- ℃ 11 تركيا
- 24 نوفمبر 2024
أحمد طالب الأشقر يكتب: زلزال تركيا وسوريا .. كارثة "رحمة أم عذاب" !
أحمد طالب الأشقر يكتب: زلزال تركيا وسوريا .. كارثة "رحمة أم عذاب" !
- 18 فبراير 2023, 12:27:37 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
جاء هذا الزلزال كأقسى كارثة، اتفق علماء الجيولوجية على أنه فاق كل الكوارث في المنطقة وفي أوروبا منذ عقود، وأنه فاصلة فارقة بين زمنين، وتاريخٌ يُدوِّن ماقبله خلاف مابعده، حيث بلغ عدد ضحاياه إلى تاريخه قرابة ( 40 ألف) إنسان، ويُتوقع أن يتضاعف هذا الرقم بعد انجلاء الغبار واتضاح الصورة؛ هذا في تركيا وحدها عدا عن الخسائر في الجانب السوري والتي بلغت قرابة خمسة آلآف شهيد وعشرات آلآف الجرحى والمصابين والمنكوبين.
من خلال متابعتي لتوثيق الإعلام نتائج الكارثة وشهادات الناجين، وكوني ايضاً أحد الناجين أنا وعائلتي، وحيث إقامتي في إحدى الولايات العشرة المنكوبة، يتّضح أنّنا أمام كارثة ومصاب جلل يحمل بين ركامه مأساة إنسانية حقيقية.
لن أتحدث عن الخسائر الفادحة في الاقتصاد والبنى التحتية والفوقية، من مصانع ومحطات توليد وتوزيع الطاقة والمناطق السكنية والمواقع الأثرية، مروراً بشبكات الطرق و المياه والانترنت وغيرها، فهذا ماتقوم الدولة بإحصائه وتقديره ونشره للرأي العام أولاً بأول؛ بل سأتحدث عن جانب إنساني، ربما سبقني إليه العديد من الكتّاب والنشطاء، وقامت الصور الفيديوهات بإيصاله للعالم بشكل لاتستطيعه الأقلام ولا تعبر عنه عبارات الرثاء ولاتسعفه قواميس اللغة.
لن أنسى صور الأطفال الذين اُنقِذوا بعيداً عن ذويهم وتم اجلاؤهم إلى ولايات أخرى، لن أنسى لقاء ذاك الطفل بأبيه بعد أن فرّقهم الليل والبرد والحطام .. لن أنسى ولن ننسى حين تحولت حسابات الأصدقاء على وسائل التواصل الإجتماعي إلى وسيلة للنعي " بـ الجملة " لأصدقاء وزملاء وأعزّاء.
يقول أحدهم لصديقه وهو ينعيه، ناشراً صورة من محادثة بينهما في ذات الليلة قُبيل الكارثة "ألم نتفق على أن نلتقي غداً أو بعد غد، لِمَ رحلتَ دون أن تودعني"، وآخر ينعي ابنه الذي فقده "يابابا كنت مجهز حالك مشان المدرسة فرحان بشطنتك وتياباك الجدد، وماكنت قادر تنام، وكأنك كنت حاسس بموتك ياحبيبي، الله يرحمك يابابا ويصبرني على فراقك".
والثالثة تنعي صديقتها "وين رحتي يارفيقتي وأنا ماعندي أخت غيرك، عزمتيني كم مرة وأنا كنت عم اجّل فيكِ و أعتذر منك بحجة إني مشغولة والله أنا كنت مشغولة، كنت قول يالله اخلص شغلي مشان اتفضالك ونقعد براحتنا ومافي شي يشغل بالي وأنا عندك".
وعن أخت تزفُّ اخاها عريساً إلى "الجنة"، و قد بقي على موعد زفافه عدة أيام "الله يتقبلك ياخيي ويرضى عنك ومايحرمك من نعيمو الله يرحمك ياخيي ويغفر الك ياوحيدي".
تمتلئ الذاكرة بمئات القصص وكأننا أمام لوحة للفناء البشري، مشهدٌ من مشاهد يوم قيامةٍ مصغّرة، صور تراجيديا العبور الأخير إلى الحياة الآخرة، ترى الناس فيها سكارى وماهم بسكارى .. كابرتُ كثيراً ولم أبح، جاهدتُ دمعتي أن تسقط، نجحت مراراً في منع نفسي من الإنهيار، وفشلتُ في أخرى، واستسلمت أخيراً لسيلٍ من الدمع والحزن والأنين.
