- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
“تجمع أمهات الشهداء”.. “كتيبة” تتحرك على امتداد الوطن وبلسم يداوي الجراح
“تجمع أمهات الشهداء”.. “كتيبة” تتحرك على امتداد الوطن وبلسم يداوي الجراح
- 27 أكتوبر 2022, 9:25:59 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
نابلس- جنين- “القدس العربي”: تدخل الأم الفلسطينية وفاء جرار، زوجة المعتقل في سجون الاحتلال عبد الجبار جرار، إلى منزل والدة الشهيد الطبيب عبد الله أبو التين المكتظ بالنساء المعزيات، تُقبل أم الشهيد التي تجلس على أريكة، وقد بدا أن التعب ووجع الفقد قد نالا منها، ومن ثم تقف جانبا مفسحة الطريق لبقية أمهات شهداء محافظة جنين للدخول وتقديم واجب العزاء.
تدخل الأمهات المكلومات جماعيا، خلف بعضهن البعض، يرتدين اللباس الأسود الطويل، فيما تتزين صدورهن بقلائد محلية الصنع عليها صور أبنائهن الراحلين حديثا، وتبدأ زوجة المعتقل عبد الجبار جرار، وهو قيادي محسوب على حركة “حماس”، بذكر اسم أم الشهيد التي تدخل بعدها، فتقول: “جئناك معزين ومهنئين باسم أمهات شهداء محافظة جنين”.
ومن ثم تبدأ بعدها وفاء جرار بسرد أسماء الأمهات القادمات، واللواتي أصبحن يشكلن تجمعاً سياسياً واجتماعياً من دون أن يعبّرن عن تنظيم سياسي بعينه، فهن خليط يمثل أمهات الشهداء الذين سقطوا خلال العامين المنصرمين.
تقوم جرار، إلى جانب التنسيق والقيادة، بمهمة تعريف أم الشهيد الجديدة ذات الجرح الطازج بأمهات الشهداء اللواتي سبقنها في تجربة الفقد: “أم الشهيد صائب عباهرة، أم الشهيد عبد الله الحصري من مخيم جنين، أم الشهيد ليث أبو سرور، أم الشهيد البطل لطفي اللبدي من اليامون.. أم الشهيد الطفل يوسف صبح من برقين، أم الشهيد رائد أبو سيف من جنين.. أم الشهيد ضياء حمارشة من يعبد”. والقائمة تطول حيث وصل مجموع الأمهات اللواتي انخرطن طوعيا في هذه المجموعة ما يقرب على الثلاثين.
وبحسب أحد النشطاء المقربين من هذا التجمع، فإنه تشكل قبل عام تقريبا، حيث بدأ بخمس أمهات قررن التحرك جماعيا في سبيل إنجاز مهمة تبلورت مع الأيام وامتدت إلى تجمعات لأمهات الشهداء في نابلس ورام الله أيضا.
تصبير أنفسهن
وبحسب والدة الشهيد أحمد نصر جرار، فإن ذهاب الأمهات لزيارة أمهات أخريات وتقديم واجب العزاء لهن تعبير عن أن الجرح واحد، “وأن الناس تقوم بعملية تصبير بعضها البعض”.
وتضيف، في حديث خاص لـ”القدس العربي”: “عندما ترى أم الشهيد أمهات أخريات فإن ذلك يمنحها الصبر والثبات، ستشعر أنها مش لوحدها، ونحن نوفر لها الدعم، إلى جانب أننا نحصل على الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى”.
وتؤكد أن البداية كانت على شكل فردي، “كنا نطلع على بيوت أجر الشهداء كل أم شهيد لحالها، بعدين صرنا نتجمع مع بعض ونحكي يالله بدنا نروح ونشجع بعضنا البعض، وفعلا أصبحنا تجمعاً”.
وترى أم نصر جرار، وهي زوجة لشهيد قبل 16 عاما، فيما استشهد ابنها عام 2018 بعد تنفيذه عملية بطولية، أن أمهات الشهداء في الزيارات الجماعية يمنحن الأم التي ما زال ألم فقدها جديداً نوعاً من الإنعاش وتخفيف الألم.
ويصف ناشط فلسطيني هذه الفعل بـ “زيارة البلسم التي يمنحها المجتمع لبعضه البعض”.
