب الخلافات حوله في مجلس النواب، ولم يصوت عليه المجلس إلا بنهاية آب/ أغسطس 2016، بعد أن صوّت على قانون «حظر حزب البعث» بتاريخ 31 تموز/ يوليو 2016، ثم التصويت لاحقا على قانون «هيئة الحشد الشعبي» بتاريخ 26 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016. وهو ما يعني أن القانون قد صدر، أيضا، في سياق صفقات ومساومات سياسية!
يُعرّف القانونُ بأنه قاعدة عامة مجردة، ما يعني أن القانون لا يجب أن يتعلق بأشخاص بذاتهم، ولا بوقائع بذاتها، ومن ثم، فهو يهدف إلى تحقيق المصلحة العامة، وليس مصالح فئوية أو شخصية (القوانين التي تختص بفئة معينة فهي تعنيهم بصفاتهم لا بأشخاصهم، مثل قانون العمل على سبيل المثال، وبالتالي لا ينتفي عنها صفتي العمومية والتجريد).
كما أن فكرة وقف العقوبة يرتبط بتقدير المشرِّع بأن مصلحة المجتمع تفرض عليه أن ثمة ظروفا تستدعي العدول عن العمل على تنفيذها عبر إسقاط حق الدولة في العقاب، من خلال إصدار قانون للعفو العام. وبالتالي، فان فكرة العفو العام تتضمن أهدافا اجتماعية وسياسية تستدعيها المصلحة العامة للمجتمع والدولة ككل، لاسيما في الظروف غير الطبيعية التي تمر بها المجتمعات والدول، وبالتالي يمثل إصدار قانون العفو العام فرصة من فرص المراجعة لتحقيق المصالحة والاستقرار المجتمعي، بالأخص إذا كان ثمة شك كبير في حقيقة تلك الاتهامات، وعدالة المحاكمات، والسياق السياسي الذي حكم كل ذلك!
كسب السلام، السلام بمعناه الأعرض المركّب الذي يتجاوز وقف إطلاق النار وانتهاء الأعمال العسكرية، والذي لا يعني ما هو أقلّ من استثمار نتائج الحرب لصالح القوّة الظافرة، في المستويات الجيو ـ سياسية والاقتصادية في البدء؛ ثمّ في المستويات الأخرى
لكن الواقع أن فكرة القانون ومصلحة الدولة والمجتمع ليست حاضرة في السجال حول قانون العفو العام في العراق! بل إن قانون العفو هذا التصق بمطالب الطرف السياسي السني فقط، في مقابل تعنت ومساومات من الطرف السياسي الشيعي، وحياد واضح من الطرف الكردي!
لكنّ مطالبات الجانب السني من أجل تمرير قانون العفو، لا تخلو أيضا من الانتهازية والابتزاز، لقد كان قانون العفو العام حاضرا في مفاوضات تشكيل حكومة السيد محمد شياع السوداني، وكان حاضرا في البرنامج الحكومي بوصفه مما اتفقت عليه القوى السياسية المشكلة لتحالف «إدارة الدولة» التي انبثقت عنه الحكومة، مع وجود تراجع للكثير من الفاعلين السياسيين الشيعة عن الالتزام بما اتفقوا ووقعوا عليه في هذه المسألة، مع ذلك بدا واضحا أن حضور هذا القانون في الخطاب السني ارتبط، بشكل مباشر، بالخلافات المعلنة حول قانون الموازنة وأنّ أي اتفاق على قانون الموازنة العامة، قد يدفع بالقانون إلى الوراء ليحضر ربما مرة أخرى كورقة للتفاوض!
وبعيدا عن حسابات السياسيين ومصالحهم الشخصية، فإن صدور أي قانون للعفو العام يشمل المحكومين الجنائيين، أو المتهمين بقضايا جنائية فقط، سيكون بمثابة تكريس لتقويض لفكرة العقاب من الأصل.
إن مراجعة المشمولين (محكومين ومتهمين) بقانون العفو لعام 2008 ( وقد بلغ عددهم أكثر من 140 ألف شخص تبعا لأرقام المجلس الأعلى للقضاء) والمشمولين بقانون العفو لعام 2016 (بلغ عددهم 9539 شخصا وفقا لأرقام وزارة العدل) تكشف أن القانون لم ينصف آلاف الأشخاص الأبرياء ممن اتهموا بقضايا إرهاب، سواء من خلال «المخبر السري» (في القانون العراقي يمكن للمخبر في الجرائم الماسة بأمن الدولة وجرائم التخريب الاقتصادي وغيرها أن يطلب عدم الكشف عن هويته وعدم اعتباره شاهدا بموجب المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، وعلى الرغم من أن القانون يقضي بضرورة التأكد من هوية المخبر لمعرفة إذا ما كان لديه عداء شخصي مع المتهم، أو مصلحة خاصة، إلا أن لا أحد يلتفت إلى ذلك عمليا) او من خلال اتهامات مباشرة، أومن خلال محاكمات صورية غير عادلة، سواء عبر الاستسهال المفرط في إصدار أوامر القبض، او عبر عدم التقيد بالأطر الدستورية والقانونية لمتعلقة بالاحتجاز او بالتحقيق، او الاعتماد على الاعترافات المنتزعة بالإكراه تحت التعذيب، او من خلال منع المتهمين من فرصة الدفاع الحقيقي عن أنفسهم!
وفي تقرير لبعثة الأمم المتحدة في العراق الصادر 2020 بعنوان «المحاكمات بموجب قوانين مكافحة الإرهاب والآثار المترتبة على العدالة والمساءلة والتماسك الاجتماعي في أعقاب مرحلة «داعش» عبّرت البعثة عن قلقها الشديد «من عدم احترام المعايير الأساسية للمحاكمة العادلة. وحذرت من أن عدم الامتثال للضمانات الإجرائية ومعايير المحاكمة العادلة قد يدفع إلى نشوء تظلمات جديدة، سواء كانت حقيقية أو منظورة، وإلى الإبقاء على العوامل المحركة للنزاعات، كالتمييز الهيكلي وغياب العدالة والإفلات من العقاب، الأمر الذي سبق أن جعل بعض الأفراد يختارون خيار العنف ومكّن داعش من إيجاد دعم له في العراق!
قانون العفو العام في العراق مطلبٌ فئوي عاجز عن إنصاف المظلومين الحقيقيين، وتحول إلى مجرد فرصة لوقف العقوبة ضد متهمين ومحكومين جنائيين وفاسدين كبار، لا يلتفت إلى معضلة المحاكمات غير العادلة وسبل وقفها، وتحول إلى أداة سياسية للابتزاز والابتزاز المضاد، لذلك فإننا دائما ما نقول إن الأزمة في العراق إنما تتعلق بالدولة وليس بمشكلة تشريع القوانين نفسها!
كاتب عراقي