ابراهيم نوار يكتب: القوة الاقتصادية للصين والانقلاب الجيوستراتيجي العالمي

profile
  • clock 26 أبريل 2023, 2:46:30 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

أصبح اليوان الصيني حديث العالم خلال الأشهر الأخيرة، بعد أن تضاعف نصيبه من احتياطي النقد الأجنبي لدى البنوك المركزية في العالم، وقفزت حصته من التحويلات المالية الدولية عبر نظام «سويف» من أقل من 2 في المئة إلى ما يقرب 5 في المئة خلال 12 شهرا، فأصبح يطارد اليورو، الذي يستحوذ على 6 في المئة من المعاملات عبر «سويفت». ومع أن الدولار ما يزال حتى الآن العملة المهيمنة على النظام النقدي الدولي بنسبة 58.3 في المئة من احتياطي العملات لدى البنوك المركزية، وأكثر من 80 في المئة من التحويلات المالية عبر نظام «سويفت»، فإن المعدل السريع لصعود اليوان، وتوقعات استمراره يسبب قلقا كبيرا للولايات المتحدة، كما يرتبط مباشرة بمقومات الاستقرار النقدي والمالي لكل دول العالم.

تنافس على مستوى تكتلات

ونظرا لأن كلا من الصين والولايات المتحدة تعتبر أن حسم هذا التنافس لن يتم في إطار ثنائي فقط، فإن كلا منهما تسعى إلى تشكيل كتلة عالمية تواجه الكتلة الأخرى. الولايات المتحدة تعتمد جيوستراتيجيا على حلف الأطلنطي، ومجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى، والاتحاد الأوروبي. في حين أن الصين التي لم تبدأ انفتاحها على العالم إلا في السنوات الأربعين الأخيرة، ولم يتحول انفتاحها إلى مشروع عالمي إلا في عام 2013، أي منذ 10 سنوات فقط، مع إطلاق مبادرة «الطوق والطريق»، تعتمد على مجموعة بريكس التي تعتبر بمثابة التحالف العالمي لقوى الجنوب الرئيسية (الصين وروسيا والهند وجنوب افريقيا والبرازيل)، والدول ذات الطموح للانضمام إلى هذه المجموعة مثل إيران والسعودية والأرجنتين ومصر والجزائر. وبعد أن استطاعت الدبلوماسية الصينية أن تحقق اختراقا مثيرا في الشرق الأوسط في الشهر الماضي، بوساطتها التاريخية لإقامة وفاق عربي – إيراني، فإن المقابل الإقتصادي لهذا الاختراق يمنح اليوان قوة دفع إضافية، بمحرك القوة الاقتصادية الرئيسي للشرق الأوسط المتمثل في البترول. وقد لاحظ خبراء الاقتصاد في الصين أن إستراتيجية تقوية نفوذ اليوان وتوسيع نطاق تداوله في العالم، شهدت تحولا كبيرا في الأشهر الأخيرة، مقارنة بما كانت عليه منذ عام 2016. وطبقا لدراسة أصدرها تشانغ مينغ نائب مدير قسم التمويل الدولي في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، فإن بنك الشعب الصيني (البنك المركزي) يستخدم استراتيجية جديدة لتعزيز الحضور الدولي لليوان، اعتبارا من بداية عام 2022. وقال مينغ في دراسته إن الاستراتيجية الجديدة تقوم على أساس الدفع في اتجاه توسيع نطاق استخدام اليوان، في تسوية عقود تجارة المواد الأولية عبر الحدود، وفتح قنوات عالمية للوصول إلى المشتقات المالية باليوان داخل الصين وخارجها. وكانت الاستراتيجية السابقة تقوم على أساس الدفع في اتجاه تسعير النفط والغاز باليوان، وفتح قنوات للمستثمرين الأجانب لتسهيل اكتتابهم في شراء الأوراق المالية المصدرة داخل الصين. وتتجلى الاستراتيجية الجديدة في عقد صفقات مع دول كبرى منتجة للمواد الأولية مثل البرازيل وجنوب افريقيا وإيران وروسيا بالعملات المحلية وليس بالدولار. وإذا سلمنا بما قاله مينغ فإن دول منطقة الشرق الأوسط ستلعب دورا محوريا في تقرير مصير اليوان كعملة دولية رئيسية، من خلال تسوية مدفوعات النفط والغاز باليوان. وكانت الصين تعمل من قبل على إقامة بنية أساسية لتسعير النفط باليوان في سوق شنغهاي للنفط والمواد الأولية، لكنها اكتشفت أن تسوية عقود تجارة النفط والمواد الأولية باليوان أهم وأكثر فاعلية من تسعيرها بالعملة الصينية في سوق شنغهاي أو غيرها، لأن التسعير باليوان ليس ضمانا لاستخدامه في المدفوعات.

