يحيي حسين عبدالهادي : معجزة مهاتير الحقيقية

profile
  • clock 1 يونيو 2021, 3:42:46 ص
  • eye 620
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

فى رأيى أن معجزة مهاتير محمد لم تكن هى تحويل ماليزيا فى أقل من ربع قرنٍ من دولةٍ زراعيةٍ متخلفة تعتمد على مُنتَجٍ واحدٍ (المطاط) وأكثر من نصف سكانها (52%) تحت خط الفقر إلى مجتمعٍ صناعىٍ متقدمٍ تَضاعف متوسط دخل الفرد فيه سبع مراتٍ (8862 دولاراً) وانخفضت نسبة من هم دون خط الفقر عشر مرات لتصل إلى 5% فقط .. فقد تحقق مثل هذا الإنجاز على أيدى آخرين فى مجتمعاتٍ أخرى وفى نفس الفترة الزمنية تقريباً … معجزة مهاتير الحقيقية أنه فعل ذلك فى بلدٍ متعدد الأعراق والأجناس والأديان، بينهم تاريخٌ من الصراعات والاحتقانات والمجازر والاضطرابات العرقية .. بينما ابتُلِيَت مجتمعاتٌ هى فى الأصل متجانسة بحكامٍ يؤسسون حكمهم على أعمدة الاحتقان والكراهية التى يتم تقويتها عن عمدٍ وتشطير مجتمعاتهم إلى ثنائيات الفتنة التى لا تنتهى .. مسلم ومسيحى .. عسكرى ومدنى .. سياديون وعامة .. شباب وشيوخ .. ينايريون ويونيويون .. معارضون خَوَنَةٌ وعملاء، ومؤيدون وطنيون وأنقياء .. لدرجة أنه عندما أعيتهم الحِيَل افتعلوا فتنة أبو تريكة وأبو مكة (لولا سُمُّوُ اللاعبيْن ورشادة الجمهور) .. إلخ

حضرتُ محاضرة هذا الزعيم الأسطورى فى مكتبة الإسكندرية سنة 2004 .. عَرَّفَ الرجلُ نفسه فى بداية المحاضرة بأنه مسلمٌ علمانى .. أُصِيبَ معظم من فى القاعة بالوجوم من هول المفاجأة .. إذ كيف يمكن أن يكون الرجلُ مسلماً وعلمانياً فى آنٍ واحدٍ .. ولولا أن الرجلَ تسبقه هالةُ إنجازاته لما استمرت المحاضرة .. بعد المحاضرة، اكتشفتُ أن الكثيرين (من ذوى المؤهلات العليا) يضعون مصطلحات العلمانية والليبرالية والمدنية والاشتراكية والناصرية (وكل ما ينتهى بالياء والتاء المربوطة) فى سَلَّةٍ واحدةٍ عنوانها الكُفْرُ والإلحاد والزندقة .. كان ذلك من آثار الزحف الوهابى على بلد الأزهر .. عرفنا بعد ذلك كيف أن هذا التعريف البسيط (مسلم علمانى) كان مفتاح نجاح تجربة هذا الرجل .. هو مسلمٌ شديد التَدَّيُن على المستوى الشخصى بلا رياءٍ ولا دروشة .. لكنه علمانىٌ كحاكم .. بمعنى أن الدولة تحت قيادته تقف على نفس المسافة من مواطنيها .. أيَّاً كانت ديانتهم (إسلام أو بوذية أو مسيحية) .. أو عِرقُهم (صينيون أو هنود أو ملايو) .. أو وظيفتهم (ضباط أو قضاة .. أو جامعو قمامة) .. دولة المواطَنَة .. الدولة العادلة .. بعد ذلك كان طبيعياً أن يتحقق الإنجاز .. فكتالوج التقدم واحدٌ .. بدأ بالتَعَّلُم فالتعليم .. لم يَدَّعِ هذا الطبيب (وهو طبيبٌ فعلاً) أنه طبيب الفلاسفة أو أنه يتلقى الإلهام من السماء (ففهمناها سليمان) .. وإنما دَرَسَ بتواضعٍ كيف نجحت سنغافورة الصغيرة اقتداءً باليابان .. وكَّوَن مع مستشاريه ووزرائه أول حلقة جودة .. كانوا يجلسون معاً للعصف الذهنى وتحديد الأولويات واقتراح الحلول .. وبعدها أصبحت هذه الحلقات أسلوب حياةٍ فى البلد كله .. معجزة مهاتير أنه وَحَّدَ شعباً مُفتَتاً .. بينما يُفتتُ غيرُه شعباً مُوَّحَدَاً .. نجح مهاتير ومعه ماليزيا لأنه ببساطةٍ كان رئيساً صادقاً .. عُقبَى لنا.


نشر بجريدة (المشهد- 29 مايو 2018).

التعليقات (0)