تضيف جرار: “نقول لها اضحكي يا فلانة أنت أم الشهيد البطل.. فنشعر بها، وبتغير حالها، وانتعاشها بشكل لحظي، كما أن أم الشهيد تشعر أنها ليست وحيدة”.
وتؤكد أن كل كلمة قادرة على منح الصبر: “الحمد لله.. مصابنا واحد، وإن شاء الله ربنا بصبر كل أمهات الشهداء”.
وتتنوع مظاهر المواساة التي تجود بها الأمهات اللواتي يتوشحن الأسود غالبا، فمنهن من تقبل الأم المكلومة، فيما أخرى تقبل يدها، وفيما ثالثة تقبل رأسها، ورابعة تقوم باحتضان دافئ. غير أن المواساة التي يظهرها كثير من الفيديوهات التي توثق لحظات دخول أمهات الشهداء على أمهات أخريات تلك التي تكون على شكل وشوشة في الأذن، حيث يحار المراقب في طبيعة الكلمات التي تقوم أم شهيد ببثتها في أذن أم شهيد موجوعة من دون أن يسمعها أحد.
ويبدو التجمع الجديد، الذي يكبر مع إيقاع الميدان الدموي في مدينتي نابلس وجنين، مرتاحاً لفكرة تجاوزه للتصنيف الفصائلي، تماما كما هو حال الهبّة النضالية الحالية، وهن (أي الأمهات) يكبر معهن الرفض في أن تمثلهن راية حزبية.
ورفض التجمع الوليد الانتماء إلى أي من التجمعات التي تتبع منظمة التحرير الفلسطينية، إنهن أشبه بحركة نسوية فلسطينية جديدة تقوم على الدعم والمؤازرة وتصبير الأمهات.
وتؤكد إحدى الأمهات أنهن يخرجن من المنازل لمساندة بعضهن البعض بدلاً من البقاء في الغرف المغلقة مع كل تبعات مشاعر الفقد ورحيل الأحبة.
وكانت بدايات مشاركة التجمع تقتصر على حدود محافظة جنين، لكنها اليوم امتدت إلى مساحات أوسع حيث وصلت مشاركتهن نابلس ورام الله، فيما يخططن للذهاب إلى مخيم شعفاط بحسب مصدر مقرب من الأمهات.
وتجاوز التجمع دوره التقليدي في تضميد جراح الأمهات في اللحظة التي صرح فيها محافظ مدينة نابلس إبراهيم رمضان التصريح الذي أثار جدلا وغضبا من عموم فئات المجتمع الفلسطيني، وتحديدا عندما وصف أمهات الشهداء بـ”الشاذات” لكونهن يدفعن بأبنائهن للموت.
وجاء في تصريحات رمضان عبر إذاعة محلية: “إن الأم هي من تظهر الحنان والعطف، لكن هنالك أمهات شاذات ترسل ابنها للانتحار، وتظهر للآخرين أنها المناضلة، هذه ليست أمّاً”.
وشارك تجمع أمهات الشهداء في جنين، وتجمع مماثل في نابلس، في وقفة رافضة ومنددة بتصريحات المحافظ رمضان ورفعن شعار إقالته من منصبه.
ووصفن، في بيانات سياسية وحزبية، بأنهن “صانعات الكرامة”، فيما وصف نشطاء هذا النوع من التجمعات الجديدة بأنهن عبارة عن “كتيبة من أمهات الشهداء”.
والقضية التي تشغل بال الأمهات في جنين هذه الأيام التخطيط لزيارة مدينة نابلس المحاصرة، بعد أن فقدت قبل أيام 5 شهداء في اقتحام احتلالي موسع للمدينة.
وبحسب ناشط مقرب من التجمع فإن الأمهات كن في بداية نشاطهن يستخدمن السيارات الخاصة، لكن بعد أن تضاعف عددهن أصبحن يلجأن إلى استئجار حافلة صغيرة، ويقمن بتقاسم تكاليف ذلك.
يحق لنا أن نفتخر
في زيارة تجمع أمهات الشهداء في محافظة جنين لبيت عزاء أحد الشهداء في بلدة كفردان، غرب مدينة جنين، وقفت المنسقة وفاء جرار تتحدث عن أمهات الشهداء، ومما قالت إنه يحق لنا أن نفخر بمن فقدنا، فهؤلاء سقطوا مقبلين غير مدبرين، وكل أفعالهم بطولة.