الصين تعمل على مهل وفي ثقة من أجل تعزيز مصادر قوتها، وإقامة الدفاعات القوية اللازمة لتجنب مخاطر التقلبات الجيوسياسية والاقتصادية في آن واحد

دور حيوي للشرق الأوسط

وقد أتاحت الاستراتيجية الجديدة متنفسا لدول الشرق الأوسط وافريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية المنتجة للمواد الأولية، فرصة للتخلص من هيمنة الدولار تدريجيا، ومن تكلفته المرتفعة اقتصاديا، ومخاطره المتوقعة أو المفاجئة سياسيا. وقد ارتفعت تكلفة التمويل بالدولار بمعدلات صاروخية في الآونة الأخيرة، مع رفع أسعار الفائدة 9 مرات متصلة مما يقرب من الصفر إلى ما يقرب من 5 في المئة، ما أدى لارتفاع تكلفة تمويل الواردات، وحدوث أزمات نقدية وتدهور لأسعار العملات المحلية في دول نامية مثل مصر بسبب شحة الدولار. ومع زيادة الاتجاه إلى تسوية عقود التجارة باستخدام العملات المحلية لدى دول ضخمة الحجم مثل الهند والبرازيل والسعودية والأرجنتين وجنوب افريقيا وروسيا، فإن نطاق هيمنة الدولار سينكمش، في حين سيكون المستفيد الأكبر هو اليوان. وستلعب منطقة الشرق الأوسط بوضعها الجيوستراتيجي والاقتصادي العالمي، دورا محوريا في تقليص الدور العالمي للدولار، خصوصا من خلال القبول بتسوية مدفوعات صادرات النفط باليوان.