أتساءل منذُ بداية الكارثة وتكشّف صورها، لماذا يعذّبُ الله الناس وهو الغني عن عذابهم، لماذا يُيتّيم طفلاً ليبقى وحيداً دون أهل، أو لتحتضنهُ أماً غير أمهِ بعيداً عن أبيه أو أخوته، ايضاً لماذا تموت العجائز وهنَّ بركة المنزل، وتموت ايضاً الحوامل وفي أحشائهنّ أجنّة لاذنب لهم، ولما يموت الشيوخ الكبار بهذه الخاتمة !
تساؤلات كثيرة راودتني، وقاومتها كمسلم يؤمن بالله و بالقضاء والقدر خيره وشرّه، إلّا أنّ النفس ضعيفة لاتستطيع أن تعي وتستوعب هول الكارثة، فتضيع في سرداب الضعف البشري تارة، وفي عظيم حكمة الله تارةً أخرى.
فهل هذا الزلزال "رحمة أم عذاب" ؟!
هنا لن أتحدث من منطلق ديني وعظي، بل من منظور سلوكي و قيمي لا شك أنّ المصائب توحد الفرقاء وتجمع الشتيتين، وترقق القلوب والأفئدة، ففي الفترة ماقبل الزلزال كانت العنصرية من أشد الكوابيس التي تلاحق اللاجئين في تركيا في منامهم ويقظتهم، في حين أنّ الكارثة لم تفرّق بين أحد فقد سلّطت عنفوانها على الجميع سواسية، لانقول أنها دفنت العنصرية تحت ركام الأبنية والأنقاض، لكنها قدمت خدمة جليّة لهذا المجتمع ليستيقظ من سباته وغفلته، ولينفض عن كاهله قيم الجاهلية الاولى فلا فرق بين عربي وأعجمي هذا ديناً، ولا فرق بين مواطن ولاجئ وهذا عرفاً قانونياً دولي.
لقد تحركت المؤسسات العربية وجميع الأفراد على قلب رجل واحد مع إخوتهم الأتراك للتخفيف من آثار كارثة الزلزال؛ فـ هاهي فرق المتطوعين الشباب تنحدر كالسيل من ولايات مختلفة إلى مناطق الكارثة، الأمر الذي لفت نظر المجتمع التركي من مسؤولين ووسائل إعلام وفرق انقاذ وشرطة وجيش، وبدأوا يوثّقون فزعة هؤلاء لإخوانهم ولاقت هذه الفيديوهات انتشاراً ورواجاً واسعاً وأصبحت حديث الناشطين ورواد منصّات التواصل الاجتماعي.
ظهرت بشكل جلي مراجعات ايجابية تطفو على السطح بين الأتراك؛ كيف كانوا يتغاضون عن سلوكيات الكثير من العنصريين وكيف سمحوا لهم بالتكاثر على غفلةٍ واهمالٍ منهم؛ مالبثت أن تطوّرت لمطالبات بمحاسبتهم ووضع قيود على تصريحاتهم وتصرفاتهم المسيئة.
ايضاً على الجانب الآخر من الكارثة - في سوريا - وتحديداً في الشمال، بعدما تأخرت الإستجابة الطارئة لتداعيات الزلزال، مع الشعور بالعجز والخذلان من قبل المجتمع الدولي، هبّ السوريون يلبون النداء - منقذين ومسعفين - وأطبّاء وغيرهم، مقدمين مايملكون بحسب مقدرتهم .. تَبِع ذلك فزعات عشائر شرق سورية، في مشهد من التكافل والتعاضد منقطع النظير، وليس انتهاءً بحملات التبرع التي بدأها ناشـطون على وسائل التواصل الاجتماعي تنقّلت بين تركيا وأوروبا والخليج ودول أخرى.
ختاماً، ليست وظيفتنا تصنيف المصائب والكوارث بين كونها عقاب وحساب ووعيد، أو تقسيم الناس بين مخطئ ومصيب وعاصٍ فهذا الأمر كله لله ولن نكون الأوصياء على أحد، ولكن تعاطفنا مع مصاب الآخرين، أحيا قلوبنا بعد أن كادت تموت، وفرقة كادت أن تضيّعنا؛ وإن لم تكن للكارثة وحجمها وهولها غير ما رأيناه من تعاطف جماعي، فكفى به ثمرة نتقاسمها.