وبصوت قوي مليء بالدفء ذكرت مناقب الشهداء وتجاربهن، تحقيقاً للمثل الشعبي الذي يقول: “من يرى هم غيره يهون همّه”.
أما والدة الشهيد الطفل يوسف صبيح، من بلدة برقين غرب جنين، فتستغل تجمع النساء المعزيات من كل الأعمار وتقول بصوت مليء بالحرقة: “لا بدنا تكريم ولا صور، بدنا نكون يد واحدة، بدنا نكون صف واحد، اليهود لم يقهرونا بقتل أبنائنا بل قهرونا باحتجاز جثامين ولادنا”.
وتتابع، ويبدو أن وشاحا يلتف حول رقبتها مكتوب عليه اسم ابنها الشهيد ذي الـ15 عاماً: “المطلوب أن يقف المسؤولون معنا، وأن نكون يدا واحدة. فالوجع الذي تعيشه أم الشهيد، المحتجز جثمانه، أكبر وجع يمكن لها أن تعيشه.. صحيح أننا على يقين أن أبناءنا في الفردوس العالي، لكني أريد جثمان ابني”.
وبعد كل زيارة تقوم وفاء جرار بما يشبه وضع نهاية لها، عبر الكثير من الدعاء، وتؤكد: “جئنا نشارككم كأس المرارة الصعب. هؤلاء الأمهات عشن التجربة الصعبة، ولكنهن مدعاة للفخر والشرف والكرامة”.
ويرى ناشط فلسطيني مقرب من الأمهات أن فكرة التحرك الجماعي في طول الوطن وعرضه تستحق الاهتمام كونها تتجاوز المحلية إلى مساحة الوطن كله، كما أن هذا التجمع يمكن أن يتطور ليكون معبّراً عن معاناة الأمهات وطرق معالجتهن لأنفسهن بعد غياب فلذات أكبادهن، يمكن لهن أن ينظمن مسيرات ومظاهرات لإبقاء قضية النضال حية ولا تقتصر على أبنائهن الراحلين.
ويلاحظ أن أعمار أمهات الشهداء تتراوح ما بين 35 عاما و60 عاما، فيما انضمت إليهن حديثا أمهات شهداء سقطوا قبل سنوات، حيث يجمعهن الوجع وألم الفرق والرغبة في إنجاز مهمة وطنية في ظل تضحيات أبنائهن.
وتقول إحدى النسوة: “وحدهن يعرفن عمق الوجع، وقيمة المواساة لكونهن صاحبات التجربة”.
يذكر أن يوم، أمس الأربعاء، الموافق السادس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر، صادف اليوم الوطني للمرأة الفلسطينية، الذي أقره مجلس الوزراء بتاريخ 17 تموز / يوليو 2019. حيث جاء القرار في إطار خطة الحكومة الفلسطينية وقيادتها السياسية بالعمل على تمكين المرأة الفلسطينية وتعزيز دورها، على المستوى الوطني. وبحسب وزارة شؤون المرأة فإن اعتماد هذا التاريخ جاء لدلالات قيمة وعريقة بمسيرة المرأة الفلسطينية وكفاحها؛ حيث عُقد في مثل هذا اليوم أول مؤتمر نسائي فلسطيني في مدينة القدس عام 1929، بحضور أكثر من 300 سيدة. وقد شهد العام 1929 بداية مشاركة المرأة الفلسطينية الفعلية في العمل السياسي بشكل منظم، إثر تصاعد أحداث ثورة البراق، وانتشارها في جميع أنحاء فلسطين، والتي ارتقت فيها 9 شهيدات.
يعلق الناشط قائلا: “إنهن لا يعرفن اليوم الوطني الفلسطيني، كما أن الجهات الرسمية لا تعرفهن أيضا، كل هم بعض الأطراف أن يتحركن تحت مظلة حزبية، أو أن يبقى التجمع تحت جناح الأجهزة الأمنية، هذا منطق النظر إليهن، وليس دعمهن وتحويلهن إلى ظاهرة قوية”.
وبارتقاء الشهداء الستة قبل يومين في نابلس ورام الله ترتفع حصيلة الشهداء منذ مطلع العام الجاري إلى 183 شهيدا، بينهم 51 شهيدا في قطاع غزة، وهو ما يعني المزيد من أمهات الشهداء اللواتي يسطرن نموذجا للتضحية والعمل الوطني أيضا من دون صخب.