بنية أساسية لليوان العالمي

وفي هذا السياق فإن السلطات النقدية في الصين تبذل مجهودا كبيرا في إقامة بنية أساسية تتمتع بالمرونة، والثقة، والفاعلية، من أجل تسوية المعاملات التجارية باليوان مقابل العملات المحلية للشركاء التجاريين، من دون الحاجة إلى استخدام الدولار كعملة وسيطة. ومن أهم مراكز تسوية المعاملات باليوان، التي تم إنشاؤها مؤخرا، مركز ريو دي جانيرو في البرازيل، من خلال فرع بنك الاتصالات الدولي الصيني، وثلاثة مراكز لافريقيا، تم إنشاؤها في جنوب افريقيا، وزامبيا، وموريشيوس. هذه المراكز لا تمارس دورها في إطار المعاملات الثنائية فقط بين الصين وكل دولة من الدول الثلاث، ولكنها تقوم بوظيفة إجراء تلك التسويات بين الصين ودول افريقية أخرى، وربما تمارس في المستقبل دورا في تنفيذ تسويات متعددة الأطراف.
ولا تقتصر مقومات البنية الأساسية لليوان كعملة عالمية على مجرد إقامة مراكز لتسوية المعاملات المالية والتجارية باليوان، وإنما تشمل مقومات قانونية ومؤسسية ونقدية وتكنولوجية، من شأنها أن تخلق بيئة مادية ومعنوية للثقة في العملة الصينية، وتوسيع نطاق انتشارها كعملة مقبولة لتسوية المعاملات عالميا. ومن هذه المقومات مساندة اليوان بغطاء ضخم من الذهب، وتوسيع نطاق استخدام اليوان الرقمي. تقدم الصين في ميدان استخدام اليوان الرقمي يتيح للسياح الصينيين استخدامه حول العالم من خلال المحافظ الإلكترونية على هواتفهم المحمولة. كما أن استخدام اليوان في إصدار القروض للدول النامية المشاركة في مبادرة «الطوق والطريق» يتيح خلق سوق ثانوية لتداول الديون الخارجية باليوان، وكذلك فإن إصدار أدوات تمويل عالمية باليوان يتيح للمستثمرين في كل دول العالم الاكتتاب في شراء وبيع الأوراق المالية الصينية، الأمر الذي يعزز سوق تداول اليوان كعملة استثمار عالمية، وليس كمجرد عملة لتسوية المبادلات التجارية. ومما يعزز ذلك الاتجاه حرص البنك المركزي الصيني على استقرار قيمة اليوان، وضمان الاستقرار السعري في الاقتصاد بشكل عام، وتجنب التغيرات المفاجئة والحادة، والامتناع عن السياسات التي تولد ضغوطا تضخمية. هذه السياسة تسهم الآن في وضع أساس قوي للثقة في اليوان كعملة دولية مستقرة ومضمونة. ويكفي هنا أن نقارن بين سياسات بنك الصين المركزي وسياسة مجلس الفيدرالي الأمريكي في مواجهة جائحة كورونا، وقد انتهت سياسة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى توليد قوة تضخم هائلة تفوق كل ما شهدته الأسواق العالمية منذ أزمة التضخم التي نتجت عن الصدمة النفطية الأولى في سبعينيات القرن الماضي، بينما حافظت الصين على معدل تضخم منخفض (في حدود 3 في المئة) مع قوة نمو موازية، رغم كل الظروف المعاكسة. ومن ثم فإن تجربة البنك المركزي الصيني الناجحة في تحقيق الاستقرار النقدي، كانت أهم اختبار للبنك في فترة ما بعد كورونا، وأحد أهم حوافز توسيع نطاق التعامل باليوان على المستوى العالمي، كما قال يي غانغ Yi Gang محافظ البنك المركزي الصيني في 6 من الشهر الحالي في كلمته أمام المؤتمر السنوي للجمعية الصينية للتمويل والمصارف. وفي سياق سياسة الانضباط المالي، حققت القوائم المالية للبنك المركزي الصيني معدل نمو سنوي بلغ 3 في المئة خلال السنوات الخمس الأخيرة، وهو معدل مثالي لتحقيق أكبر قدر ممكن من استقرار الأسعار طبقا لما قاله المحافظ.

ثقة واستقرار للمدى الطويل

الصين، في حقيقة الأمر، ليست في عجلة من أمرها في شأن الدفع باليوان ليصبح عملة دولية رئيسية ذات نفوذ متزايد، أو أن تصبح القوة الاقتصادية أو العسكرية الأولى في العالم. إنها تعمل على مهل وفي ثقة من أجل تعزيز مصادر قوتها، وإقامة الدفاعات القوية اللازمة لتجنب مخاطر التقلبات الجيوسياسية والاقتصادية في آن واحد. ويبدو أن الصين تعلمت دروس التجربة اليابانية اقتصاديا وماليا، وتحاول حماية اليوان من أي ضغوط أمريكية، كتلك التي تعرض لها الين الياباني في منتصف ثمانينيات القرن الماضي. كما تعلمت دروس التجربة الروسية عسكريا، وتحاول حماية قواتها المسلحة من خطورة الانزلاق إلى معارك تستنزف قوتها، كما حدث للاتحاد السوفييتي في أفغانستان، وكما يحدث لروسيا الآن في أوكرانيا.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
كلمات دليلية
التعليقات (0)